آخر تحديث :الثلاثاء 07 مايو 2024 - الساعة:01:19:13
"الأمناء" تنشر تقريرًا مطولًا عن تاريخ مدينة الشيخ عثمان منذ الثمانينيات
(الأمناء/ كتب/ المؤرخ سلطان ناجي)

في الوثيقة السرّية رقم 18 المؤرخة في 24 فبراير 1858م والموجهة من المقيم السياسي البريطاني في عدن (دبليو .أم . كوغلان) إلى حاكم الهند (إتش . أل . أندرسون)، وعندما كانت النيّة مُبيّتة للهجوم على الشيخ عثمان، يحاول كوغلان إعطاء الحاكم البريطاني في الهند لمحة تاريخية عن هذه المدينة اليمنية بقوله: (ويجدر هنا أن نعطي إشارة قصيرة عن أهمية الشيخ عثمان. فهي قبل تاريخ هذا النزاع بمدى خمسين عاماً لم تكن سوى مزار وبها مسجد يصلي به المسافرون ومحطة للقوافل. وبعد ذلك بُنيت قلعة صغيرة بالقرب منها كان يحرسها بعض أفراد قبيلة العبدلي بقيادة ضابط يعينه سلطان لحج، أما بقية السكان و عددهم نحو خمسين رجلاً فيعملون في صيد السمك وجمع الملح. وعلى الرغم من توفر المياه فلم تقم زراعة هناك.

ومنذ زاد الطلب على المياه في عدن قام السلطان علي بتعيين حراسة للآبار ثم احتل أفراد من قبيلته المنطقة التي تعتبر ملتقى الطرق الآتية من الداخل والسائرة عبرها والتي منها تأتي غالبية المؤن الضرورية إلى عدن.

فالموقع ذو أهمية بالغة ويعطي للمتحكم فيه الحماية أو المضايقة لكل من يقترب من أبواب عدن. وهو على بعد ميلين و نص من خور مكسر الذي يُعد نهاية حدود الأراضي البريطانية في اتجاه لحج، أما المنطقة الواقعة بين الشيخ عثمان ولحج فتسكُنها عشيرة العزيبي وهي فرع من العبدلي.

إن استيلاءنا على الشيخ عثمان يعد ضربة قاسية للسلطان علي، فقد يمنعه ذلك الحصول على أية دخول من الآبار، هذا بالإضافة إلى فقده لراتبه الشهري مما سيؤدي في النهاية إلى خضوعه لنا، ثم أن احتلال الشيخ عثمان سوف يؤدي إلى المحافظة على جعل الطرق مفتوحة في كل المراكز حتى لحج نفسها وبذا يمكن لعدن المتاجرة مع المدن الأخرى ولن يستطيع السلطان علي أن يعيق هذا الاتصال).

حسب الوثيقة أعلاه إذن فإن الشيخ عثمان كانت في بداية القرن التاسع عشر لا تزال عبارة عن قبر أو مزار للولي الشيخ عثمان المدفون فيها والتي سُمّيت باسمه ثم عُشش قليلة تستوعب حوالي خمسين صياداً وملاحاً، ويؤيد هذا الكلام (هنري سلت) الرحالة البريطاني الذي زار المنطقة قبل ثلاثين سنة من الاحتلال البريطاني لعدن.

فعندما تكلّم عن منطقة الشيخ عثمان عام 1809م وهو في طريقه إلى لحج، يُظهر لنا أنها كانت لا تزال غابة من الغابات فهو يقول: (بعد حوالي نصف ميل من قبة الولي توغّلنا في غابة عميقة.. وتمتد هذه الغابة حوالي ثمانية أميال ويُقال أن الواحد سيمشي يومين كاملين عرضها من الغرب إلى الشرق)، ثم يُضيف سلت قائلاً: (إن الأغنام و الجمال كانت تُشاهد في كل أنحاء الغابة وإنها كانت تقتات الأوراق أو الأغصان الطريّة). كذلك فإن خارطة رسمها هينس عام 1839م تُظهر وجود غابة في هذه المنطقة.

ولا شك أن منطقة الشيخ عثمان كانت ضاحية من ضواحي الميناء (كريتر) وأن ازدهارها و ذبولها ارتبط بمصيره، إلا أن التسمية الحالية لا ترجع إلى أكثر من حوالي المائتي عام.

 و في حوالي 1500م (أي قبل 475 عاماً من الآن) هناك ذكر بأن الملك عبد الوهاب بن طاهر قد مد ساقية للماء من خارج عدن إلى كريتر من بير (أم هيت)، وكان طول الساقية (16000) ياردة. والاحتمال أن ذلك البئر كان في مدينة الشيخ عثمان.

وبعد احتلال الإنجليز لعدن عام 1839م نجد أن الشيخ عثمان تصبح المكان الرئيسي لتجمّع المقاومة ضد الاحتلال البريطاني لعدن. فمعظم الهجمات الرئيسية التي كانت تُشن ضد كريتر خلال الخمس عشرة سنة الأولى من الاحتلال البريطاني كانت تبدأ من الشيخ عثمان. فمثلاً في 11 نوفمبر1840م تجمّع حوالي خمسة آلاف مقاتل جنوبي من قبائل لحج وأبين في الشيخ عثمان و قاموا بغزو عدن.

ولكن بما أن الإنجليز كانوا يسيطرون على جبال عدن وكانوا يمتلكون أسلحة ثقيلة ومتطوّرة استطاعوا صد الهجوم الجنوبي قرب جبل حديد، واستُشهد في هذه المعركة أكثر من مائتي مقاتل وجرح ثمانية وثمانون، أما الأسرى فقد أُستشهد ثمانية من كل تسعة منهم.

كذلك كان هجوم جنوبي آخر في يوليو 1841م، وحاول الجنوبيون تسلّق جبال كريتر ولكن نيران المدافع البريطانية من الجبال ومن ظهر السفن الراسية أنزلت بهم خسارة فادحة.

وخسر أهل الجنوب حوالي ثلاثمائة شهيد وخمسين جريحاً.

وفي 11 أكتوبر قام الإنجليز بغزو الشيخ عثمان وتمكّنوا من تدمير نوبة الشيخ مهدي ثم قلعة الشيخ عثمان ذاتها.

واستمرّت الشيخ عثمان تُستخدم كمكان لتجميع المقاومة. فعندما جاء الشريف إسماعيل بالمجاهدين من وسط الجزيرة العربية لغرض إخراج الإنجليز من عدن نجد أيضاً أن الشيخ عثمان تصبح مكان رئاسته في عام 1846م ومنها كان يرسل هجماته. ومرة ثانية قام الإنجليز في 1858م بالهجوم على الشيخ عثمان بقيادة كوغلان نفسه المقيم السياسي البريطاني الثاني في عدن ودمّروا القلعة، وأُستشهد أربعون جنوبيا.

 

اتفاق الإنجليز مع السلطان العبدلي

وفي عام 1868م استطاع الإنجليز أن يتفقوا مع السلطان العبدلي على إقامة قناة للماء من الشيخ عثمان إلى برزخ خور مكسر، فقد بُنيت هناك داخل السور التركي قرب جبل حديد بركة كبيرة لاستلام مياه القناة ومنها كانت تحملها جواري الجمال عبر بغدة (نفق) جبل حديد إلى كريتر. وكانت مسألة الماء من القضايا التي كانت تؤدي إلى تبادل الهجمات بين الإنجليز وأهالي الشيخ عثمان وذلك بسبب فرض السلطان الضرائب والرسوم على أحمال المياه التي كانت تأخذها الجمال إلى عدن كلما ساءت العلاقة بينه وبين الإنجليز.

ونتيجة الوجود التركي الثاني في اليمن الشمالي، فقد قام الإنجليز بتوسيع منطقة نفوذهم، فاستطاعوا بأثمان بخسة أن يشتروا عدن الصغرى من العقربي ثم الشيخ عثمان من السلطان العبدلي وذلك بمبلغ خمسة وعشرين ألفاً من الريالات وكان ذلك عام 1882م. ويعود تخطيط مدينة الشيخ عثمان وبناؤها بالشكل الذي هي عليه الآن إلى ما بعد ذلك التاريخ. أما مدينة الشيخ عثمان الأصلية فهي قرية الشيخ الدويل التي بجانبها قبر الولي والذي سُمّيت المدينة باسمه.

وفي عام 1885م استطاعت شركة إيطالية تأسيس أول صناعة للملح في منطقة الشيخ عثمان وتبعتها في عام 1899م شركة هندية. وبسبب الحاجة إلى مئات من العمال في هذه الصناعة الناشئة بدأت الشيخ عثمان تتوسع . كذلك بسبب ازدحام السكّان في كريتر انتقلت أعداد لا بأس بها إلى المدينة لا سيما أن مشكلة المياه لم تكن موجودة فيها مثل كريتر و المعلا و التواهي. وكذلك فإن هواءها البرّي العليل خاصة أثناء الليل قد جذب إليها بعض الموسرين من كريتر فكانت لهم بيوت في الشيخ عثمان خلال فصل الصيف أو بساتين ذات برك للسباحة في ضواحي المدينة.

وفي بداية هذا القرن دُفن في المدينة الولي (هاشم بحر) وسرعان ما أصبحت زيارته أهم من زيارة الشيخ عثمان في (الشيخ الدويل) الذي سُمّيت المدينة باسمه، بل وأصبحت زيارة الهاشمي تكاد تكون أهم زيارة في عدن. ولا شك أن موقع المدينة قد ساعد على جذب الناس إليها يوم الزيارة كنوع من الفسحة و للهروب من هواء كريتر الرطب الحار.

ويصف لنا الريحاني الذي زار عدن في مطلع هذا القرن هذا الولي بأسلوبه الساخر قائلاً: ( إن ولي الله هاشم بحر كان يشتغل حمالاً عند أحد التجار في كريتر، وقد لاحظ عليه صاحبه كثرة إدمانه تعاطي القات بعد الظهيرة والنوم الكثير في الصباح. وفي مرة من المرات جاء إلى صاحبه وهو يحمل كيساً من النقود، فترجاه أن يشتري له بقعة في الشيخ عثمان ليبني له عليها مسجداً لأنه أراد أن يُطهّر المدينة من إغراء الصوماليات و كذا من شرّ عساكر الإنجليز الذين أفسدوا أخلاق الشيخيين بسبب ترددهم الدائم على أماكن البغاء. واشترى التاجر البقعة وبنى هاشم بحر عليها المسجد و بعد مدة بعث الله له الوحي – أسلوب ساخر من الكاتب - بشكل (حُمّى) فأوصى بأن يُدفن جسده تحت قبّة المسجد ولكن ذلك لم يكن ممكناً ما لم توافق سكرتارية المستعمرة على إعطاء الرخصة. فقام الوسطاء و ذهبوا يطالبون بالرخصة و لكن دون جدوى. فما كان من ولي الله الصالح إلا أن بعث بإنذار شفوي و هو على فراش الموت و هذا نصه: "قولوا للإنجليز إنني لن أموت إن شاء الله قبل الحصول على الرخصة". فأُعطيت له الرخصة لأن الإنجليز كانوا يحتاجون إلى ولي جديد في المدينة).

وفي الحرب العالمية الأولى تعرّضت المدينة للهجوم التركي. فقد استطاع علي سعيد باشا عام 1915م أن يحتل لحج وانسحب الإنجليز من مدينة الشيخ عثمان. و قد قام أهالي المدينة بإعلان استقلال المدينة وعلى رأسهم أحد فتوات المدينة المشهورين واسمه (بنتيشه). وخلال تلك الأيام التي لم تكن توجد سُلطة في المدينة تعرّضت بعض الدكاكين للنهب وقُتل بعض التجّار. وقد جاء بعض السكان بالأتراك و بقوا فيها بضعة أيام ثم انسحبوا منها فعاد الإنجليز واحتلوها.

ومن المؤسسات القديمة في الشيخ عثمان والتي كانت تجذب الناس من الأرياف مستشفى الإرسالية الذي كان يُعرف باسم مستشفى (كيث فولكنر) والذي تأسس في بداية هذا القرن. وقد ارتبط بالمستشفى قيام مدرسة فيه كان لها الفضل في تعليم الرعيل الأول من شباب الشيخ عثمان. وقد أصبح المستشفى يُعرف فيما بعد بمستشفى (عفارة) ، وكان عفارة أول طبيب جنوبي.

وازدادت أهمية الشيخ عثمان في بداية الثلاثينات عندما حُفرت الآبار الارتوازية في بستان (الكمسري) وأصبحت هي التي تزود كل مناطق عدن بمياه الشرب. وفي الجهة الشرقية من المدينة يُصنّع ياجور البناء (الطوب) وكل أنواع المدر والفخار والخزف ولهذا سميت هذه الجهة بالممدارة.

كذلك فقد كان نوع من العرق يُصنّع في تلك المنطقة، وكان لليهود شوارع خاصة في الشيخ عثمان. وفي اضطرابات عام 1947م قُتل منهم العشرات وهاجر الباقون إلى الأرض المحتلة وقد أُقيم معسكر خاص في غرب المدينة سمي بمعسكر حاشد لتهجير اليهود من هناك بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الجهة الشرقية الجنوبية كانت توجد ثكنات جيش الليوي ـ الجيش المحلي ـ الذي أُسس بعد الحرب العالمية الأولى. كذلك كان أحد بساتين الضاحية الشرقية مقراً للحرسين الحكومي و القبلي عند إنشائهما في أواخر الثلاثينات. وفي عام 1942م تمرد أهالي الشيخ عثمان في قضية عبد الله شرف وقُتل منهم كثيرون دفاعاً عنه.

وفي الخمسينات أُنشئ حوالي ألف مسكن صغير مكوّن من غرفة صغيرة وبهو صغير في الجهة الغربية في المدينة لإيواء الأعداد المتزايدة من السكان (حوافي اللبن)، كما تُرك للناس تعمير منطقة أخرى في الغرب خارج المدينة والتي عُرفت فيما بعد بمدينة القاهرة.

وفي إحصاء عام 1955م بلغ سكان المدينة (29,879) نسمة.



شارك برأيك