- الكثيري يطّلع على التحضيرات الجارية لعقد مؤتمر عدن الأول لمكافحة الجريمة الإلكترونية
- شبوة تودع شهداء الكمين الإرهابي الغادر في جنازة رسمية مهيبة
- صحة بيئة المنصورة تتلف 3 طن من مواد غذائية متنوعة غير صالحة للاستهلاك
- الإعلان رسمياً عن تشغيل مطار عتق الدولي بدءاً من اليوم
- أسعار السمك اليوم الأربعاء في عدن 8 يناير 2025 م
- البحسني: حضرموت قاطرة النهضة والقلب النابض للوطن
- السفيرة البريطانية تكشف عن حدث دولي مرتقب بنيويورك بخصوص اليمن
- تزايد استهداف الحــوثيين لمدرسي الجامعات والأكاديميين في مناطق سيطرتهم
- أسعار صرف العملات الأجنبية صباح اليوم 8 يناير 2025
- أسعار الذهب اليوم الأربعاء 8-1-2025 في اليمن
ظل الغرب لقرون عدة مغرما بكل ما تعبر عنه المنطقة التي كانت تعرف باسم "بلاد ما بين النهرين". في السطور التالية يلقي أليستار سوك نظرة على حضارة هذه البقعة التي اقتُبِست منها غالبية جوانب ثقافتنا الحديثة.
"سمع الكل عن حدائق بابل المعلقة، وبرج بابل، ونبوخذ نصر، والطوفان. لذا تحظى منطقة 'بلاد ما بين النهرين' بشهرة أكثر مما يظن الناس"؛ هذا ما قالته آريان توما، المسؤولة بقسم آثار الشرق الأوسط في متحف اللوفر، عندما قابلتها في معرض جديد أقيم في مبنى تابعٍ لمتحف اللوفر بمدينة لانس بشمال فرنسا، بعيداً عن صرحه الشهير في باريس.
ويضم المعرض، الذي يحمل اسم "التاريخ يبدأ في بلاد ما بين النهرين" نحو 500 قطعة من المقتنيات، ويستعرض 3000 عام من تاريخ "بلاد ما بين النهرين" (وهي البقعة التي باتت غالبية أراضيها تقريباً تُعرف حالياً بالعراق)، وذلك بدءاً من اختراع الكتابة في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد، وانتهاءً بغزو الإسكندر الأكبر لبابل عام 331 قبل الميلاد أيضاً.
توجد بين جنبات المعرض الجديد العديد من القطع الأثرية التاريخية البديعة، والأعمال الفنية الرائعة، ومن بينها تمثالٌ من المرمر يعود إلى عام 2250 قبل الميلاد تقريباً. ويُصوّر مسؤولاً حليق الرأس ذا لحية، يجلس مرتدياً تنورةً متقنة من الصوف. وللتمثال عينان مذهلتان مُطعمتان باللازورد الأزرق.
وتختص القاعة الأولى في المعرض بـ"إعادة اكتشاف بلاد ما بين النهرين" في القرن التاسع عشر، أي بالحقبة التي بدأ فيها علماء الآثار عمليات التنقيب في منطقة الشرق الأوسط بهدف اكتشاف المزيد من التفاصيل عن الإمبراطوريتين الآشورية والبابلية اللتين شهدتهما تلك المنطقة في فترة متأخرة من تاريخها.
وفي تلك الفترة، كان ما يذكره الناس عن هاتين الإمبراطوريتين يرجع إلى ما ورد بشأنها من إشارات في الكتاب المقدس والمؤلفات والنصوص القديمة.
ولم تقتصر نتائج عمليات التنقيب هذه على تحديد موقع الحاضرة القديمة للدولة الأشورية في منطقة خورسباد، الواقعة على بعد بضعة أميال إلى الشمال الشرقي من مدينة الموصل شمالي العراق، بل تضمنت كذلك اكتشاف الحضارة المنسية للسومريين الذين هيمنوا يوماً على المناطق الجنوبية من هذا البلد.
