آخر تحديث :الاربعاء 08 يناير 2025 - الساعة:21:08:34
درس في أنثربولوجيا العنف والثأر
د. قاسم المحبشي

الاربعاء 00 يناير 0000 - الساعة:00:00:00

(إن الثأر الوحيد المُقّنع أمام الدم المراق ، إنما يكمن في إراقة دم المجرم ) رينيه جيرار

. لاريب إن ظاهرة العنف كمؤسسة تاريخية تضرب بجذورها في الأعماق البعيدة لكينونة المجتمع البشري عامة ومجتمعنا العربي الإسلامية تحديداً، إذ لا يزال العنف يمتلك حضورا طاغيا وعنيفا في حياتنا الراهنة وهذا ما نلاحظه كل يوم من احداث فضيعة ، قتل واغتصاب واختطاف وسطو وسرقة ونهب وخصومات وضغائن وانتقام ….. الخ .
وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف يعد أخطرها على الإطلاق ، ذلك لإن (الثأر الحر ) يشكّل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة ، من ديمومة العنف والعنف المضاد؛ ففي كل مرة ينبثق منها من نقطة ما في الجماعة مهما تكن صغيرة ، يميل الى الاتساع والانتشار ( كالنار في الهشيم ) الى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي ، ويهدد وجوده بالخطر. وهذا ما نراه في ماسأتنا اليوم، إذ إن أقل عنف يمكن أن يدفع الى تصاعد كارثي لا سيما في مجتمعنا المساواتي وفِي ظل غياب الدولة والمؤسسات العامة ، فنحن جميعا نعرف إن مشهد العنف له شيء من (العدوى ) ويكاد يستحيل احيانا الهروب من هذه العدوى ، فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح ، وعندما يصبح العنف ظاهرا ، يوجد إناس ينساقون اليه بعفوية وحماسة لاشعورية، ويوجد أخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكن هولاء المعارضون السلبيون هم ذاتهم غالبا الذين يتيحون له الفرصة والشيوع والهيمنة. ويشبه رينيه جيرار في كتابه المهم ( العنف المقدس ) يشبه العنف في المجتمعات التقليدية الثأرية كمجتمعنا الراهن ( باللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يُلقي عليه بهدف إطفائه).
إن التعاطي مع ظاهرة اجتماعية تاريخية وثقافية خطيرة مثل العنف والثأر دون البحث في ماهيتها وأسبابها ودوافعها ونتائجها هو عمل لايمكن الا أن يكون عقيم الثمار وجهداً ضائعاً 
بلا قيمة ولا اعتبار، فبدون تشخيص عميق للمرض والكشف عن أسبابه الحقيقية يستحيل علاجه ، كما إن الاكتفاء بخواطر المؤمن أمام احداث العنف والثأر والارهاب والاختطاف والإغتصاب أو الوقوف مذهولين بازاء رؤيتنا لها أو إعلان سخطنا وتبرمنا لا يغير من واقع الحال في شيء.
أن الثأر يا سادة ياكرام ليس بالأمر الهين الذي يمكن علاجه بمجرد تشكيل لجان صلح، بل هو مشكلة عسيرة ، وبنية معقدة التركيب ، وفي سبيل فهمه وتفكيك بنيته، لابد من تسليط الضوء والبحث العميق في البنية الثقافية الكلية لمجتمعنا التقليدي والشروط التي تجعل من هذا السلوك المدمر قابلاً للوجود والحضور والازدهار والسؤال هنا: ليس ماذا يفعل الناس ويقولون ويفكرون؟ بل هو لماذا يفعلون ما يفعلونه ويعتقدون ويقولون ما يقولونه في سياق ممارستهم اليومية الحي المباشرة الفورية؟! وذلك لان العنف والثأر يوجدان في صميم الطقوس والأساطير والقيم والمعتقدات التي تشكل حياة وسلوك الناس في بلادنا ذات البنية الاجتماعية القبلية ، فما هو الثأر ؟ وكيف يمكن لنا اجتثاث عروقه الشريرة ؟ يرى الباحث الأنثروبولوجي (( لويس مير )) إن للثار معاني متعددة أهمها : 
1. العداء الناجم عن اعتداء .
2. شعور المعتدى عليه بوجوب الثأر لنفسه .
3. شعور أفراد جماعة المعتدى عليه أن الاعتداء قد وقع على كل فرد من أفرادها ،لذلك يتوجب على كل فرد فيها أن يثأر لنفسه .
4. إمكانية تكرار الاعتداء باعتداء مقابل هذا معناه إن الثأر مرتبط ارتباطا حميما بالبينة الواقعية لحياة الإنسان في المجتمعات القرابية فالفرد في مجتمعنا لا يتمتع بشخصية فردية متميزة أو كيان شخصي قانوني مستقل ، بل يتصرف ويعمل وينظر أليه على إنه عضواً أو جزءاً من جماعة معينة سواء كانت هذه الجماعة قبيلة أو قرية أو منظمة سياسية الخ …. 
فالقاتل حين يقتل شخصا ما في مجتمعاتنا العربية التقليدية فإن عمله لا يعتبر جريمة في نظر المجتمع ككل ، بل جريمة موجهة إلى الوحدة الاجتماعية التي ينتمي أليها القتيل ، فلا ينصب الأهتمام أكثر ما يكون على المذنب وإنما على الضحايا الذين لم يثأر لهم .
وبالنتيجة فإنه للعمل على وقف الثأر كما للعمل على وقف الحرب لا يكفي إقناع الناس أن العنف كريه وخطير ومدمر ذلك لإنهم مقتنعون بأنهم يصنعون لانفسهم واجبا للثأر منه. إذ أن تضامن الجماعة هنا هو القانون الأعلى فما دام لا يوجد جهاز ذو سيادة ومستقل كي يحل محل المعتدى عليه وكي يوقف الثأر ، فإن خطر التصاعد اللامتناهي يستمر . ان الجهود لمعالجة الثأر وتحديده وايقافه تبقى وقتية وعابرة ، بدون نظام قضائي عادل يحتويه من جدوره وستمضي سنين طويلة قبل أن يكشف الناس إنه لا يوجد فارق بين مبدأ العدالة العامة والقضاء المستقل ومبدأ الثأر التقليدي الخاص. فالمبدأ هو نفسه النافذ في الحالتين؛ (مبدأ التبادل العنيف بين الجريمة والعقاب) كما يقول رينيه جيرار . وهذا المبدأ أما أن يكون عادلاً وتكون العدالة آنئذ مائلة في عقاب المجرم وأما أن لا توجد أي عدالة عامة وهنا يشبه الثأر العام الثأر الخاص ولكن يوجد فارق ضخم بين الثأرين على المستوى الاجتماعي : الثأر الذي لا ثأر له ، أي ثأر القضاء العادل وجهاز السلطة العام الذي يتكفل بآخذ القصاص العادل من المجرم فالعملية بذلك تنتهي ويسود الأمن والسلام ، وحينها يكون خطر التصعيد العنيف أسُتبعد الى الأبد . والثأر اللا متناهي هو الثأر التقليدي الخاص الذي يريد أن يكون انتقاما وكل انتقام يستدعي انتقامات جديدة ، ومضاعفة الانتقامات هي المغامرة المهلكة التي تهدد وجود وسلام واستقرار المجتمع كله ، ولهذا فان الثأر يشكّل في أي مكان من دول العالم المتحضر موضوع تحريم صارم جدا . 
هكذا إذا كان الثأر عملية لانهاية لها كما نعرف بالتجربة الحياتية فلا يمكن أن نطلب منه احتواء العنف ، وفي الحقيقة هو ما يجب احتواءه ، ولا توجد أي وسيلة ناجحة لذلك غير المؤسسة القضائية أي الدولة والقانون ، المتعارف عليها جميع المواطنيين الذين يخضعون للسلطتها بقناعتهم . 
أن النظام القضائي العادل ، لا يلغي الثأر بل يعقلنه ، فلا فرق بين نظام قضائي عادل ومبدأ الثأر فالإصرار على عقاب المجرم ليس له من معنى أخر غير الأخذ بالقصاص بحق الضحية من المجرم المذنب . 
فالسلطة القضائية التي وكلت من الجميع بشكل مطلق والتي ليست شيئا أخر سوى ذاتها ولاتعود إلى شخص ولا تنحاز إلى جماعة ، هي وحدها التي يجب أن تحتكر الثأر احتكارا مطلقا ، وهي وحدها القادرة على خنق الثأر ولجم شهوة العنف. فهل عرفنا ألان البؤرة التي تتطّلع منها رؤوس الأفاعي والشرور الاجتماعية و منها العنف الثأر والثأر المضاد؟ إنها العدالة الغائبة بسبب غياب الدولة والقانون. الم يحن الاوان لتفعيل عمل المؤسسات القضائية والأمنية وأعلى شأن القانون الذي يجب أن يكون سيد الجميع بلا استثناء وبلا قلب ولا عيون.

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص