آخر تحديث :الجمعة 27 ديسمبر 2024 - الساعة:11:32:08
قصيدة: الحرُّ محمد سعيد
(الأمناء نت / شعر/ نجيب مقبل)

 

الحُرُّ..

لا يبصق فمه

لا ينفث لسانه

بل يدلق ماء لسانه

لأنـَّه مالح بالكلام

وضئيل بالمعاني

ومبلل بالصمت

....

الحرُّ ..

لا تخلع فكيه اللكمات

ولا يأسره صمت الكلمات

بل ينزع أسنانـًا ضاغطةً

ليكزَّ على أسفين الصبر

ويفرُّ بخدِّيه

عن الهواء النازل

من جزمة الجنديِّ السوداء

ويمارس طقوس الوحشة

في قاعة الاصطبار

 

2 –

تحت أنياب اللحم البشرى

يفك الليل علبة السردين

فيفرُّ النوم

من رائحة الآباط العطنة

الزنزانة..

مطلية بالعرق المالح

وعينا الحرِّ لازمتان إلى الأعلى

إلى السقف الحجري المتشقف

تبخل عليه ركبتاه بنعمة الوقوف

فيلتصق بالجدار الناشع

يخشى أن يرفع أنفه الظامئ

إلى هواء مرٍّ

فيكفيه الليل بحلم معلب

(مرت هذه الليلة على خيرٍ)

دون أن تطوي رقبته

سكين الاستجواب

على الطاولة الخشبية

أو يلسعه زفير السجـَّان

بهواء الأسئلة الحامض

وهو يتجمل بأحد أركان الغرفة

بسقفها الواطئ

الضاغط على صدره

حتى موت مؤجل

 

3 –

الحرُّ محمد سعيد

أخذته يد الغلظة

من مسكنه الرطب

إلى زنزانة الأمن السري

على عهد مشروط بخروج ضامن

بتنازل ممهور بحبر أزرق الذلة

بإخلاء عروقه من الدم الياقوتي

كما يمكنه إخلاء البيت من الطمأنة

دون محاكمة أو ضبط إحضار

دون توقيف قهري

بأوراق الدولة المطلقة

 

- يا محمد، أنت مقتحم بعائلتك

مقراً سابقاً للجان الدفاع الشعبي

يا محمد .. أنت رجل غير شرعي

في هذا الوطن الذي نصنعه

بمراسيم الفيد والشمع الأحمر

لأن الدولة – نحن الدولة –

أصحاب اليد العليا

تملك حق الانتفاع

 

- يا محمد،

أنتَ موبوء برسوم الكاريكاتير

الفارغة الضحكة

باللوحة الانطباعية عن التفاحة والمائدة

والبروفيل الثقيل الوجه

للطفل الباكي

 

- قـُل ما شئت عن أوراق ثبوتيتك

عن اللبلاب المتسق الجدار الشرقي

عن بحر (التواهي) الأزرق العينين

أو جبل (الخساف) المتعالي

عن مكتب السياحة المغلق

بتراب الروتين والعمال الكسلانين

عن نادي (الميناء) المتباهي

بصرخات الشبان.. وطقطقة كرة السلة

 

- قـُل هذا بيتي – بيتك المزعوم

يربو قليلاً تحت عمارة بين طريقين إسفلتيين

قـُل ما شئت عن الجيران

والسوق والبنك الأهلي

والثابت أن الدولة

- نحن الدولة الحاضرة –

تملك حق ثبوتيتها

من دون اللجوء إلى إذنك

أو شرعية تزعمها

الدولة – الفيد

بذراعيها الغليظتين

وزنزانة الأمن السياسي

تكتب الأمر السري جدًا :

- أن تذهب وحيدًا

فارغ اليدين

سالم الأعضاء.. غانم الذاكرة

قبل أن يأتي عليك فجرٌ

تذهب فيه أنفاسك إلى ما وراء الشمس العدنية

أو تقبع قاع البحر المتلاطم

أو تسقط من رأس (الهيل)

.. اذهب بتراب يديك

إلى أرضٍ مهاجرة

وتواطأ مع حفنة خوفك

وترجَّـل عن هذه الغرفة

الواطئة السقف

العالية الصوت

أذهب بسلة رأسك الفارغة

لنمهرك بسلام الأعضاء

وخروجٍ آمن إلى الشارع

دون مواطنةٍ

أو ريح مواتية لهواء سعيدْ

الحرُّ محمد سعيد

يعود إلى علبة السردين

إلى زنزانة يومه الستين

يعدُّ عصافير الدوريِّ

من وراء الكوة العالية

مطليـًا بسواد الجبل

ومحشوًا بسبعين تحقيقـًا

على طاولة الخشب

وسماء عادمة الضوء

وبحر عدني لا يهدأ

ليزاول رياضة الوحشة

في الركن الغربي من الغرفة

وينام على وقع حلم معلب

وأصوات المعذبين في الأرض

في الزنازين المجاورة

على أمل يوم آخر

 

- 5 –

يخرجُ الحرُّ

بلا سببٍ أو تهمةٍ

مشلولاً برهاب الزحمة

منتصرًا على الدولة – الفيد

عابرًا حدود الظلمة

رغم ضآلة أصابع مقاومته

يجلس على أريكة البيت الرطب

دون أن يحذف منه

قطعة أثاث بالية

من زمن الزفاف الغابر

البيت الذي قال لسيد :

أنا حرُّ

لن أخرج من باب

دخلته نسمات الأسرة الآمنة

لن أخلي أشيائي الفقيرة

لسماسرة يقتلعون سماء الطمأنة

ويبيعون بالثمن الغالي

الوطن الضئيل

في هذا الوطن الذي يفقأ عينيه

لتحميه عيون البصاصين

وتدافع عنه جزمات الأمن المركزي

وظلمات الأمن السياسي

 

أنا حرٌّ

ومن بطنِ الحوتِ

أغادر منفى الظلمة

إلى ظلِّ شجرة اليقطين




شارك برأيك