وسرعان ما أذهلت منطقة "بلاد ما بين النهرين" وكل ما يحيط بها الغرب. وفي هذا الشأن، يقول بول كولينز من متحف أشموليان بمدينة أكسفورد البريطانية إن تلك البقعة "أسرت المخيلة الأوروبية، لأن الناس رأوا قوى استعمارية عُبِّر عنها في شكل تماثيل يمكن لهم التماهي معها".
وبحسب كولينز، الذي نُشر له الشهر الماضي كتابٌ بعنوان "الجبال والسهول: بلاد ما بين النهرين وإيران القديمة"، فإن ما عُثر عليه في بلاد ما بين النهرين "قدم كذلك المزيد من التفاصيل والتوضيحات عن عالم الكتاب المقدس، ولذا كان هناك شعورٌ بوجود عالمٍ غريب وغير مألوف، لكنه ينطوي في الوقت نفسه على تلك السمات الرئيسية التي كانت مألوفة المتمثلة في الإمبراطوريات والمدن والملوك".
وفي القاعة الثانية من معرض مدينة لانس؛ يُبث تسجيلٌ مصور يكشف عن مدى تغلغل ما يمكن أن نسميه "الهوس ببلاد ما بين النهرين" في ثقافتنا.
"أرض يابسة بين نهرين"
وبحلول القرن العشرين، أصبحت "بلاد ما بين النهرين" مصدر إلهام لأعمال كثيرين، بدءاً من الفنانين والمهندسين المعماريين (ولننظر مثلاً إلى الزخارف التي تزين ناطحًة سحاب تُعرف باسم "المبنى الفرنسي لفرد إف"، وهو صرحٌ صُمم على طراز "آرت ديكو" في نيويورك) وصولاً إلى المُعلنين ومخرجي الأفلام السينمائية.
يمكن أن نأخذ هنا في الاعتبار دور البطولة الذي مُنح في فيلم الرعب "طارد الأرواح الشريرة" عام 1973 لشخصية شيطانية تُدعى "بازوزو"، وهي شخصية مُستقاة من أساطير بلاد ما بين النهرين.
أما اليوم، فقد أدى نجاح لعبة فيديو "سفليزايشن" (الحضارة)، والمكانة المرموقة التي تحظى بها شخصية "بازوزو" في القصص المصورة التي تقدمها شركة "مارفل"، إلى إبقاء هذه المنطقة حية في الأذهان، وذلك عبر ذكرها أو ذكر أشياء متصلة بها في مضامين تندرج في إطار ما يُعرف بـ"الثقافة الشعبية".
وفي ظل غزارة المراجع التي تتحدث عن هذه المنطقة وحضاراتها، يبدو مغرياً للمرء التساؤل عما إذا كانت تلك الحضارات القديمة التي نشأت في منطقة واسعة المساحة، تشمل غالبية أنحاء العراق، وتضم كذلك أجزاء من سوريا، وتركيا، قد شكلت عالمنا على نحو جوهري أكبر مما نحسب.
وهو تكرارٌ على نحوٍ ما لسؤالٍ سبق وأن طرحته فرقة "مونتي بايثون" البريطانية للكوميديا العبثية بقولها "ماذا قدم لنا الرومان؟" ولكن مع جعل "بلاد ما بين النهرين" الفاعل في هذه المرة.
وقد تبين أن ما قدمته لنا حضارات هذه المنطقة كثيرٌ بحق. ولكن قبل الخوض في التفاصيل الجوهرية المتعلقة بهذا الأمر؛ من الأهمية بمكان فهم سبب تسمية "بلاد ما بين النهرين" بذلك.
فهذا الاسم الذي كان الإغريق أول من استخدموه، يشير إلى كونها منطقة مسطحة من الأراضي ذات التربة المؤلفة من الغرين (الطين الرسوبي) الواقعة بين نهري دجلة والفرات؛ تلك البقعة المعروفة باسم "مهد الحضارة"، والتي تخلي فيها الإنسان - للمرة الأولى - عن نمط الحياة القائم على الصيد وجمع الثمار، بهدف تأسيس مجتمعاتٍ أكثر استقراراً تقوم على الزراعة، التي ازدهرت بحلول عام 6000 قبل الميلاد.
وفي مرحلة ما في العصور القديمة، ابْتُكِرَ نظام الري في بلاد سومر (العراق والكويت حالياً) كوسيلةٍ للاستفادة من التربة الخصبة في المناطق الجنوبية من "بلاد ما بين النهرين". وترتب على ذلك وضع نظام إداري لتنظيم شبكة قنوات الري وتُرَعِه، وهو ما حفز بدوره ظهور أول نموذجٍ لما عُرِفَ بـ"دولة المدينة"، مثل "الوركاء" أو "أوروك" باللغة السومرية. تلا ذلك ظهور الممالك ثم الإمبراطوريات في نهاية المطاف.
وارتبطت المراحل المختلفة والمتنوعة التي تألف منها التاريخ الطويل لـ"بلاد ما بين النهرين" ببعضها البعض، عبر ثقافةٍ ذات طابع متميز وسمت متطور، تتمثل في مجموعة من العادات والتقاليد والخرافات والأساطير والمعتقدات الدينية، يشترك فيها كل من تعاقبوا على السكنى في هذه البقعة.
وقد حُفظت هذه العادات والمعتقدات في صورة نصوص مكتوبة، بعدما ابتكر السومريون عام 3200 قبل الميلاد أو نحو ذلك، الكتابة المسمارية التي اشتُق اسمها من الشكل المميز الذي تتخذه الأنماط والعلامات والخطوط المستخدمة فيها، والتي تنتهي برؤوس مدببة تجعلها شبيهة بالمسامير والأوتاد.
وكان الكتبة يدونون هذه العلامات بواسطة أداة مستدقة الطرف تشبه القلم على ألواحٍ من الطين اللين، يتم تجفيفها فيما بعد تحت أشعة الشمس. كما كانت بعض الألواح ذات الصبغة الرسمية تُختم بأختامٍ أسطوانية، شكلت بدورها أداةً متطورةً أخرى تميزت بها "بلاد ما بين النهرين".
ويشدد بول كولينز على الدور المهم الذي اضطلعت به الكتابة في بلورة المكانة التي تحظى بها "بلاد ما بين النهرين"، قائلاً إنها تشكل الوسيلة التي جعلت بوسعنا الربط ما بين مراحل تاريخ هذه المنطقة الذي يناهز 3000 عام.
وأضاف كولينز: "بالرغم مما شهدته هذه المنطقة من قيامٍ وانهيارٍ للإمبراطوريات، وما استقبلته من أناس جدد وأفكار مختلفة، فقد كان هناك كتبة وموظفو دواوين" أبقوا على التقليد الخاص بالتدوين والتسجيل المكتوب.
وأشار إلى أن "بلاد ما بين النهرين" كانت مثل قطعة إسفنج؛ يمتص منها الوافدون الجدد تقاليدها الموغلة في القدم بمجرد وصولهم إليها. وأضاف كولينز أن ذلك ما جعلنا نرى "قدراً كبيراً من الاستمرارية فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية والممارسات الإدارية" الخاصة بهذه البقعة من العالم.
البوتقة
وتزهو "بلاد ما بين النهرين" بأنها كانت مهداً للعديد من الاختراعات والابتكارات، نظراً لتاريخها الموغل في القدم. فعلماء الآثار يشيرون إلى ابتكارات تقنية مثل "دولاب الفخار"، وهي آلة دوارة تُستخدم لصنع الفخار.
كما يشيرون إلى أن لهذه المنطقة الفضل في إحراز تقدمٍ لافت في الرياضيات والطب وعلم الفلك. فمن سكانها ورثنا الطريقة التي نحصي بها الوقت، وتقسيم الساعة إلى 60 دقيقة. بل إن هذه البقعة، التي شهدت أول احتساءٍ موثق للجعة، تطور فيها كذلك النسيج ومنتجات الألبان.