آخر تحديث :الاربعاء 20 نوفمبر 2024 - الساعة:01:26:46
وغابَ الرّجلُ الصّالحُ في الزّمنِ الطّالح!
ياسين الرضوان

الاربعاء 00 نوفمبر 0000 - الساعة:00:00:00

حبسةٌ كتابية عانيتُ منها طيلة الأيام الفائتة، بعد وفاة العم "صالح ناجي الحربي"، لم أستطع امتشاق القلم، كما لو كنت أبحث - عبثاً - عن طرفٍ أمسك به في دائرة مغلقة..!؛ باءت محاولاتي كلها بالفشل، لم أصدِّق الخبر ولم أستوعبه، ظننتُ لوهلةٍ أنَّ الخبر إشاعة حقودة، تمعَّنت جيداً في أحرف هذا الاسم، زممتُ شفتَيَّ متمتماً: "هذا لا يُعقل! ، هذا لا يُصدّق! "، وكأن الموت لا يمكن أن يخترق هالة هذا الرجل، ربما لأنَّ الموت لا يليقُ بمثل هؤلاء الرجال، هؤلاء الآن ليسوا بموتى، بل أحياءٌ في أفئدة الناس وفي ضمائرهم، والميت هو من ينقطع ذكره وعمله وحبه بين هاتيك القلوب، فضلاً عن أنَّ من يحبه الله يحبه بنو البشر ويُكتبُ له القبول في الأرض..
عاش فقيراً ومات فقيراً، فطوبى للفقراء الذين يدخلون الجنة، قبل الأغنياء بخمسمائة عام كما في الحديث الشريف، وهو دعاء النبي بأن يحشره الله في زمرة الفقراء، الفقراء الأغنياء من التعفُّف، إنَّ من يُتقِنُ التفكير بـ"البعد الرباني"، يُيقِن أنَّ لها لغةً كونية عظمى هي "الثروة الحقيقية"، فيفهم أن نظافة القلب وطهارة اليد، وذكر الناس متَّلٌ بذكر الله، وإن هذه لهي الثروة الحقيقية لو كنتم تعلمون، التسلقُّ والتملق والمكر والاحتيال والتذاكي ؛ للحصول على لُعاعة منصبٍ أو رضى من بشرٍ، لهو طريق خاطئ للوصول إلى الله، وفقيدنا وفقه الله تعالى لأن يبتعد عن هذه الأشياء كلها، وهذا ليس بالأمر السهل، لقد سلك الطريق التعب الطويل، حتى تمكَّن من الوصول إلى الذات العليا..! 
أعرفُ أنَّ الوجع أليمٌ جداً، لـ(غياب) الرجل الصالح في الزمن الطالح، و(حضوره) في مكانٍ آخر من العالم الأُخروي، والعالم المثالي الذي لا نصب فيه ولا تعب؛ لكنني هنا أستعيض بموقفٍ من موت عمِّي "محمود" المحمود الذكر والذكرى، في نفس والدي، ودون أن يحرِّك موته في قلب أبي شيئاً، مع أنه رجلٌ عاطفي جداً؛ لكنه يفهم معادلة الغياب والحضور ويعرف من يقف خلفها وهذا هو سرُّ تصبره وجَلَدِه، أتذكر يد والدي الحانية التي تربتُ ماسحةً على رأسي في إحدى الليالي، كان حينها الظلام موحشاً كهذه الحياة تماماً، يسألني والدي معزياً نفسه بمصابه: أتعرفُ يا ولدي على من تقوم الساعة؟!، يقرِّب لي الإجابة : من آخر من تقوم عليه الساعة؟، أتحفز أحاول أن أجيب : مؤكدٌ يا أبي أن آخر من تقوم عليه الساعة هم الملائكة، كما علمونا في المسجد، أن الملائكة هم من ينفخون في الصور وينتزعون أرواح الناس..، ابتسم ابتسامةً إعجابٍ مكسوَّة بحزنٍ دافق، مردفاً قوله بكلماتٍ مندفعةٍ: تقوم الساعة يا ولدي على "شرار الخلق"..!، هذا وعد الله بأن لا يبقى على ظهرها من طيِّب، فلماذا إذن نحزن.. نبكي..، يتبع: عمُّك يا ولدي كان رجلاً من أطايب الناس...،  أبي الآن فهمتُ وعشتُ ما كنت تقوله حينها، هو ذا الآن العم صالح نائم إلى جوار عمي المحمود..
نِعْمَ الوداع.. وداع العمُّ الصالح في الزمن الطالح - كما سميته - العمُّ الذي كان له من اسمه نصيبٌ أيضاً، ولموته من اسمه نصيبٌ كذلك، إذ مات بمنزلةٍ رفيعةٍ، نحسبها عند الله "الشهادة" ولا نزكِّي على الله أحدا، إذ أنَّ موته - رحمة الله عليه - في طريق العودة من (الصلح ذات البين)، وهي من أقرب القربات إلى الله، وهي من "حُسنِ الختام" - كما أظن - إذ أن النبي صلَّ الله عليه وسلم وضعها في مرتبةٍ تتجاوز مرتبة الصلاة والصيام والصدقة، بقوله : "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إِصلاح ذاتِ البين.. وفساد ذات البين الحالقة"، نِعم الوصف، ففساد ذات البين هي الحالقة التي تقسم ظهور المجتمعات، ولا ننسى مجتمعنا بالذات الذي يكتوي بها ليل نهار، ولذا وضعَ لها ديننا مرتبةً من أرفعِ المراتب؛ لأنَّنا للأسف نسينا أهم قيمة مجتمعية، لابد من توفرها في الشخصية المسلمة، الوصل لا القطع، البناء لا الهدم، الصلح لا التفريق، وهكذا يجب أن تحيى مجتمعاتنا، وإلا متنا وأجسادنا حية تمشي وتأكل الطعام، ويسكنها الخواء الفكري، وكذلك كان فقيدنا حياً يمشي في حاجة إخوانه متى ما طُلب منه ذلك..! 
كنتُ أُسمِّي العم صالح بصاحب "الصوت الشاب"، الشاب الخلوق، بحواره وحديثه الهادئ، الذي يسكن في قاع الذاكرة، لم يحالفني الحظُّ للالتقاء به إلا مرةً واحدة، دون أن أعرفه أو يعرفني، كان في ساحة المنصورة ينظر إلي من بعيد، احتفظتُ بنظراته، ولم أعرفه إلا بعد سنين عديدة..!
في الأخير.. لا يفوتني أن أنبِّه أنني استعضت في كتابة هذا المقال، من الذاكرة "الروحانية"؛ لأنني حتى اللحظة أشعر بتكلُّسٍ في التعبير بالكلمات، أرى أنني لا أزال مصاباً باحتباسٍ وقصورٍ كتابيٍّ حاد، عند كتابتي لهذا الرجل الظاهرة في مجتمعاتنا النامية، التي تعبر عن اختلافاتها بحالات الاقتتال البينية بدلاً من الرأي والعقل، ولا غرو أن يشعر الإنسان بتوصيف مشاعر الكمال لخواص الخواص من الرجال، الذين طارت عنهم أخبار العِفَّة، وسلامة اليد والقلب من الأحقاد، ولعمري إنها أزكى الفضائل في بني البشر، عظّم الله لنا الأجر، في هذا المصاب، وأثابه وإيانا في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.. 
   

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص