آخر تحديث :الاربعاء 08 يناير 2025 - الساعة:21:31:34
تذكار محمود درويش في عدن!
د. قاسم المحبشي

الاربعاء 00 يناير 0000 - الساعة:00:00:00

 

(حينما يغرد الأدباء الشباب  خارج الاتحاد).

 

من أي الأبواب ينفتح الحضور عن الغياب؟! من أي النوافذ يمكننا أن نطل على ذكرى رحيل شاعر فلسطين العظيم محمود درويش، الذي جعل من  جسده النحيل وحرفه البهي شعلة دائمة التوهج والإشعاع في حلكة الظلام العربي؟. ثمة ملمح أسطوري في حضرة غياب الشاعر المشع محمود درويش الذي أسر القلوب والأذهان بسيل شعري دافق من النور والجمال العصي على النسيان والأهمال في ليل التاريخ وذاكرة الزمان، فإذا كان المرء يموت حينما يكف الناس عند تذكره! فهاهو نورس فلسطين الجميل يحلق بعد تسع سنوات من الرحيل في كل الفضاءات المتسامية.

حينما ولد الطفل الفلسطيني محمود درويش في 13 مارس 1941 في قرية البروة بالجليل قرب ساحل عكا، لم يكن يعلم ما كان يخبئه له القدر، ولم يكن يعلم بميلاده أحد غير والديه وذويه ولكنه أبى أن تمر حياته في هذه الأرض مرور الكرام، وأن يموت كما ولد كيفما اتفق وفِي أي مكان، بل جعل من فرصة وجوده رمزا أدبيا وثقافياً خالدا!

 

في تذكار الشاعر محمود درويش كنا عصر اليوم في أمسية أدبية وفنية رائعة نظمها شباب وشابات مبادرة آفاق الثقافية ومؤسسة أبجديات في كلية التربية، جامعة عدن قاعة الشاعر سليمان العيسى بمناسبة الذكرى التاسعة على وفاته في مثل هذا اليوم التاسع من أغسطس 2008م في الولايات المتحدة الأمريكية. رحمه الله منحه سكينة،  وحينما نشر الزميل العزيز الدكتور عبدالحكيم باقيس أستاذ الأدب والنقد العربي في جامعة عدن الإعلان عن فعالية (درويش في حضرة الغياب) في جروب نادي السر عدن قبل ليلتين أيقظني من سباتي العميق عن ذكرى رحيل الشاعر الذي أحبه حد الجنون، وأعشق قصائده منذ كنت طالباً في الثانوية العامة، إذ لازلت أتذكر قصيدته الحزينة (القتيل رقم ١٨) عن مذبحة دير ياسين، التي تحكي عن عريس يخاطب حبيبته ويعتذر منها عن التأخير جاء فيها:

لك مني كلّ شيء

لك ظل لك ضوء

خاتم العرس، و ما شئت

وحاكورة زيتون و تين

وسآتيك كما في كل ليلة

أدخل الشبّاك، في الحلم، و أرمي لك فله

 

لا تلمني إن تأخرت قليلا

إنهم قد أوقفوني

غابة الزيتون كانت دائما خضراء

كانت يا حبيبي

إن خمسين ضحيّة

جعلتها في الغروب ..

بركة حمراء.. خمسين ضحيّة

يا حبيبي.. لا تلمني..

قتلوني.. قتلوني..

قتلوني.

 

 ولم أنس ما حييت الأثر التي تركته في نفسي هذه القصيدة وجعلتني من حينها شديد التعلق بدرويش وشعره.

حرصت على حضور الفعالية بدوافع كثيرة أهمها على الإطلاق الاحتفاء الحزين بالرحل الجدير بالتذكر الدائم في ليلنا العربي الراهن، ولعلها من محاسن الصدف أن القاعة التي احتضنت الفعالية كانت هي ذاتها القاعة التي احتضنت اجتماع تأسيس جمعية الأدباء الشباب في كلية التربية (العليا) في منتصف ثمانينيات القرن الماضي،  وكنت أحدهم ولازلت محتفظاً ببطاقة عضوية هذه الجمعية، وهذا ما أثار أمواجا عاصفة من الذكريات الحميمة وانّا استمع الليلة لجيل جديد من اﻷدباء والأديبات الشباب والشابات الذين أمتعونا بقصائدهم ونصوصهم

القصصية الجميلة فضلا عن مقاطع من قصائد الراحل محمود درويش القاءها أستاذنا القدير الشاعر المبدع الدكتور أبوبكر الحامد، لقد أدهشني وجود هذا العدد الخصيب من الأصوات الأدبية الشابة الواعدة الذين يغردون شجونهم الأدبية الإبداعية خارج إطار اتحاد الأدباء والكتاب عدن، الذي بات يشكو من جفاف وتيبس إبداعي مؤسف، إذ لم أجد من الزملاء في الاتحاد الا الصديق الشاعر المبدع كمال اليماني الذي ألقى قصيدة رائعة . وكان الشاعر الفذ أسامة المحوري هو بطل الأمسية بلا منازع، وقد كانت كلمة مسك الختام للدكتور الناقد عبدالحكيم باقيس الذي اتفق مع ما قاله بشأن تقييمه للفاعلية بأنها كانت شهرزادية شهريارية بامتياز، إذ احتفى الشباب الذكور بقصائدهم الشعرية الجميلة في حين الأديبات الشابات فضلن قراءة النصوص القصصية. وقد سعدت بالاستماع إلى الشاعر بدر العربي الذي أهداني مشكورا  ديوان الشاعرة المبدعة عائشة المحرابي.

كانت أمسية جميلة تخللتها فقرات فنية بعزف موسيقى رائع فضلا عن لوحة لعرض صور الشاعر محمود درويش مشفوعة بمقاطع شعرية دالة ومعبرة.

وهكذا هو الشاعر محمود درويش بعد تسعة أعوام من الغياب ينبعث حاضرا في فضاء الإبداع في عدن وفِي كل مكان تقريباً من عالمنا المعاصر، إذ من المؤكد أن الفتى درويش كان قد أفزعه أن تنتهي حياته كما بدأت في أي مكان وكيفما اتفق، فغير بعبقريته كل شيء، مدركا أن ضربات السيف تذهب أما ضربات القلم فهي آثار خالدة، فصب رحيق حياته في حروف من النور، واستبدل ضجيجها كلمات لا تمحى، وأحل محل جسده الفاني أسلوباً يدل عليه وصوتاً يحمل اسمه، ومنح ذاته جسماً غير قابل للبلى والاهتراء، ذلك أنه كتب ليس لمجرد الرغبة في الكتابة، وإنما لينحت من المشاعر والأحاسيس والأفكار والكلمات سيموفنية المجد الرفيع هذا.

في ٩ اغسطس ٢٠٠٨م تتوهج روح محمود درويش وتنبعث منها عشرين فراشة هي دواوين قصائده التي ستخفق بأجنحتها الباذخة الجمال وتحلق في فضاءات الأدب والثقافة العالمية الإنسانية، وتطير وتهبط فوق رفوف المكتبات وفِي أروقة الجامعات والمدارس والمعاهد والمنازل والمعارض والمدونات،  وتلك الفراشات الورقية الطائرة هي محمود درويش الرمز الإبداعي الخالد الذي أبى أن يموت فأضحى آلاف الصفحات وملايين الحروف والأفكار المجنحة، إنه يولد من جديد ويصبح أخيراً إنساناً كاملاً متكلما مغنياً مزمجرا ًيؤكد حضوره الفاعل ضد جمود المادة القاسي، ومكر الزمن القاهر! وهو القائل:

 "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

ويحق لدرويش أن يفتخر بذاته اليوم في حضرة الغياب بلسان حال يقول: ها أنا معكم وفيكم وبينكم وليس ثمة من يستطيع نسياني ولا من يغرقني بالصمت، أنني رمز كبير والرموز خالدة لا تموت، فإذا كان صوتي غائباً، فقد تكفلت بي أصوات أخرى، فأنا في جميع الأفواه لغة عالمية، وأنا في ملايين القلوب والأذهان انتصب فضولاً قابلاً للاتساع، أنا لست موجوداً بعد في أي مكان، أني موجود أخيرا في كل مكان! ودمتم بخير وسلام.

 

ختاماً نغرد مع درويش من قصيدة : الآن في المنفى!

 

قُلْ للحياةِ، كما يليقُ بشاعرٍ متمرِّس:

سيري ببطء كالإناث الواثقات بسحرهنَّ

وكيدهنَّ. لكلِّ واحدةْ نداءُ ما خفيٌّ:

هَيْتَ لَكْ / ما أجملَكْ!

سيري ببطءٍ، يا حياةُ ، لكي أراك

بِكامل النُقصان حولي. كم نسيتُكِ في

خضمِّكِ باحثاً عنِّي وعنكِ. وكُلَّما أدركتُ

سرَاً منك قُلتِ بقسوةٍ: ما أّجهلَكْ!

قُلْ للغياب: نَقَصتني

وأنا حضرتُ ... لأُكملَكْ!

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص