آخر تحديث :الثلاثاء 04 فبراير 2025 - الساعة:22:58:51
"الأمناء" تنشر الحلقة الثالثة والأخيرة من شهادة الرئيس علي سالم البيض حول حرب الرفاق في الجنوب :
(الأمناء نت / خاص :)

السوفييت خذلونا في اللحظة الحاسمة وكشفوا خفايا الحرب

كنت وحيداً في اللجنة المركزية بينما رفاقي يبحثون عن النجاة

 معركة 1986 دمرت أحلامنا وأعادتنا إلى نقطة الصفر

هربت من الموت في لحظات الجحيم بعد القصف والهجوم

هذه هي اللحظات الجنونية التي مررنا بها في حرب 1986

مشاهد الدمار في عدن بعد المعركة كانت مؤلمة لأقصى الحدود

حرب  86 تسببت في فقدان 1500 من أفضل الكوادر الجنوبية

 

 

نشرت صحيفة الأمناء في العدد الماضي الحلقة الثانية من مذكرات الرئيس الجنوبي الأسبق علي سالم البيض عن حرب الرفاق في جنوب اليمن ، والذي نشرها موقع العربي الجديد وتنشر الأمناء في هذا العدد الحلقة الثالثة والأخيرة من تلك المذكرات .

 

 

هل أجريتُم اتصالات سياسية في تلك اللحظة؟

 

اتصلتُ بالسفير السوفييتي، بعد أن وصلت إلينا معلومات عن أن هناك بعض قِطع الأسطول السوفييتي قريبة من شواطئ عدن تستعد للإنزال في جزيرة صيرة لإسناد علي ناصر، وطلبتُ منه ألا تتدخّل موسكو في شؤوننا الداخلية. وعلمتُ لاحقاً من طريق المترجم، أن تلك اللحظة كانت صعبة للسفير الذي كان حديثي معه بمثابة إلقاء القفّاز في الوجه. لقد تفاجأ، لأن بيان علي ناصر قد أعلن مقتلنا، وأعطيت سماعة الهاتف لعبد الفتّاح إسماعيل الذي حدّثه أيضاً، ولكن ليس كثيراً، ولم يبدُ عليه الإرتياح. بقيت حيثيات الموقف السوفييتي تحتاج إلى توضيح في ظلّ اتهام علي ناصر السوفييت بأنهم الذين انقلبوا عليه، مثلما ذكر في أكثر من حديث صحافي لاحق. طلبت من السفير سحب الأسطول وعدم التدخّل، في وقت كان فيه حيدر أبو بكر العطاس قد غادر الهند ووصل إلى موسكو، حيث أجرى سلسلة من اللقاءات، كانت ثمرتها الأولى كبح التدخّل السوفييتي، وفي الوقت ذاته الحيلولة دون أيّ تدخل خارجي، وخصوصاً من الشمال. وقد اكتفى الأسطول السوفييتي في حينه بمساعدة الأجانب على الخروج من عدن، وحاولت السفارة السوفييتية في عدن أن تلعب دوراً مساعداً في ضوء لقاءات العطّاس في موسكو لإصلاح ذات البين وحقن الدماء، وكان رأيهم أنه لا مبرّر للنزاع. وللأمانة، لم يكونوا منحازين إلى طرف ضدّ الطرف الآخر.

أمّا عن اتهامات علي ناصر جهاز "كي جي بي" (المخابرات السوفييتية) بأنه عمل لإسقاطه، فإنه تتوجّب الإشارة إلى أن السوفييت كانوا إلى جانبه في البداية، لكنّه حين هرب إلى محافظة أبيَن، وتبعه محمّد علي أحمد وأحمد مساعد حسين سيراً على الأقدام داخل مياه البحر في الليلة نفسها، اختلّ ميزان القوى وتغيّر الموقف.

 

كيف تصرّف علي ناصر بعد محاولة قتل خصومه كلهم الموجودين في قاعة الاجتماعات؟

 

صدر عنه بيان في الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر ذلك اليوم، جاء فيه أنه أحبط محاولة انقلابية قام بها معارضون له، وأُعدم زعماؤها، وهم علي عنتر وعبد الفتّاح إسماعيل وعلي سالم البيض وصالح مصلح وعلي شائع هادي. وغادر في هذه الأثناء في اتجاه مدينته أبين، بعد أن صرّح عن استتاب الموقف، وظهر ويده ملفوفة برباط أبيض، لكي يوحي بتعرّضه للاعتداء، وأعلن أيضاً أن محاولةً لقتل نجله جمال فشلت. وبالطبع، كانت هذه البيانات والروايات كلّها من بنات خياله ولا صحّة لها. وأعطى إعلانه عن إعدامنا مفعولاً عكسياً في الشارع. وأذكر هنا أن مواقف معبّرة، يصعب تصنيفها اليوم في أيّ خانة، لكنّها تظلّ في سجل الأعمال ذات الأثر الذي لا ينمحي. ومن ذلك أن مجموعة قدِمت من ردفان لنجدة العمّ سعيد صالح سالم (وزير أمن الدولة)، بعد أن بلّغها أنه مُحاصر في عدن. وتعرّضت تلك المجموعة لأكثر من كمين مسلّح في الطريق، وبذلك تناقص عددها ليصل إلى بضعة أفراد حين وصلت إلى حيّ التواهي في عدن، وما يسجّل هنا أن النجدة وصلت في نهاية المطاف.

 

كيف كان الوضع العسكري للمحسوبين على علي ناصر؟

 

كان الموقف سيئاً جدّاً، إذ إن انعكاسات هروب علي ناصر وانهيار قيادته كانت كبيرة، وبقيت في الميدان قيادات الصفّ الثاني، وهي قياداتٌ مقاتلةٌ، لكنّها تأثّرت بأمرَين: قصف الدبّابات التي كانت في طرفنا، وهروب قيادتها، وأدت الاتصالات التي أجريناها إلى عكس اتجاه الأحداث، حتى الإذاعة أُسكِتت بواسطة القصف، وسُيطر عليها، وبذلك تغيّرت اللهجة. مكثنا في ذلك المكان حتى المساء، إلى أن وصلت إلينا ناقلة جند مدرّعة. بدأت بإخراج عبد الفتّاح إسماعيل، وأذكر أنه صعد إلى داخلها، فيما سار الآخرون من حولها، وفوجئتُ بأمر رحيلهم ولم يُعلموني بذلك، بمن فيهم عبد الفتّاح. تركوني بمفردي داخل اللجنة المركزية، ولم يسألوا عني، وكانت دهشتي كبيرة حين عرفت أني بقيتُ وحيداً، منشغلاً بالاتصالات الهاتفية، في وقتٍ كان فيه أصحابي يبحثون عن سبيل للنجاة. وبعد نهاية الأحداث، ومن خلال اعترافات مُدوَّنة، عرف الطرف الآخر أني لم أخرج من المقرّ. وبالتالي، كلّفت مجموعة من المسلّحين انتظاري لحظة الخروج عند باب القاعدة البحرية، التي كان يقودها أحمد صالح الحسني، ويبدو أنهم (في هذا الوقت) كانوا قد أجهزوا على عبد الفتاح إسماعيل. وعلمتُ لاحقاً أن المجموعة التي رافقته لم تواصل طريقها معه حتى لحظة وقوعه في الكمين، فبعضها قرّر التوقّف واللجوء إلى زوايا آمنة، بدلاً من تعريض نفسه للمجهول.

 

 

هل بقيتَ داخل المقرّ وحيداً؟

 

في هذه الأثناء قرّرت الخروج بمفردي، رغم الإضاءة القوية في الشارع، التي تُساعد على تحديد ملامح الشخص من كثب، وبذلك كان يمكن للنار أن تأتيني من أيّ جهة، خصوصاً أن الطرف الذي رتّب عملية الصباح، كان قد تنبّه لإمكانية خروج بعض الأحياء من هذا الطريق، وحسب حسابها أيضاً، وبالتالي أعدّ العدة لإيقاعهم في الشرك. ولحسن الحظ، شعر سعيد صالح الذي كان يوجد في المنطقة بالانزعاج حين علم بخروج جماعتي من دون أن تصحبني معها، فأرسل دبّابةً كي تُخرجني من المكان، لكنّها لم تتمكّن من الوصول إلى الباب، انتظرتُ في مكانٍ قريب، وما عادت الدبابة قادرةً على الإقلاع حين جلستُ إلى جانب المدفعيّ الذي أشرت عليه برمي طلقة كي يساعد الآلية على الارتفاع قليلاً من حفرة وقع فيها. رمى طلقة نحو الجبل، فتحرّرنا من الحفرة، وسار مسافة قصيرة ثمّ توقف. قلت له أن لا يقف فهنا منزل محمّد علي أحمد. وفي القريب، كان سعيد صالح بانتظارنا. وحين لم أستطع تحمّل الحرارة داخل الدبابة، فتحت البرج وخرجت مبتعداً قليلاً، وأنا أطلب من السائق الابتعاد بسرعة، وما كدتُ أكمل كلامي حتى سقطت قذيفة آر بي جي على الدبابة لتحرقها بمن فيها، وأصيب سعيد صالح بشظية.

مع ذلك، سِرنا في الشارع، كان إلى جانبه بضعة مرافقين، وبقينا في الاتجاه الذي يؤدّي إلى التواهي، حتى وصلنا إلى معسكر الشرطة العسكرية. جلسنا هناك، وشرعنا بتجميع الصفوف، وصعدنا بالعم سعيد صالح إلى المستشفى، ثم انتقلنا إلى مقرٍّ كان يتبع للجبهة الوطنية. وفي اليوم التالي، حاولنا صعود الجبل قصد إقامة مقرّ القيادة هناك، وإذا بهم يرموننا بشتّى أنواع الأسلحة، لكن الذي حمانا وجود سواتر إسمنتية، أتاحت إمكانية اتقاء النيران. كان قصفاً مركّزاً بكل معنى الكلمة. كانت معركة فعلية، وبلغت التعبئة ذروتها، خصوصاً أن المقاتلين من أبناء المناطق الأخرى معروفٌ عنهم الشجاعة حتى التهور والجنون.

 

هل تعرّضت لأيّ إصابة؟

 

أُصِبت في المعدة، جاءت الرصاصة في الأمعاء، ومرّت بجانب الكبد والقفص الصدري، ولم تُصبهما، فيما أصابتني رصاصة أخرى في الفخذ، وشقّت طريقها في اللحم، ولحسن الحظ لم تُصب العظم، إلا أنها استقرّت بعد أن قطعت العصب. صعدنا، فوجدنا سعيد صالح كان قد سبقنا، فنقلوني مباشرة إلى العمليات من أجل إخراج الرصاصة. أدخلوني إلى العناية المكثّفة، لكنّي لم أسلم من الرصاص الذي كان يأتي من الجبل المقابل من قنّاص لا يملّ الرمي، بناءً على معلومات نقلها أحد الاطباء الذين قاموا بالعملية، إذ تبيّن أنه موالٍ للجماعة الأخرى.

 

ما المدّة التي استغرقها القتال؟

 

اشتدّت المعارك في صورة غير عادية، حتى ليظنّ المرء أن أبواب الجحيم انفتحت على مصراعيها، وبدأت تصبّ حممها. كان القصف من كلّ مكان، من البرّ والبحر والجو، وفي جميع الاتجاهات. هي لحظة جنونٍ استمرّت قرابة عشرة أيام بلياليها، لم تهدأ فيها وسائل القتل والدمار دقيقةً. وحين أنظر اليوم إلى تلك اللحظات المجنونة في تاريخ التجربة، أتساءل: هل يكفي جنون السلطة وحده لتدمير البلد وسفك دماء الناس على ذلك النحو؟ لقد عزّت حتى شربة الماء، وفي المستشفيات ترك الأطباء للجرحى أن يستعيضوا عن الماء بأكياس المغذّيات البلاستيكية.

 

إذن، تطوّر الأمر إلى حربٍ أهلية؟

 

انقلب فشل الكمين الذي نصبه علي ناصر إلى حربٍ أهلية سريعة الإيقاع. وحتى لو نجح الكمين، فإن عدد الضحايا كان سيصير مرتفعاً، لأن هناك من يثأر دائماً وينتقم، وهناك من يرفض الموت بهامة محنية، إلخ. احتفاظ الطرفَين بأسلحة متنوعة وثقيلة هو الذي أدّى إلى الدمار الشديد، وأوقع العدد الكبير من الضحايا. هذا بالإضافة إلى أن علي ناصر كان قد استعدّ لهذه اللحظة. وبالتالي، كان قد حدّد أهدافه بدقّة، وقد أصاب بعضها في اللحظات الأولى، مثل التصفيات الجسدية التي شملت بعض العسكريين.

 

كم مكثتَ في المستشفى؟

 

نُقلت إلى دار الرئاسة في اليوم العاشر للمعارك، حيث أُحضِرت زوجتي التي كانت، لحظة انفجار الموقف، في المدرسة الحزبية، في حين أن الولد والبنت بقيا في المنزل. ظلّت زوجتي بعض الوقت ضائعة بين جملة من الأخبار، هناك من يؤكّد لها أني في قائمة المفقودين، وآخرون يؤكّدون العكس. وبالإضافة إلى ذلك، الطفل والطفلة تشرّدا لأن السيدة التي كانت تُعنى بهما، والشخص الذي كان يساعدها في ذلك، أصابهما حالٌ من الاضطراب بعد تعرّض المنزل للقصف.

حين انتقلتُ من المستشفى إلى الرئاسة، قمت بجولةٍ في عدن بغرض الاطلاع على ما خلّفته دورة العنف، فوقفتُ على ما لم أكن أتوقّع أنني سأراه في حياتي. كانت عدن مدينة محترقة ومتفحّمة، الحديد في الشوارع، حطام الآليات، المحروقات والزيوت، المباني مدمّرة، السيارات مهشّمة. كان مشهداً مؤلماً إلى أقصى الحدود. لم أتعرّض في حياتي لصدمة لها الوقع نفسُه، احترق كل ما بنيناه.

ترك علي ناصر ومؤيدوه منطقة أبين إلى الشمال في 26 يناير 1986، بعد أن تأكّد لهم عدم جدوى الاستمرار في القتال، فهم خسروا ميدانياً، ولم تصل إليهم نجداتٌ من الخارج. كانوا يعوّلون على الشمال والاتحاد السوفييتي وإثيوبيا. خرج علي ناصر بعد أن قسم البلد إلى قسمين، وشقّ الجيش. قاتلت إلى جانبه القوى البحرية، في حين أن الدروع والمدفعية والغالبية العظمى من الناس إنحازت للطرف الآخر. الملاحظة التي سُجّلت عدم حصول معركة عسكرية تقليدية، بل هو تلاطم أهلي، وضرب بشتى الوسائل، في رقعة محدودة. هذا هو السبب الذي يقف وراء العدد الكبير من الضحايا والدمار الواسع. فلو جرت مواجهة عسكرية تقليدية، لما أدّت إلى هذا العدد الهائل من الضحايا، الذي يقدّر بحوالى أربعة آلاف قتيل، وأعداد كبيرة من الجرحى، في حين أن العدد الذي جرى تداوله تحدّث عن ثلاثة أضعاف الضحايا البشرية، وخسائر مادّية تقدّر بأربعة مليارات دولار.

 

هناك من يعتبر أن تلك المعركة أنهت تجربة اليمن الديمقراطي، ما هو رأيك؟

 

نعم، تلك الحرب هي التي وجّهت الضربة القاضية إلى تجربة اليمن الديمقراطي، وحطّمت كل ما شُيّد قبل ذلك، وأعادتنا إلى النقطة الصفر، وكانت الخسارة بشريةً قبل كل شيء. وفي اعتقادي، كل شيء يمكن تعويضه على نحو سريع، إلا فقدان الثروة البشرية المؤهلة، فهذا يحتاج زمناً طويلاً. لذلك تولي الدول المتقدمة الاستثمار البشري عناية خاصة. ما خسرناه نحن في تلك الحرب هو الكادر السياسي والعسكري الذي بنيناه طوال ثلاثة عقود أو أكثر، ومن نجا من الموت فإنه وقع ضحية الإحباط، سواء خرج مع علي ناصر أو بقي في البلد، إن البلد خسر نحو 1500 كادر عسكري خرجوا مع علي ناصر، غير الذين فقدهم في ساحة المعركة، ومثلهم من الكوادر السياسية الذين صرفنا على تكوينهم، وتعبنا من أجل تكوينهم. ولستُ أبالغ حين أقول إن كارثة 13 يناير (كانون الثاني 1986) وجهت ضربة قاصمة للتجربة، وكادت أن تقضي عليها في صورة نهائية.

 

لو نظرنا إلى الموقف عشية المذبحة، لوجدنا أن الطرفيْن كانا يستعدّان للمواجهة، وليس علي ناصر وجماعته فقط، ما يعني أن المسؤولية يجب أن توزّع في صورة عادلة، ولا تُرمى كلها على ظهر علي ناصر، الذي يتحمل، من دون شك، القسط الاكبر منها، ما رأيك؟

 

هذا التشخيص دقيق، لكن كل طرف كان يستعد في اتجاه. من جانبنا، كنّا نسعى لمنع حصول الكارثة، لأننا كنا ندرك ماذا يعني انفجار الوضع. في حين أن علي ناصر لم يكن يمتلك التقدير الكافي لأبعاد اللجوء إلى التفجير. وربما غرّر به بعضهم، وأقنعه بأن الأمر لا يتجاوز تصفية عدة أشخاص، عبد الفتّاح إسماعيل، علي عنتر، وعلي سالم البيض، وبعد ذلك يستقيم الوضع له. وكما سبق أن أشرت، كان هدفنا مواصلة معركة النضال الديمقراطي داخل هيئات الحزب المختلفة، وعلى أساس الأغلبية، بل كنّا قد ذهبنا في اتجاه تبريد الموقف، وتأجيل بحث القضايا مثار الخلاف، حتى يحين وقت حلها في صورة هادئة. وهنا أتذكّر أننا كنا نجلس في الليلة السابقة لانفجار الموقف في منزل عبد الفتّاح إسماعيل، وكانت قناعة علي عنتر أن المخرج الوحيد سلوك سبيل النضال الديمقراطي، وأن أي حل آخر معناه تدمير البلد والتجربة، وتحدّث عن ضرورة إيجاد قدر من التوازن الذي يجبر علي ناصر على قبول الحل.




شارك برأيك