آخر تحديث :الجمعة 19 ابريل 2024 - الساعة:14:27:11
وجدانُ الموقف…
باسم منصور

الجمعة 00 ابريل 0000 - الساعة:00:00:00

يا كوكبًا ما كانَ أقصرَ عمره…!!

بقلمِ الأسيف، د. باسم منصور

هذا المصيرُ، أكانَ طولَ سلامةٍ ** أمْ لم يكن إلا قليلَ بقاءِ ** واستبكِ هذي الناسَ دمعًا أو دمًا ** فاليومُ يومُ مدامعٍ ودماءِ ** قسماتُ وجهكِ في الترابِ ذخائرٌ ** من عفَّةٍ، وتكرُّمٍ، وحياءِ ** المرضعاتُ سكبنَ في ( وجدانِهِ) ** حُبَّ الديارِ، وبغضةِ الأعداءِ ** وقَرَنَ في أذنيه يوم فِطامِهِ: ** ( أنَّ الدماءَ مهورةُ العلياءِ…)

فاجأنا الاثنين الدامي ال: 29- من يناير- 2018م، بفاجعةٍ تنضافُ إلى واقعنا الذي عجَّ بالمآسي الدامية والفواجع، وحالنا:

نصحوا على عزفِ الرصاصِ كأنَّنا ** زرعٌ وغارتُ العدوِّ حصادُ… !

تلك الفاجعة والصدمة التي لم نفق منها، وأنا أكتبُ صداها المؤلم تحتَ لعلعاتِ الوهم، وداناتِ الوحشة، وأزيزِ (التخلُّف)، قد خَطَفَتْ مِنَّا: الموقف، والمحبة، والخلق، والابتسامة، والشجاعة، والريادة، والعلم، والحلم، إنَّه الحبيبُ: ( وجدان سمير الحوشبي).

عرفتُ (وجدانا) منذ زمنٍ ( عصاميًّا) يصنعُ ذاته بذاته التي سمتْ بهمةٍ تناطحُ النجوم، فأصبحَ رقمًا يشارُ إليه في معادلة المروءة وحاله:

وما المرءُ إلَّا ما يخلِّدُ ذكره ** فما اسْطَعتَ من ذكرٍ جميلٍ فخِّلدِ ** أبى اللهُ أن أسلو عن المجد ** والعلا بقدٍّ نضيرٍ أو بخدٍّ مورَّدِ…!

سيبكيك أيها الحبيبُ - الذي ترك وجدا غائرا في قلوبنا يصعبُ شفاءه - (البرُّ) بكلِّ ميادين الشرف والبطولة، وأنت تسعى مع الأبطال، والشرفاء لتحرير عدن في (2015م)، وقد لفحتكم بارودات العزِّة، حين تثآءب كثيرون، وتباطأ وتردد آخرون... فكنت وكوكبة تؤمنون بيوم الخلاص وكان ما آمنتم به...!!!

سيبكيك أيها الحبيب - الذي أشرقتَ مبكرا رغم حداثة سِنك؛ ذلك السِّن الذي إمتدَّ طويلًا بمواقفك - (البحرُ) الذي قطعتَ لجَجَهُ فوق سفنِ الإمداد، وأنت تحملُ الدانات، والذخيرة، والعتاد الذي حقق النصر، حيثُ البريقة ومدينة الشعب التي شهدت أول تكتلٍّ لردع التعدي الآثم، ولم تسقط وظلتا والمنصورة ودار سعد عناوينَ للنصر، ومعها خور مكسر التي قدَّمت التضحيات وكانت بوابة الانطلاقة في أغسطس 2015م، والمعلاء، وكريتر، والتواهي...الخ، التي سقطتْ بعضها بعد قتال ضروس.. كنت - أنت- ضمن تلك الكوكبة التي قبَّلتْ قدماك كل تراب عدن دفاعًا، عنها وأنتم عدد أصابع اليد مخلصون للفكرة الجهادية في زمن الموقف، ووضوح الرؤية ليوم الإنعتاق..!

ستبكيك - أيها الحبيب الذي تركتَ ملذاتِ الحياة، وأُنْسَ الأهل، وحميميَّة القرية ودفئها- (السماءُ)، وأنت ترفرفُ راياتٍ من انتصارات في الزمن الكفاحي الطاهر تبشِّر بميلاد وطن يسوده: ( المحبَّة، والوئام، والسلام، والاستقرار، والأمن، والحرية، والعدل، والشراكة الحقيقة، وحرية القول، والقبول بالآخر… و، و..؛ زمن ينأى عن الفوضى، والصراع، والفساد، والإنتقام، والحروب، والتبعيَّة، ومصادرة الرأي، والوصاية… و، و…!!

أيها الراحل عنَّا، لِما قررتَ الرحيل
ونحن أحوج ما نكون لأمثالك؟؟!!
أيها الموقف الذي أوفى ذمته فلم يتوانى عن الواجب…، لِما عشقت السماء وحططتَ فيها عصا السفر الطويل… وأنت أنت من لامستَ يداه وجهَ الأرضِ تنفضُ عنه غبار الاحتلال فتبسَّمتْ بعد عبوس ؟! لِما تركها وهي تعشق البناء، والبقاء، وتبتسم لك دوما فهجرتها عابسة المحيَّى بعد تناقض ما أردناه سويَّا ؟! هل رأيت في دنيانا ما رآه الأولون؟ فرددوا:

تعفنتِ الدنيا بأخلاق أهلها ** أما لك يا جلدَ البسيطةِ دابغُ…!

أيها الفتى، الذي صحبناك وأنت ترفع اسمك عاليًا في ميادين الحراك السلمي في زمن تشكُّله الطبيعي فتًا يافعًا يثير الانتباه نجابةً، وريادة… وفي ميادين العلم لك جولات، وجولات...!

كم كانت سعادتي وأنت تبشرني بتخرجك من كلية العلوم الأدارية - جامعة عدن - قسم: ( المحاسبة…!!) كم كنت فخورا بك وأنا أطرز تهنئتك العلمية بأحرف من سناء….!! فكنت تتوالى انتصارا وأفراحا… نصركم المؤزر بالحرب ، وانتصارك العلمي بالتفوق والتخرج...!

أيها الحبيب، أحاول أن أتصوَّر كيف يكونُ شكلَ الفرج من حزنٍ طوقني، وخنق عبراتي فكاد يعصفُ بي فشرِقَ بي ؟!، أحاول أن استرجع آخرَ كلماتك ونحن نتجول وإياك في سيارتك قبل أسبوع وتركت كل ارتباطاتك وما أكثرها!! ؛لتحدثني عن شكل الوطن وكلَّك تفاؤل بميلاد الجنوب الجديد، وكيف أنك برفقة أمك تهنى معها أطيب الأوقات في عدن بعد بعاد طويل! أحاول أن أتخيل كيف أوجعها الألم فالله الله كيف حالها عند سماع نبأ الفاجعة بابنها البكر الذي قرر أن يراها كل لحظة فستأجر منزلا لها في عدن،كانت فخورة بك حقا، وحقَّ لها أن تفخر…!
كيف كنت تحدثني بأشراق عن موعد زواجك واستقرارك بعد رحلة عطاء والفرحة تملأ عينيك بعد خطوبتك وقربَ السكينة العاطفيَّة!
كيف كنتَ حريصًا على الوفاء الذي لازمك.. وأنت تصف لي حجم محبتك لأخي المهندس: حسام منصور رفيق درب الدراسة والصبا والذكريات…!!

لا أجد تعبيرا يسعفني وأنت تفدي رفاقك بنفسك في ذلك اليوم الاستثنائي يوم الوفاء للموقف عندما قرَّرتَ الرحيل! كيف لي أن أتصوَّرَ ابنَ عمك الحبيب: (توحيد)، ورفاقه وهو يجوبون المستشفيات بحثًا في ثلاجات (البراءة) عن سجاياك بين مواكب الراحلين بلا ذنبٍ أو جريرةٍ أقترفتموها…!!
كانوا باحثين عنك تحت وجع نيران الرفاق، توحيد: الذي يجوبُ الشوارع - في لحظة ذهول- والسماء تتساقط نيرانًا من الكراهية، وشظايا ستبقى تداعاياتها جرحًا في خاصرةِ الوطن يصعب تطبيبه على المدى القريب…. لم يبالِ بتلك الراجمات إذ رحل شقَّه الآخر فيالوجعِ الراحلِ وألمِ الباحثِ عن ذاته بين أشلاء المرارة… يبحث ويبحث تحدوه لعلَّ وعسى.. !!

كيف لي أن أجد تعبيرا لأقنعَ ابني: (مجد) الذي تعوَّد رؤيتك ..ماذا عساني أن أقول، وقساوة اللفظة عصيَّة على التعبير والاستيعاب…. سأقول له رحل الحبيب بكل سجاياه… رحل مشروع بطولة أُجهضَ قبل أوانه!! كيف لي أن أنسى أيام الزمن الجميل في مدينة الشعب ونحن نقتات رحيق المعرفة في غرفة واحدة أعواما…!

قد يقتلُ الحزنُ من أحبابهُ بَعَدُوا ** عنه، فكيف بمن أحبابُهُ فُقِدوا…؟؟!! ** خلعتَ ثوبَ اصطبارٍ كان يسترني ** وبان كذِبُ ادَّعائي أنني جَلِدُ ** بكيتُ حتى بكى من ليس يعرفني ** ونحتُ حتى حكاني طائرٌ غَرِدُ ** ضاقتْ مرابعُ ( عدن) بما رحبتْ ** عليَّ والتفَّتِ الآكامُ والنُجُدُ ** والله لم يحلُ لي مغدىً ومُنْتَقَلٌ ** لمَّا نُعِيتَ ولا شخص ولا بلدُ ** أين المفرُّ وما فيها يطاردني ** والذكرياتُ، طَرِيًّا عودُها جُدُدُ… !

وفي هذا السياق الأليم ، هل آن الأوان (للإخوة) بكل أشكالهم أن يتجهوا للمستقبل، ويتعظوا، ويكونوا بمستوى حجم التلطعاتِ ويبنوا سدًّا من القطيعة مع الدماء؛ فإن المطالع للتاريخ بكل أبعادهِ لا سيما التاريخ العربي - تحديدا- يجدُ أن النزيف السياسي لفعل الإستبداد و التفرد لم يزل على أرصفة الجغرافيا منذ قرونٍ طويلةٍ، هذه الجغرافيا التي ازدحمتْ بالقتلى، والجرحى، وأنْات السواد الأعظم من عامة الشعب، لم تكن نخبها السياسية -يوما- عند مستوى المسؤولية تجاه شعوبها، وتطلعاتهم إلا من حالات نادرة يحدثنا التاريخُ عنها؛ إذ ذهبتْ تلك النخب تخبطُ في فضاءٍ من العدم، وتأخذُ من بطونِ التاريخِ أسوأَ التجاربِ التي لا يمكن الركونُ إليه لتحويل هذه الجغرافيا إلى وطن، يؤمنُ بأنَّ الجميع يمتلكون حقَّ القولِ، وحقَّ العيشِ، وحقَّ المواطنةِ، والشراكة في تقرير ما هو شكل الوطن ومضمونه،

ولعلَّ رواد الاستبداد لم يفقهوا أن التنوع والتعدد سنة كونية في التنافس لإنتاج الأفضل وليس للتناحر، والتراشخ، وفي التأريخ الحديث والمعاصر كانت إندونيسيا أنموذجا رائدا من بين الدول التي نهضت فبرغم تعدد مِللها ، ونِحلها، ولهجاتها التي بلغتْ المئات، فقد أطلقت شعارها الأمثل: ( الوحدة في التنوعِ)، ونطالع اليوم أين وصلت كأنموذج لتجسيد مبدأ الشراكة،
وإن مفهومَ (الغلبة) مهما تبيَّأ في الواقع فالتاريخُ شاهدٌ على زوال ذلك المفهوم، ومن لم يطالع التأريخ ففي نظرته للمستقبل شك فضلا أنه لم يستوعب الدرس بعد!! كما لا يحقُّ له أن يفتي عن المستقبل.. !!

ونحن نودِّع (وجدانًا)، ورفاقة الذين تجاوزوا الأربعين قتيلا خلال أيام ثلاثة عدا الجرحى الذين بلغوا المئات ، هل كان لكل هذه الدماء من مبرِّر لو حكَّمتَ الأطراف جميعها (العقل) ، واستشعروا قيمة الدم الذي ينزف…؟!
هل تشعر الأطراف الجنوبية ما يكيدُ ويمكرُ بها، وأن الأعداء أصبحوا شامتين متندرين، وأن العالم أدرك مدى غباء بعض الأطراف…! لو أن هناك عقل يؤمن (بمبدأ الشراكة) ، وينأى عن حسابات الوهم، هل حصل ماحصل!!
لو ترك للشعوب حق تقرير مصيرها وعيشها واختياراتها السياسية كمبدأ سامٍ مكفول في الشرائع وآمنتْ به شعوبٌ فأرتقتْ؛ لحصلَ ما حصلَ من مشاهد دموية مؤسفة!!
إنَّ تمجيد قيم القوة، والسلاح، وعنتريات خارج خارطة الصراع الحقيقي لن يسهم في بناء الأوطان، بل تعجِّل في زوالها…! وإن لغة الغلبة من أي طرف لن تكون إلا معول هدم للنسيج الاجتماعي الذي يُعَدُّ من أخطرَ ما يعترض مسار بناء الدول…؛ لذلك يكون مبدأ الشراكة ضامنا للحقوق؛ ومعه يشعر الكل أنه ينتمي للدولة فيتفانى لبنائها والعكس صحيح… !

رحل (وجدانُ)ولم ترحل سجاياه عن عالمنا الذي نراه فيه يملأوه عطاءات في كل المحافل ، لن نتذكرك أيها الحبيب لإننا لن ننساك…!!!:

سأنعي سجاياه التي زانتِ اسمهُ ** وكانت لهُ تاجًا على التاجِ زاهيا ** ولو أنَّها تُغري المنيَّةَ فِديةٌ ** لما أخذتْ يومًا كمثلك غاليا ** فِدًى لك يا هذا المفدى محبَّةً ** ولكنَّه لا يقبلُ الموتُ فاديا ** فضجَّتْ على الأرضُ التعازي لفقده ** وضجَّتْ بلقياه السماءُ تهانيا ** إذا غاب جسمُ النجمِ ظلَّ شعاعه ** سنين يجلَّي للسراةِ الدياجيا…

كلُّ العزاءِ والمواساةِ لذويك ومحبيك ولنا، وفي صدارتهم :
والدك الحبيب الأستاذ: سمير محسن الحاج
والقاضي: خالد محسن الحاج
والطبيب: سراج محسن الحاج
والأستاذين: شوقي ووضاح محسن الحاج…
والخلوق الحبيب : علي محسن الحاج..
وإخوتك الأحبة: فؤاد، حمزة، خالد، أسامة، وعبد الله، سمير الحاج، وكل بلاد الحواشب… بهذا المصاب الجلل، عصمَ اللهُ القلوبَ بالصبر، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولة ولا قوة إلا بالله…

أمَّا القبورُ فإنهنَّ أوانسٌ ** بجوارِ قبرك والديارُ قبور ** عجبًا لأربع أذرعٍ في خمسةٍ ** في جوفها جبلٌ أشمُّ كبيرُ…

عدن
31 - يناير- 2018م..

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص