آخر تحديث :السبت 23 نوفمبر 2024 - الساعة:17:48:59
إستقلال الجنوب..بين ثقافة التوافق الوطني ونوازع الاقصاء والتخوين
حافظ الشجيفي

السبت 00 نوفمبر 0000 - الساعة:00:00:00

إزاء كل هذا الركام الكبير من الخراب والفوضى الذي حل بوطننا خلال السنتين الاخيرة من حياة الشعب الجنوبي على وجه التحديد بسبب الحرب وماخلفته من نتائج اجتماعية وثقافية وسياسية سيئة انعكست بالسلب على افراد المجتمع وقادت الى اهتزاز بنيانه وتمزق نسيجه الواحد واثارت فتناً فيما بيننا البين يبقى السؤال الملح: كيف يمكننا مواجهة هذا الواقع المرير وتغييره وما هو السبيل للخروج من هذه الفوضى التدميرية التي توشك على ان تعصف بنا في حروب عدمية نحن في غنى عنها بعد كل ماحدث لنا؟

 

 

طبعاً الجواب على هذه التساؤلات معقد او متشابك لأن المواجهة  معقدة ومتشابكة ومربكة ايضا فقد اختلط فيها العامل السياسي بالأمني  كما امتزج فيها الفاعل الاجتماعي بالفاعل الاقتصادي والمعيشي وانصهر فيها الفعل الداخلي  بالخارجي لكن أحداً لا يستطيع استبعاد الجانب الاخلاقي  من ميدان المواجهة فالحرب كما يقولون أولها كلام وبالتالي فالسلم الأهلي أوله كلام أيضاً.
 
 لقد عاش شعبنا الجنوبي على مدى عقود مضت بين ثقافتين متناقضتين هما “ثقافة الإقصاء” التي وقعنا في أسرها جميعاً أفراداً وجماعات  وثقافة التوافق التي ما أعتمدها قائد أو جماعة أو حزب أو حتى فرد إلا وكتب له النجاح والانتصار على كل التحديات. تاريخنا القريب والبعيد مليء بالشواهد التي تؤكد على صحة هذه المعادلة كما هو مليء بالشواهد التي تثبت انه ما من مرة جرى التخلي عن هذه المعادلة او عن هذا المبدأ  إلا ودفع الجميع الثمن باهظاً.
 
       ثقافة الإقصاء مصدرها الإحساس بفائض القوة الذي يقود إلى الإحساس بإمكانية الاستغناء عن الآخر رأياً كان أم فكراً أم كياناً أم جماعة بل إلى الإحساس بإمكانية إلغائه أو تصفيته إذا ظهرت منه بوادر اعتراض على إقصائه أو امتناعه عن الاستسلام لمشيئته.
 
       بل إن ثقافة الإقصاء تجد سنداً لها في بعض المذاهب والأفكار السياسية  والوطنية باسم الوطن أو الثورة او المقاومة  إلى التخوين بل كثيراً ما يستمد التكفير من التخوين مبررا لسلوكه  فيما يلجأ أهل التخوين إلى مثالب جماعات التكفير لتبرير تخوينهم لهم أو لغيرهم فيبدأ الصدام عقائدياً ليصبح سياسياً او وطنيا او ثوريا بل ودموياً في نهاية الأمر.
 
       ثقافة الإقصاء هذه لا تنطلق بالضرورة من نوايا سيئة أو مصالح ضيقة بل انها تنطلق بالدرجة الأولى من ضيق في الفكر وقصر في النظر ونقص في الخبرة وقصور في الفهم كثيرا ما يستغله أعداءهم لتحريضهم على بعضهم البعض..
 
فأهل الإقصاء يعتقدون أن توازن القوى القائم في لحظة معينة والذي قد يكون لصالحهم هو توازن دائم يسمح لهم بالاستغناء عن الآخرين بل العمل على إقصائهم والتخلص منهم...
 
       ثقافة الإقصاء ليست وليدة اللحظة فحسب بل أنها تتمثل في تلك القراءة الانتقائية المبتسرة للماضي أيضاً فيرى بعض أهلها في التاريخ ما يعزز منطقهم الاقصائي الالغائي ويزوده بالأسانيد الشرعية بل وحتى بالقصائد والابيات الشعرية وبالملاحم والاساطير الشعبية التي تعبر عن الميول العدرانية لدى هولاء الاقصائيين   كما يرى البعض الآخر من أهلها في التجارب التي تمر بها شعوب أو أحزاب او ثورات أو قادة معاصرون ما يزين لهم هذا الخيار الاجتثاثي والاحتكاري الالغائي ويحفزه لديهم ولعل في العودة السريعة بشريط الذاكرة الى تجاربنا السياسية والوطنية في عهود التشطير التي عاصرناها جميعاً تجعلنا ندرك بأن كل واحد منا قد عانى من نهج وثقافة الإقصاء سواء حين تبناها أو حين كان ضحيتها ...
 
       كذلك فان نزعة الاقصاء تعاقب شعب بأسره بذريعة ما ارتكبه فرد أو افراد منه وهي بذلك تجافي المنطق الانساني والشرع الرباني الذي اكد بأن لا نحمل وازرة وزر أخرى.
 
       أما ثقافة التوافق فعلى العكس من ثقافة الإقصاء فهي تنبثق من إن ما ينتظر الشعب كله بكل افراده فردا فردا من تحديات لا يمكن لأي مكون او تيار أو نظام أو فئة أو جماعة أن تواجهه بمفردها او بمعزل عن الاخرين بل إن هذه المواجهة تتطلب تكاملاً في الجهود والطاقات وتوافقا في الغايات والاهداف والتوجهات  وفي الرؤى والإمكانات وتقتضي كثيرا من التنازلات  وهو توافق  بين المبادئ والأفكار وبين الاهداف والاساليب  ذلك أن كل من هذه الأطراف يمتلك عنصر قوة لا يمتلكه الآخر وبالتالي فالتلاقي بينها إضافة نوعية لرؤية كل منهما بل لمشروع المواجهة كله.
 
       ثقافة التوافق والتنازل هي بالضرورة ثقافة وحدوية بناءة لأنها تقرب الجميع من الجميع و'تركز على ما يجمع وتستبعد ما يفرق تقرأ الماضي بعين موضوعية فلا تتعامل معه كسجن فتبقى أسيرة له بل كمدرسة يتعلم منها الجميع ويستفيد من تجارب الأمس وخبرات الأولين.
 
       وثقافة التوافق هي بالضرورة ثقافة ديمقراطية لأنها تنطلق من فكرة الاعتراف بالآخر والقبول به والتعايش معه وصولاً إلى التكامل وهذه الفكرة هي أساس الديمقراطية التي تتفرع منه بقية فروعها الاخري..
 
       وثقافة التوافق هي ثقافة العدل  التنموي لأن التنمية بمفهومها الحديث أي التنمية البشرية هي تنمية تقوم على المشاركة في الإنتاج بين الناس وعلى المشاركة العادلة في حصد ثمار هذا الإنتاج، وعلى المشاركة في صنع القرار ..
 
       وثقافة التوافق هي ثقافة استقلالية بالضرورة لأن الشعوب لا تعرف الاستقلال الحقيقي ولا تنجح في المحافظة عليه وصيانته إلا حين تنجح في إقامة جبهات تحرير  متوافقة تصطف داخلها كل الشرائح والتيارات والمكونات والاطراف والقوى الوطنية والسياسية والاجتماعية والمدنية وحين تنجح  في إقامة منظومة تتكامل فيها هذه الاطياف يتحقق الاستقلال الكامل باقل الخسائر وفي اقرب الاوقات ومن اقصر الدروب وقد تعلمنا من تجارب السابقين بل ومن التجربة التي نعيشها في الوقت الراهن بانه ما من استقلال يمكن ان  يتحقق لشعب من الشعوب  إلا بثقافة التوافق والاصطفاف وحدها وما من استقلال اهتز وتعثر وسقط وفشل إلا حين غاب هذا التوافق وساد منطق الاقصاء والتخوين ولغة الالغاء عوضا عنه....
 
       قد لا يعجب اهل الاقصاء على انواعهم، هذا الكلام ولكنهم لو فكروا جيداً  في التجارب التي مروا بها لادركوا باليقين  أن هذا النهج قد كلف الجميع ولم ينج من مآسيه احد.
 
إن ثقافة الإقصاء وعدم احترام آراء الغير  يتسبب  في حالة من الاحتقان الاجتماعي والسياسي والعسكري كما يتسبب في حالة من  المراوحة في المكان بل وإمكانية التقهقر للوراء مع وجود محفزات التناحر بكل شروطها محتقنة ضمن أساليب الرفض والتنكيل واحتكار الحقيقة والتغييب القسري للطرف المقابل واعتبار أن الفكر الإنساني فكر متطابق ومتماثل هو أمر يجب الرجوع عنه لأنه لا يولد إلا ازمات تظهر نتائجها في مراحل متقدمة تشكل عبئاً بدلاً من أن تكون حالة انفراج مرتقبة لأنها أشبه بمن يحاول البناء بيد واحدة حيث تم استثناء اليد الأخرى او بترها بالاستغناء الجبري عنها.
 
إن إتباع تعليب الأفكار والوصاية  والإنفراد بتوزيع صكوك الوطنية والشرف على فئة من الفئات وإهمال باقي النسيج الوطني ووجهة نظره المختلفة والتي تقدم صورة مختلفة بل ومغايرة احياناً عما تراه  هو ممارسة قمعية لا تخدم الوطن في شيء من حيث القيام بعملية فرز ثوري او وطني غير محق في تمتين أي صورة متماسكة ونهائية ما دامت صورة مجتزأة غير واضعة في الحسبان تكامل أركانها.

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحيفة الأمناء PDF
تطبيقنا على الموبايل