آخر تحديث :الخميس 11 يوليو 2024 - الساعة:21:14:46
اليمن دولة فاشلة بامتياز
شفيع الناجي

الخميس 00 يوليو 0000 - الساعة:00:00:00

 

 

 

 

 معايير الفشل

يتوافق معظم علماء الاجتماع السياسي على أن انهيار الدولة يعتبر الطور الأخير من فشلها، ويجمعون على أن معايير أو علامات فشل الدولة تتجلى بالآتي:

  • عجز أجهزة سلطة الدولة وفشلها عن توفير أهم السلع السياسية الأساسية وبالدرجة الأولى سلعة الأمن بما تنطوي عليه من تحرير للناس من الخوف.
  • عجز سلطة الدولة عن تقديم السلع السياسية والأساسية الأخرى: التعليم، الخدمات الصحية، وتكافؤ الفرص الاقتصادية، والقضاء المستقل، ومتطلبات البنية الأساسية: الطرق، المدارس، وكافة الوظائف المتصلة بتأمين البنية التحتية التي تصبح الدولة فاشلة عندما تعجز عن تأمينها لمواطنيها.
  • الدولة الفاشلة هي الموقع المثالي لاستضافة عناصر التهريب والإرهاب والفاعلين من الخارج، وهي المرتع الخصب لجنرالات وأمراء الحرب، وساحة احتدام الصراعات والحروب والتمردات والعنف الموجه ضد الحكومة وفي إطارها، والعنف المتصاعد إلى ذروة الحرب الشاملة والمترافق مع التدهور الكبير لمستويات المعيشة ومع جشع وطمع الحكام اللصوص.
  • ومن سمات الدولة الفاشلة -حسب تلك المعايير- أنها لا تستطيع السيطرة على حدودها ومنافذها وعلى مقاطعات ومحافظات في داخلها.
  • تتميز النخبة الفاسدة والمتحكمة بمقدرات هذه الدولة الفاشلة ببيعها للأصول وإغارتها على الأراضي والممتلكات العامة وممتلكات خصومها وابتزازها وقمعها للسكان، وإخفاقها الذريع في التنمية لحساب إفساح المجال واسعا لتنامي العنف الإجرامي وعنف الكل ضد الكل؛ وعند هذا الحد تصبح دولة إجرامية في القمع وتغييب القانون وإطلاق العنان لعصابات الجريمة لتسيطر على الشوارع والحواري والهوامش والأحياء المنسية، وتستثير النعرات والنزعات القبلية والجهوية والطائفية التي تتفشى وتتعمم في مناخات انتشار تجارة السلاح والمخدرات وعلى خلفية إصابة أجهزة الأمن والشرطة بالشلل وذبح جنود وضباط الجيش كالخرفان والنعاج في مخافرهم ومعسكراتهم وبيوتهم.
  • الدولة الفاشلة هنا تشكل دعوة مفتوحة وصريحة لتهييج الفوضى، وتمكينها من أن تصبح عرفا سائدا وسلطة غاشمة، وتدفع بالسكان إلى الاحتماء بجنرالات الحرب وقادة المليشيات والعصابات واللجوء إلى عشائرهم وقبائلهم وتكريس قانون القوة والغلبة الذي يصير هو الصوت الأعلى عندما تتفتت الدولة وتنهار.
  • على خلفية فشل هذه الدولة وانعدام قدرتها على توفير الأمن –أهم سلعة سياسية وسيادية- تنقسم وتتصدع المؤسسات وتنقشع كافة الأشكال الحمائية للمواطنين، وتفتقد الحكومة والإدارة البيروقراطية إلى معايير النزاهة والمهنية وتتطرف في ممارسات وأساليب النهب الدنيئة للبلاد، يتدافع معظم السكان الفقراء والمقهورين إلى بوابات مناطق الاحتماء بجنرالات الحرب ومشايخ القبائل والدين المستثمرين في احتياج الناس للماء والخبز والغذاء ويقفز هؤلاء الجنرالات وقادة المليشيات ومشايخ القبائل والطوائف المحاربة إلى صدارة المشهد.
  • في هذا المنحى يقول بعض المختصين في دراسة موضوع الدولة الفاشلة ما يلي: "يعد تدمير البنية الأساسية للبلاد من السمات الأساسية للدولة الفاشلة وبصورة مجازية كلما اتسعت الأخاديد في الطريق أو تحولت الطرق الرئيسية إلى مسارات كثيرة الأخاديد، ازداد فشل الدولة ترجيحا". ونظرا لأن الحكام يشفطون الأموال من خزينة الدولة، فإن القدر الضئيل الذي يتبقى من الموارد الأساسية لا يكفي لإصلاح الطرقات أو لإصلاح الخراب في كافة مجالات البنية التحتية.
  • في الدولة الفاشلة معظم الناس لا يعملون، ومعظم المحسوبين على مرافق ومؤسسات وأجهزة السلطة لا يزاولون أعمالهم، ومعظم السكان يحسون بأنهم بمعزل عن حماية الدولة التي هجرتهم وتخلت عن وظيفتها تجاههم.
  • ومن علامات هذه الدولة أنها تعاني من انقسامات جهوية وقبلية وطائفية، ومن ارتفاع كبير لنسبة الأمية، ولنسبة وفيات المواليد والبطالة، ومن فجوة شاسعة ومخيفة بين نخبة تسلطية ترتدي اسم  "رجال الأعمال" وكافة المتعيشين والمستفيدين من ازدهار الفساد على نطاق تدميري وفاجر.
  • وتستولي هذه النخبة على نوافذ السيادة والثروة والسلطة ومعظم مجالات النشاط التجاري، ولا تتورع عن تعميم الابتزاز وبيع (الحماية) على المستثمرين ورجال الأعمال العزل من حماية المليشيات المسلحة والنافذين الفاسدين..

هذه النخبة الفاسدة "تستنزف" أموال البلاد في الداخل لتستثمرها في الخارج، وتدمر كفاءات الدولة وتطرد الذكاء والخيال وتسلطن الغباء والقباحة، وتفتك بكافة شبكات الأمان الاجتماعي والإنساني.

  • الدولة الفاشلة فاقدة للشرعية والمشروعية بهيئاتها الشائخة والمستنفدة للصلاحية ونافذيها العباقرة في قطع روابط انتماء الناس للوطن وللدولة بتماديهم في استملاك سلطة الدولة وتوزيع مناصبها لأنجالهم وأقاربهم ودفعهم لأغلبية السكان نحو الاستجابة لغرائزهم البدائية أو إلى النفاذ برؤوسهم إلى خارج البلاد –إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
  • الدولة الفاشلة تنجرف بإيقاع متسارع إلى الأسفل وتخلف فراغا هائلا في السلطة تملأه الفوضى والضالون وأصحاب السوابق والإرهابيون والمهربون والمنحرفون وشتى ضروب الفوضى المجنونة التي لا تخضع لأي قانون، حتى إن القرارات الصادرة عن قيادات هذا الكيان تفضي، غالباً، إلى تحطيم ما تبقى من مقدرات ومقومات الدولة لأنها تصدر عن عقليات فاسدة تعمم العفن وتضاعف من استنزاف موارد البلاد وثرواتها وتبدد الاحتياطي من النقد الأجنبي وتطرد شروط وعناصر الاستثمار المحلي والخارجي، وتفسد أخلاقيات العاملين والمتعاملين مع المستثمرين في المؤسسات العامة والمحاكم.
  • الدولة الفاشلة هي المظلة الواسعة والدافئة لكافة الخارجين على القانون، ولعمليات الاغتيال والتفجير ولسرطان الفساد الذي يتمدد في كافة المفاصل ويتحكم بها.
  • الدولة الفاشلة هي عجز القيادة وغيابها وغياب القانون وانفساح المجال لاستعراضات الفتوات المسلحة وبارونات تجارة السلاح والمخدرات و"القاعدة" وتعميق الروابط بين الإرهابيين والمتمردين في الداخل مع شركاء إقليميين ودوليين وشتى المستفيدين من الكسب غير المشروع والمختلسين للموارد المالية والثروات تحت غطاء من العناصر والمؤسسات الجوفاء والصورية.

... في الدولة الفاشلة يصبح الفساد واللا قانون هما القاعدة وقاعدة لـ"القاعدة" ومصدري الرزق لأن غياب الخدمات الضرورية لبناء الإنسان –التعليم والصحة والأمن- يعني بيع الحاضر والمستقبل وإطلاق العنان لشتى أشكال العنف والتدمير الذاتي، ولأن انعدام وجود الجيش والإدارة الفعالة والنظام القضائي المستقل وفراغ السلطة لا يخلف غير هذه الكارثة.

  • المساعدات الخارجية بالنسبة للدولة الفاشلة تصبح نوعا من التعويض أو المكافأة لمن صنعوا الكارثة، ولمن كانوا وراء التدمير المنهجي للمؤسسات عبر توارث الفساد وللنافذين الطارئين القراصنة على سوق التجارة والأعمال.

 

اليمن.. حالة رثة

يوم الأربعاء 11 يونيو كادت العاصمة اليمنية صنعاء تسقط في مهب الفوضى والاضطراب، وكان ما حدث من شلل وسكتة أصابت حركة المواصلات ومن قطع للطرقات وإشعال لحرائق الإطارات وغيرها يشكل ذروة الفلتان وغليان الاحتقان المتراكم، كما يعبر عن الدرجة القصوى للفراغ الأمني والسياسي الذي تعيشه البلاد.

إن معايير الدولة الفاشلة المذكورة، سابقاً، تنطبق تماما على أوضاع اليمن فقد كان من شأن الفراغ الأمني والسياسي أن يفسح المجال واسعاً أمام ظهور وانتشار الجماعات الإرهابية والمجاميع المسلحة المتناثرة في أرجاء واسعة من البلاد، وسيطرة المليشيات المتطرفة التابعة لـ"القاعدة" على معظم مديريات محافظات أبين وشبوة وعلى مفاصل حساسة من محافظة لحج ومناطق متناثرة من حضرموت، ومغاور وكهوف ومعسكرات في البيضاء ومأرب والجوف، تابعة لتنظيم القاعدة بعد أن صارت اليمن معقلاً رئيسيا في منطقة الخليج والجزيرة العربية ومن أخطر المواقع على مستوى العالم.

إن تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات المتطرفة قد تمكنت من اختراق المؤسسات الأمنية والعسكرية والحكومية والتغلغل فيها، وصارت المليشيات التابعة لهذا التنظيم ترتزق من السطو المسلح على البنوك ومراكز البريد ومن عمليات اختطاف الأجانب ورجال الأعمال وأنجالهم، ويتعزز وضع "القاعدة" في البلاد بغطاء من بعض القوى السياسية النافذة التي تستخدم المليشيات في صراعاتها ومن الجنرالات ومشايخ القبيلة الوسطاء بين "الدولة" والقاعدة لتحصيل "الفدية".

ومن المفيد الذكر أن الحيز الزمني الذي استغرقه تمدد المليشيات يتجاوز اللحظة الراهنة، يتوغل في حقبة تعود إلى أكثر من عقدين حيث جرى تهيئة اليمن كحاضنة وملاذ لـ"المجاهدين" العائدين من أفغانستان، وبعدها للعائدين من العراق، وفي طور أخير للعائدين من سوريا حتى إن رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي أقر بأن 70% من الإرهابيين المنتشرين في اليمن أجانب.

الواضح أنه بعد أن تحولت اليمن إلى قاعدة ومركز رئيس لتنظيم القاعدة على مستوى المنطقة شهدت تدفقا غير مسبوق للعناصر المتطرفة حتى إن بعض أرجاء البلاد وأراضيها تحولت إلى معسكرات تدريب وتأهيل لكل أصناف التيارات المتطرفة.

في الأثناء كانت سياسات الحكومة ضبابية وملتبسة ولم تنتقل إلى طور المواجهة الجادة لهذا الخطر الماحق، لأن القرار القيادي ظل رهينا لحسابات ضيقة ومراهنات ساذجة على مهادنة المتطرفين بدعوى أنهم كانوا "شركاء في الثورة".

وفي حين كانت التنظيمات المتطرفة على درجة عالية من الجاهزية القتالية والخبرات المكتسبة في أفغانستان والعراق والسعودية –التي طردوا منها- وسوريا مؤخرا فقد كانت الحكومة عاجزة وفاشلة حتى على مستوى إدارة الخسائر، ولم تفلح إلا في تجويع وترويع الشعب.

 وبالتوازي مع هذا الفراغ الأمني والسياسي كان مستوى تدهور الوضع الاقتصادي يتفاقم بديناميكية متسارعة، وصارت شبكات الاقتصاد الموازي تتحكم بمسار العملية الاقتصادية كلها.

وصار "الاقتصاد الموازي" يحتل قلب الممارسة اليومية للسلطة وانتشرت شبكاته حتى غدت تزود قطاعات هامة من الاقتصاد المهيكل شكليا بمعظم الخدمات والموارد.

في مثل هذا الوضع خرجت من معطف أجهزة السلطة طبقة طفيلية جديدة من "رجال الأعمال" الذين أثروا من نهب الخزينة العامة للبلاد ومن توظيف الأموال المنهوبة في قطاعات شتى بعد أن صاروا من أصحاب الشركات والأصول العقارية الشاسعة والبنوك التي يستخدمونها لتبييض الأموال المتأتية من الأنشطة غير المشروعة عبر استثمارها في المضاربة.

إن استغلال الدولة لمكاسب شخصية والتعامل معها كملك خاص للحاكم وحاشيته، وتغليب عناصر الولاء والطاعة وشراء الذمم وتعايش الناس مع الممارسات الفاسدة والاعتباطية والتعسفية على مدى عقود وتحول الجباية إلى ضرب من النهب قد حول المرافق العامة والمال العام إلى مجرد غنيمة كان الصراع عليها وحولها هو السبب في كل ما شهدته البلاد وتشهده من دمار وخراب.

وبمعنى أوضح فإن الأرض المستباحة والإنسان المستلب في اليمن يعنيان أن الدولة فاشلة بامتياز؛ ذلك إذا ما جاز القول بأن الدولة قد أنجزت كمشروع فعلي على الأرض لأن الراجح هو أن اليمن مازالت ترزح في مرحلة ما قبل الدولة.

وفي كل الأحوال صارت اليمن أحوج ما تكون إلى حكومة إنقاذ تنفذ برنامج إصلاحات عاجلة وتعتمد على خارطة طريق واضحة ترسو بالبلاد على سكة الانتقال إلى مشارف الدولة عبر انتخابات برلمانية ورئاسية تحدد مواقيتها من لحظة الإعلان عن حكومة الإنقاذ التي ينبغي أن لا تقوم على المحاصصة وتقاسم غنائم السلطة.

 

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص