آخر تحديث :الثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - الساعة:10:51:00
عن الوصية أكتب
منصور صالح

الثلاثاء 00 نوفمبر 0000 - الساعة:00:00:00

لم أفكر في كتابة وصيتي قط ولم أكن أجرؤ على ذلك إلا في تلك الأيام القاتمة التي عاشتها عدن بعد انتهاء الحرب ورحيل المليشيات ،وحدها تلك الأيام السوداء جعلتني أتذكر مالي وماعلي ،وأقوم بتدوينه في مذكرة وضعتها في مكان بارز حيث أضع أهم أشيائي ، يقينا لم أكن إنسانا مهما أو موضع استهداف ،لكن نار القتل المستعرة حينها كانت تجعل من كل شخص هدفا و ضحية ان كان في سوق أو على سيارة أو حتى ذاهب لصلاة الفجر ، كان مبلغ الحلم لكثير من الناس هو ميتة نظيفة دون تعذيب أو ذبح أو تشليح.
ذات مساء من تلك الأيام ، تلقيت اتصالا من قناة عربية تطلبني الحضور الى استديو البث الفضائي في المنصورة ، لأكون ضيفا على نشرة العاشرة ،اعتذرت بلطف ،فردت الموظفة بصوت لبناني لا يقاوم ، اذا بتريد أتمنى تكون معنا سنتحمل مواصلاتك وسندفع مكافأة ظهورك معنا ضعف ماهو معمول به ،كان العرض مغريا لو انه في لحظة أخرى لكنني قلت لها : على قول ابني (واااباه.. واعصيد ) أي ضعف ستدفعين ، ممكن ادفع حياتي بكل سهولة لمجرد إن القاتل يريد اختبار سلاحه وحتى دون إن يعرف من أنا.
كان وضعا مأساويا جدا ،لم تعشه عدن حتى في أسوا أيامها قبل ذلك ،كنا ننام على أخبار القتل والذبح ، ونصحو عليها ، حتى ان الطيبين جدا ممن كانوا يفرحون بما آلت إليه عدن كانوا ان لم يجدوا خبرا لمقتل شخص ألفوا خبرا من عندهم ،حتى ان احدهم كتب على الواتساب عاجل : اغتيال العقيد خريط بن زريط العولقي في الشيخ عثمان فتناقل الناس الخبر دون التفكير حتى في اسم القتيل ، فقط لأنهم يعتبرون القتل في عدن أمرا اعتياديا. 
حين جاء اللواء عيدروس بمعية اللواء شلال إلى عدن لقيادتها ،كان كثيرون ،يشفقون عليهما ، فالمهمة شاقة جدا ، مرت أشهر ومسلسل القتل مستمر، حتى العجزة وممرضيهم لم يسلموا من القتل في دارهم ، كان هذا القتل اليومي المنظم يسعد أولئك الطيبين جدا ، فكانوا يرددون بتهكم وسخرية،لم يستطيعا حكم شارع التسعين فكيف سيحكمان عدن ،او سيستعيدا الجنوب .
مرت الأيام وكان عيدروس وشلال ،يعملان بصمت ،وصبر -ورغم شحة الإمكانات - على بناء قوة أمنية ضاربة تستعيد عدن من براثن الإرهاب والفوضى ، تعرضا لمحاولات قتل عديدة وخسرا عددا كبيرا من خيرة مرافقيهما من الشباب المقاوم ، لكنهما واصلا بعزيمة أقوى حتى كان لهما ما أرادا ،فاستعادا عدن ،ولحج ووصل خيرة شبابهما إلى أبين وحضرموت في ذات المهمة النبيلة وهي استعادة الأمن وإحلال السلام المفقود.
تحول المتشفون والشامتون والساخرون سابقا ن إلى نائحات ،تطالب بالرحمة بالمجرمين ،وكرسوا كل جهودهم وإعلامهم لتشويه رجال الأمن الذي تحولوا فجأة من قوة هزيلة في نظرهم الى قوة غاشمة همجية وزوار ليل.
لم يعد هناك خريط زريط العولقي ،يقتل بسبب غياب الامن بل وجد الناس أنفسهم امام حكايات أخرى مواطن مقهور احرق نفسه بسبب قسوة معاملة رجال الأمن له.
بدوري لم اعد حريصا على وصيتي بل مزقتها ،فقد كانت كابوسا يؤرقني ويذكرني بتلك الأيام السود.

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص