آخر تحديث :السبت 30 نوفمبر 2024 - الساعة:12:18:31
محمد مرشد ناجي. . . .موسوعة فنية متميزة
د. عيدروس النقيب

السبت 00 نوفمبر 0000 - الساعة:00:00:00

يا بلادي، يا نداءً هادراً يعــــــصف بي
يا بلادي، يا ثــــرى أبــني وجدي وأبي
يا كنوزاً لا تـــــساويها كـــنوز الذهبِ
أقــفزي من قمة الــطود لأعلى الشهبِ
يا بلادي كلِّـما أبصرت شمـــسان الأبي
شامــــــــخاً في كبرياءٍ حرةٍ لم تغلبِ
صحت يا للمجد في أسمى معاني الرتبِ
ليست هذه الأغنية التي نظم كلماتها الشاعر الكبير المرحوم لطفي جعفر أمان
هي أول أغنية أستمعت إليها من الفنان الفقيد محمد مرشد ناجي، فقد استمعت
قبلها إلىنشيد " يا نجم يا سامر فوق المصلى"، للشاعر د. سعيد الشيباني
والتي شغلت بلحن وغناء المرشدي مساحة متسعة في ذاكرة كل اليمنيين، وكما
له نشيد "أنا الشعب زلزلةٌ عاتية ستخرس أصواتهم صيحتي"، ونشيد "هنا ردفان
هنا بدت الطلايع تصوغ المجد عن وطني تدافع" للشاعر المرحوم عبد الله هادي
سبيت، وهي أناشيد، جرى تغييبها لعدة سنوات لأسباب لا أفهمها، وربما كان
إعادة إظهارها بعد الثورة الشبابية شيئا من الإنصاف، وإن جاء متأخرا لأن
مثل هذه الأناشيد تصلح لكل مكان وزمان، لمستوى الكلمات الراقية التي
تحتويها ولعمق الفكرة التي تحملها، ولجماليات اللحن وحسن الأداء بصوت
فنان يصب عصارة جهده الفني والذهني في النص الغنائي ليقدمه على أجمل ما
يكون للمستمع المتلهف لهذا النوع من العطاء الفني الجميل، لكن نشيد "يا
بلادي" ظل وما يزال ذلك النغم الأخاذ الذي لم ولن يبارح ذاكرتي منذ أن
استمعت إليها لأول مرة في العام 1967م بصوت الفنان الخالد محمد مرشد
ناجي.
في حضرة غياب الفنان العظيم محمد مرشد ناجي وانتقاله إلى الرفيق الأعلى
يمكننا الحديث عن المرشدي الفنان الموسوعي المتعدد المواهب والقدرات
والاهتمامات، فهو ليس فقط مغن رائع صاحب صوت شجي وحنجرة تتقن الإطراب على
أجمل ما يكون ولا ملحن ممتاز صاحب مخزون من الألحان المتنوعة والأخاذة
فقط، بل إنه صاحب موسوعة غنائية متميزة تبدأ بـ"هي وقفة" للشاعر محمد
سعيد جرادة، ولا تنتهي عند دعوة الأوطان، و"با معك يا حبيبي، يا حبيبي
وخلي" وكل ما بينهما وما بعدهما من موسوعة غنائية متكاملة شعرا وأداء
ولحنا وجماليات التوزيع الموسيقي والاستخدام المتقن للمقامات الموسيقية
المتنوعة.
غنى المرشدي للوطن كما غني للحب والحبيب، وغنى للثورة كما غنى للأرض
والإنسان، وفي كل الحالات تميز أداؤه بالإبداع والرقي فهو لا يبتذل في
اختيار الكلمات والموضوعات بل يحرص على انتقاء النصوص الغنائية الراقية
والمهدفة ذات الموضوعات العميقة والمتصلة بأحاسيس ومشاعر جمهوره العريض
الممتد على طول الساحة اليمنية وعرضها وفي معظم بلدان الجزيرة والخليج،
والعديد من البلدان العربية.
غنى المرشدي الكلمات الفصحى كما غني القصائد العامية ومثلما أبدع في
القصائد الفصحى، مثل "اراك طروبا"، "يا بلادي"، "أنا من ناظري عليك
أغار"، "هي وقفةٌ"، "لا تخجلي ودعي الخمار"، "يا جارة الوادي"، و"من أرض
بلقيس هذا اللحن والوتر" وغيرها كثير من النصوص الفصيحة، تألق كذلك في
الأغاني ذات الكلمات العامية، مثل على "امسيري على امسيري"، "يوم عشرين
الأغر"، "وا مكحل عيوني بالسهر"، "ما لك كذا يا هلي"، "شابوك أنا وامرفاق
بكره"، يا "سائلي عن هوى المحبوب لا تسأل" وغيرها.
أبدع المرشدي في الغناء القديم كما تألق في الغناء الحديث، فكل أغنية
تراثية غناها اكسبها مضمونا ومظهرا جديدا بعد أن كانت تسمع على مدى مئات
السنين، ومن أمثلة ذلك، "عن ساكني صنعا حديثك هات وا فوج النسيم"، "يا من
سلب نوم عيني طرفه النعاس"، مثل ذلك أبدع في الأغاني الحديثة وصارت
أغنياته أعلاما مميزة في سفر الغناء اليمني، ويكفي أن نتذكر أنه صاحب
نشيد "نشوان لا تفزعك خساسة الحنشان"، "أخي كبلوني" "مخلف صعيب"، "هات
يدك على يدي"، "أهلا بمن سلم"، و"راجع لعرش الحب في بلادي الغالية".
الفنان الفقيد محمد مرشد ناجي هو صاحب مقولة الألوان الغنائية اليمنية
الأربعة، وقد غنى كل الأولان الغنائية اليمنية التي تحدث عنها في كتاب
"الغناء اليمني ومشاهيره" حيث غنى عشرات الأغاني من الغناء الصنعاني مثل:
"عليك سموني وسمسموني"، "لله ما يحويه هذا المقام"، "يا ساري البرق بلغ
للمعنى سلامه"، "الله يعلم أنني مستهام"، كما غنى من اللون اللحجي: "هل
أعجبك يوم في شعري غزير المعاني"، "با نجناه"، وغيرها، وغنى من اللون
اليافعي "يحيى عمر قال يا طرفي لمه تسهر"، "قلبي تولاه الطمع"، و"يحيس
عمر قال ما شان المليح" وغنى من الحضرمي "دعوة الأوطان"، "دار الفلك
دار"،و" مكانه جبحكم يا اهل با كرمان فيه العسل من غضه النوب" وهي من
كلمات الشاعر المرحوم حسين المحضار وغيرها.
وبرغم إنه صاحب مقولة الألوان الأربعة للغناء اليمني فقد غنى العديد من
الأغاني من ألحانه وكلمات عدد من الشعراء الكبار، والتي لا يمكن احتسابها
على أحد هذه الألوان مثل: هات يدك على يدي، وأهلا بمن سلم، وشابوك انا
وامرفاق بكره ، وبا معك يا حبيبي يا حبيبي وخلي، ويا ابن الناس حبيته، و
لقيت ياماه ذي سالت دموعي عليه، ليه يا بوي تتمنع على ذي يحبك، يا أغلى
الحبايب، أمانتك وا مغرد شل صوتي معك.
لكن ليس هذا هو كل ما ميز الحياة الفنية للفنان المرحوم محمد مرشد ناجي،
فلقد أتقن المرشدي التعامل مع الموسيقى وتعاطاها بمستوى أكاديمي تخصصي
وصنع مدرسته الفنية المتميزة فأغنيات مثل، الفل والورد، بغينا الحب دايم
بالتفاهم، بيني وبينك كلام، قطفت لك، لقيت يامه، واصياد، يا أغلى
الحبايب، يا كذا والا كذا، وضناني الشوق، هي أغاني لم تكن ولن تكون إلا
للمرشدي، وحتى عندما غنى بعضها آخرون بألحانه لم يرتقوا بها إلى المستوى
الذي قدمها به صاحب اللحن الأصلي.
بقيت الإشارة إلى أن المرشدي كان مؤرخا متمكنا كتب في تاريخ الغناء
اليمني العديد من الكتب أهمها: (أغنيات شعبية) و(الغناء اليمني
ومشاهيره), و(صحفات من الذكريات) و(أغنيات وحكايات) تناول فيها مراحل
الغناء اليمني ومشاهير الفن اليمني الأصيل، وألوان الغناء ومدارسه
الفنية، وشكلت مؤلفاته تلك رافدا غنيا للمكتبة الفنية اليمنية، وهو مؤلف
دقيق يستخدم المعطيات التاريخية والقرائن والشواهد المتعددة للبرهنة على
الرؤى والاستخلاصات التي توصل إليها.
ختاما لقد غنى محمد مرشد ناجي أغنيات بلحنه الخاص، وهي نصوص غنائية كان
قد لحنها آخرون، ومع عدم التقليل من إبداع الآخرين إلا إن لمسة المرشدي
في تلك الأغاني كانت واضحة ومتميزة مثل، مش مصدق، التي لحنها أيضا الفنان
المرحوم أحمد بن أحمد قاسم، ودعوة الأوطان التي لحنها أيضا الفنان
المعروف محمد محسن عطروش، وهذا التميز ينطبق على العديد من الأغاني
التراثية التي قدمها المرشدي بصبغة متميزة أكسبتها نكهة جديدة إلى درجة
أنه صار من الصعب الاستماع إليها بغناء آخرين مثل عليك سموني وسمسموني،
الله يعلم، وعن ساكني صنعا، ويا غارة الله منه.
سيبقى الفنان العظيم محمد مرشد ناجي خالدا في ذاكرة الأجيال خلود صوته
الشجي وألحانه المتميزة وكلماته المعبرة عن وجدان كل اليمنيين من أقصى
اليمن إلى أقصاها، ولن ينسى الناس أن أبا علي كان وما يزال حاضرا في كل
بيت وفي كل حارة، لاقترابه من الناس والتعبير عن همومهم واستيعاب
تطلعاتهم، فهو وإن كان ابن عدن المدينة التي جرى في دمه طبع أهلها وما
تختزنه من الفن والحضارة والإبداع ، وفي كل أعماله تجسد الجبل والسهل ،
وزهور الربيع وتغريد البلابل وتدفق موجات البحر الصاخبة و نسيمه العليل
إلا إنه قد استطاع بسعة اطلاعه وقدراته الفنية العالية أن يتسع على كل
الوطن، وأن يستلهم كل الموروث الغنائي اليمني وما يختزنه من كنوز تعبر عن
أصالة الإنسان اليمني وارتباطه بأرضه، وهو ما يجعلنا نقول مرة أخرى أن
محمد مرشد ناجي هو موسوعة غنائية وفنية وأدبية متكاملة.

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص