آخر تحديث :السبت 01 يونيو 2024 - الساعة:13:43:13
حول الخطاب السياسي الجنوبي وأزمة القيادة
أحمد عبداللاه

السبت 00 يونيو 0000 - الساعة:00:00:00

واحدة من أهم إشكاليات الحراك الجنوبي تتمثل في لغة وعمق الخطاب السياسي ومدى تقبّله داخلياً وخارجياً، فعندما تسمعه أو تصغي إليه أو تقرأه تجد نفسك أمام مطرقة متقادمة تصعد وتهوي بوتيرة واحدة على رأس مسمار في حائط خرساني.

مظلوميات وحكايات ?? والثروة والأراضي والوظائف.. أصبحت فولكلور شعبي يتكرر في أذهان العالم الذي وجد له تعليلاً في فساد الدولة في صنعاء ورأى انه يمكن إصلاحها تدريجياً من خلال تخفيف عبء المركزية.

أما الأمر الآخر فيكمن في وحل الهوية التي يبحث عنها الجنوبيون بصورة متباينة ويحاولون اكتشافها باستخدام مفاتيح مختلفة لمكمن الجذور والانتماء.. مع أن الهوية السياسية مسالة ديناميكية وليست ساكنة، فالشعوب في أرض اليمن والخليج والشام والمغرب العربي ومصر مع السودان لها روابط عامة ولها أواصر بينية خاصة، تاريخية وجغرافية وقومية، لكن رغم الجوار الجغرافي أو التداخلات التاريخية والبشرية، فإنّ لكل قطر هويته السياسية وبيئته الثقافية وسمات اجتماعية عامة تنعكس في طريقة عيش الناس وسلوكهم وطموحاتهم وتميِّز كل قطر عن جيرانه بشكل بديهي، ولا غرابة في أن يكون هناك اختلاف بين الشمال والجنوب في اليمن فهناك أيضا اختلافات كبيرة بين دول متجاورة ومتداخلة كالسعودية والبحرين، والكويت والعراق وبين العراق وسوريا وهناك اختلاف بين مصر والسودان وفي المغرب العربي بين تونس وليبيا وبين المغرب وموريتانيا وفي الشام بين لبنان والأردن وسوريا، وهكذا ولا ننسى أننا نعيش حالة الدولة العصرية التي نشأت في القرن العشرين وليس في سبأ وحمير أو في زمن هارون الرشيد.

ولهذا يمكن للجنوب أن يكون ما يشاء يمنيا أو عربيا لأن الاسم مجرد تعريف للدولة، بشرط أن يبتعد عن الخطاب العنصري وعن فرضية الجذور الجينية المطلقة أو الاصطفاءات العرقية التي لا وجود لها.. لأن في ذلك مجافاة للحقيقة وتجريح عظيم للذات قبل كل شيء.. وعليه أن يبحث عن مفاهيم وتخريجات عصرية كي يحترمه العالم، لأن الجنوب والشمال شقان لانتماء كبير بغض النظر عن الهوية السياسية للدولتين.

وعلى الجنوبيين التركيز على أزمة الوحدة اليمنية باعتبارها عملية سياسية كارثية ولم تكن قدرا محتوما، بل كانت مجرد ضرورة في المخيال السياسي، تلك الضرورة التي تخون نفسها من أول لحظة، ثم تحولت إلى رغبة متسرعة ومتهورة لمهندسي لحظة التدمير الذاتي دون استفتاء أحد.. والكارثة فيها أن الجنوبيين تحولوا من الدقيقة الأولى إلى أقلية شعبية مضطَهَدة لا يوجد أمامها أفق للحفاظ على حقّها في ميزان الحياة أو في التعايش المتكافئ، وليس بمقدورها التعاطي مع ثوابت الواقع الجديد، ومن المستحيل أن تستطيع المنافسة في إطار السلطة والجيش والقبيلة والأحزاب كما أنه ليس بمقدورها المنافسة في الاقتصاد والتجارة والتعليم أو في سوق العمل، وغائبون تماما في كل المجالات الحيوية حتى في مؤسسات المجتمع المدني، وأن الوحدة القسرية هذه باتت تحمل مشروع ضياعا كاملا لشعب عظيم سجّل حضوراً تاريخياً قوياً في عهود مختلفة، وأصبح الآن مهددا بالانقراض المعنوي والروحي.

ولهذا لا يوجد سبيل للحلول الجزئية؛ لأن المسألة تتعلق بحياة الجنوبيين بمفهومها الشمولي وليس بحقوق مدنية محددة. وفي ظل غياب دولة مدنية حقيقية وغياب قيم العدل والمساواة والديمقراطية والحرية فإن الوحدة اليمنية تقود إلى انحسار شعب بأكمله وتصبح لهذا مصدرا دائما لعدم الاستقرار في هذا الجزء من العالم.

ولا أحد يظن أن بناء الدولة أو تأصيل تلك القيم في السلطة والمجتمع مسالة تتعلق بالنوايا أو بقرار سياسي لأنها قضايا بحاجة إلى عقود وتاريخ لكي تصبح جزءا من الثقافة العامة للمجتمع ومترجمة في الواقع ليس فقط في المبادئ الدستورية التي تحكم السلوك العام للدولة من الزاوية النظرية. ولهذا فإن المسالة الجنوبية ذات مضمون إنساني وسياسي في آنٍ واحد، حيث لا يمكن للمجتمع الإقليمي أو الدولي أن يتلاعب بها لغرض جيوسياسي ويفرض إرادة الطرف الأقوى على الطرف الضعيف.

إن انحياز المجتمع الدولي والإقليمي لشكل الوحدة القسرية الحالية بعناصرها المهيمنة يشجع بلا حدود سلوك مراكز القوى اليمنية وجيوشها ومليشياتها باستخدام أبشع ألوان البطش فيصبح القتل اليومي والإعدامات الميدانية وقصف المدنيين الأبرياء مباحا طالما وهناك إرادة دولية لفرض إرادة الطرف القوي والتغاضي عن قمع الحريات الرئيسة وحقوق الإنسان واستخدام القوة المفرطة وكل أشكال التضييق على الناشطين الحراكيين في الجنوب. وكل ذلك سيقود بالطبع إلى تعقيد المشهد ووضعه على شفير المجهول المخيف بشكل ربما يفاجئ العالم ويقود إلى كوارث وصراعات دموية بين الناس أنفسهم.

القيادات الجنوبية القديمة، من زاوية أخرى، ما زال وسيظل سلوكها وخطابها السياسي (معذرةً) مشابه تماماً لحالات التّبوُّل اللاإرادي المستعصية، كما أن تاريخها لا يقدّم أي إضاءات تمكّنها من الحضور النقي المجرد عن مسبّقات كبيرة... ليس فقط لأن تلك الأسماء ارتبطت بتاريخ من المآسي بل لأنها مع كل ذلك لم تدرك أن الحاضر نتاج لتاريخ من الأخطاء العظيمة وأنه يتطلب معادلات مختلفة وعلاقات لا تنتمي إلى الماضي بشيء وتخلو من الطموحات الذاتية للحكم والتفرّد. أما القيادات الميدانية فإنها تمثل الوجه الثوري اليومي غير المسيّس وتستمد حضورها وتأثيرها من تبعيتها المطلقة لقيادات الخارج.. وهذه أزمة مركبة تجعل السلوك والخطاب الجنوبي رهائن المحابس القاسية.

شباب الحراك الجنوبي يقدمون أرواحهم وتسيل دماؤهم بشكل يومي وفي ظروف صعبة وخطرة، من أجل مستقبل الأجيال؛ لهذا فإن الأولوية اليوم تكمن في معالجة تلك الأزمة بشكل ملموس وواعي جداً، وأن تدرك القيادات أن عليها التضحية أولا، والعمل على إيجاد شكل سياسي وطني جامع تتقدمه نخبة مميزة ومقبولة، قادرة على قيادة العمل السياسي في الداخل ومخاطبة العالم لكي يرى جنوباً جديداً ويسمع لغةً جديدةً.

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحيفة الأمناء PDF
تطبيقنا على الموبايل