- انفجار في حوش خردة بدار سعد يخلف عدد من الاصابات
- تعرف على سعر الصرف وبيع العملات مساء الجمعة بالعاصمة عدن
- بن سلمان : الحوثي فقد أوراق قوته وبات مستقبله مرهونًا بالتطورات القادمة
- غارات أمريكية تستهدف مواقع حوثية بمحافظة عمران
- انتقالي شبوة يطلب بتحقيق شامل في ملف قطاع 5 النفطي.. ويصدر بيان شديد اللهجة
- بتوجيهات طارق صالح.. وفد طبي وقيادي يطمئن على مصابي انفجار محطة الغاز في البيضاء بمشافي عدن
- أسعار صرف العملات الأجنبية صباح اليوم 17 يناير
- أسعار الأسماك اليوم الجمعة فى عدن 17 يناير 2025م
- نداء أممي لتوفير 2,47 مليار دولار لإغاثة اليمن خلال 2025
- قائد حزام سقطرى يطلع على الجاهزية الأمنية ومستوى الانضباط
تمر من جانب الدار يوميا مئات الوجوه، وخلف تلك البوابة وجوه قضت سنوات طافحة بالكفاح من أجل أن يكبر الأبناء، وحين ( اشتدت سواعدهم ) حملوا آباءهم وأمهاتهم إلى منفى الأبرياء.
في دار العجزة بعدن مسنون ومسنات يطوون أحزانهم خلف تلك الأسوار الضخمة وذلك المبنى المتكامل، يشتاقون إلى بوابة المنزل التي طالما وقفوا عليها بانتظار رائحة من يتنكرون لهم اليوم .. وربما جل أمانيهم سجادة ومذياع صغير في ركن منزل يشعرون فيه بدفء الأسرة ويسمعون فيه أصوات الأحفاد ..
وخلف أسوار ذلك (المنفى) عاشوا الحرب بتفاصيلها المؤلمة ، وأمام تلك التفاصيل كانت لنا هذه الوقفة ..
بين الرفض والتأييد
تختلف الآراء بشأن إنشاء دور المسنين في المجتمعات الاسلامية ، فمنهم من يرى أن ذلك يعد تشجعيا لعقوق الوالدين، ومنهم من يرى في ذلك ملاذا آمنا لكبار السن ممن تقطعت بهم السبل .. ولسنا هنا بصدد طرح قضية الرفض والتأييد، أو عرض وجهات النظر، هنا فقط نقف للحديث عن أولئك القاطنين خلف الأسوار ..
بوابة تحكي الأسى
صمت مريب منذ أن فتحت البوابة وحتى وصولي إلى البوابة الداخلية، هناك كانت مديرة الدار والمساعدات لها، وبعد تبادل التحية ولجت بشعور غريب ربما يشعر به كل من يزور الدار، وما أن جلست بجانب الطاولة التي يلتف حولها المسنون حتى استبقت أيادٍ مرتعشة امتدت شوقا لتصافح وكأنها لم تصافح أحدا منذ عشرات السنين ..
عقوق ونكران
آباء وأمهات وجدوا أنفسهم في (دار المسنين) بعد أن ضاقت صدور الأبناء عن تحمل من كانوا شموعا تحترق لتضيء لهم طرقات الحياة .. وتركوا من تثاب صحبتهم لا سيما وهم أحق الناس بحسن الصحبة.
وفي الدار أيضا من تنكر لهم الأقارب وتخلوا عنهم في ظل عدم وجود أبناء لهم، ربما تركوهم حين وجدوا أن لا فائدة تجنى من قربهم، فتململوا ولم يتفكروا في المكانة التي أولاها ديننا الإسلامي الحنيف لذوي القربى.
وهناك من وجدوا على قارعة الطرقات بلا مأوى، ربما كان الدار خيرا لهم، لكن بالتأكيد لكل منهم قصة ألم طويت صفحاتها وبقيت آثارها ..
صورة لوجع السنين
راودتني نفسي أن التقط صورا للمسنين - خلسة من إدارة الدار التي ترفض التصوير، طاوعت نفسي والتقطت صورة وحيدة (أحتفظ بها) – لامرأة مسنة تبكي من وجع السنين، وتراجعت عن مطاوعة النفس الأمارة بالسوء لأني وجدت في ذلك خرقا للضمير الإنساني أولا و لأخلاقيات مهنة الصحافة ثانيا ..
ربما كانت صورة وحيدة تغني عن آلاف الكلمات .. تجاعيد رسمت ملامح الأسى، وشحوب يحكي قهر الليالي والأيام .. لكن احتراما للخصوصية آثرت أن أكتفي برواية ما شاهدته وما سمعته دون الإشارة إلى أي اسم من أسماء المسنين .
فاجعة الحرب
أربعون مسنا و أربعة عشر مسنة استقر بهم الحال في دار رعاية المسنين بعدن، بعد أن تقاذفتهم الأهواء والظروف وهم في أمس الحاجة للراحة والاستقرار .. وللحرب الظالمة على عدن تفاصيل وجع لأولئك الذين يعيشون في عزلة عن ضجيج الحياة الطبيعي، فكانت لمعاناتهم ضعفين من الأسى.
أهازيج ألم
منذ دخولي الدار وحتى مغادرتي لها ظلت تتمتم بأهازيج ربما تعني لها الكثير .. صوتك جميل يا خالة – قلت لها – فردت : (أخفف عن نفسي القهر يا بنتي) وكيف كانت أشهر الحرب يا خالة ؟ سألتها ، فأجابت : (في الحرب ما عاد كنا نسمع صوت زائر من الطيبين ، الدار موحشة والأحباب قد نسونا زمان) ..
كانت بجوار صاحبة الصوت الشجي امرأة تذرف الدمع بغزارة، وبكلمات ترتجف ألماً قالت :
(ابني الوحيد ما شفته خلصت الحرب وقلبي يتقطع عليه ...) لم تستطع مواصلة ما بدأته، وضعت وجهها بين كفيها وهي تتمتم : ربنا يسامحه، ربنا يسامحه، لم يطاوعها قلبها أن تدعو عليه .. إنه قلب الأم .
على الجهة المقابلة للأم المكلومة على ولد مازال على قيد الحياة ينتظر أن تدفن ليرث منزلها البسيط – كانت هناك امرأة أخرى تومئ بيديها إليَّ ، اقتربت منها، قالت : (خرّجيني من هنا) .. هل لديك أولاد يا خالة ؟ سألتها – أجابت : (عادهم طيور طيور) معبرة بيديها بإشارة التصغير ..
لم أدرك المعني الخفي لكلمة (طيور)، لكن ربما كانت المرأة التي على ما يبدو أن عمرها قد تجاوز العقد السادس – تعيش في زمن آخر بعيدا عن واقعها الموجع .
الشكوى لله
نظرة إلى السماء كفيلة ببث شكوى للذي الشكوى لغيره مذلة .. (ربنا فوق الجميع يا بنتي) .. يقول أحد نزلاء الدار، ما حكايتك يا والد – سألته .. وبأسى أجاب : (الحكاية أن بنتي قالت لي بنروح العيادة، وجابتني هي وزوجها إلى هذا المكان) .. (وصاحبي هذا – يشير إلى أحد المسنين – خدعه صاحبه التاجر وجابه من الحديدة قال له تعال بخليك حارس للعمارة حقي وجابه للدار واختفى) ..
مأوى وأهل
فاجئني بشجاعته حين بادر قائلا : (أنا حكايتي تختلف عن حكايات كل هؤلاء) .. سألته وما هي حكايتك يا عم ؟
أجاب : (أنا كنت مدمن (خمور)، وقتي كله أقضيه (بالشرب)، وكنت قد انفصلت عن زوجتي وعندي ابنتان، أخذتني قريبة لي إلى هنا وقالت هذا أفضل مكان يجعلك تترك ما أدمنت عليه، وبالفعل تدريجيا وبعد معاناة لسنوات عديدة أقلعت عن إدماني).
وماذا عن وضعكم هنا أثناء الحرب ؟ سألته ورد قائلاً: (عشنا فاجعة الحرب وتألمنا على مدينتنا عدن وعلى أهلها، وافتقدنا الناس الطيبين وفاعلي الخير، ونسأل الله أن تكون هذه الحرب آخر أحزاننا).
الرجل الذي بدا على ملامحه طيف ثقافي غيبه غبار السنين – فاجئني أيضا أنه كان مديرا لتحرير مجلة صادرة عن طيران اليمنية في فترة من الزمن .. وللمرة الثالثة يفاجئني حين يرد على سؤالي قبل ان أطرحه عليه .. (فصلوني عن عملي، ليس لدي أي مصدر للدخل، هؤلاء أصبحوا أهلي ) .. قبل أن يقول ذلك كان لسان حالي يردد : ولماذا أنت هنا حتى الآن ؟!
أعز من الولد
(أعز من الولد ولد الولد) .. مقولة مصرية، وحقيقتها تتجاوز حدود مصر .. أحد المسنين نبذه أحفاده بعد وفاة والدهم .. (أخاف يكون حصل لهم شي في الحرب، نفسي أشوفهم) .. يقول ذلك وفي عينيه دمعة أسى .. حزن على ولده وألم من قسوة أحفاده .. لم يستطع مواصلة حديثه معنا، واكتفى بنظرة إلى الأفق علها تخفي ما جادت به عيناه .
قلوب لا تلين
أحد نزلاء الدار يقوم بتدوين شهادات الوفيات من المسنين، يقول :(حين يتوفى مسنٌ من الرجال أو النساء تقوم إدارة الدار بالاتصال بالشخص الذي أحضره، لكن حتى الآن لم يحضر أحد من أقارب المتوفين وقت الدفن، يحضرون فقط للمطالبة بشهادة الوفاة من أجل الإرث)..
مؤلم هذا الحديث .. قلوب لا تلين حتى من نبأ الموت!!
جميل لم يكتمل
قالت أن أقاربها تعبوا من إعالتها، فأتوا بها إلى دار المسنين .. لم يكمل الأقارب جميلهم مع امرأة عاشت بينهم منذ الصغر (يتيمة الأبوين) ، ولم يفكروا بزيارتها بعد انتهاء الحرب لتطمئن عليهم ويطمئنون عليها ..
تقول تلك المرأة أنها تمنت ذات يوم لو أنها تزوجت وأنجبت أطفالا يحملون مسؤوليتها عند الكبر، لكنها حين رأت أبناء يأتون بآبائهم وأمهاتهم إلى الدار – حمدت الله، لأن الخذلان من فلذات الأكباد أشد وأصعب ..
محنتا الحرب والصيف
على مقربة من نزلاء الدار وقفنا للحديث مع (ماما سالي) – كما يسميها المسنون – وهي مديرة الدار التي تقول أنها والمساعدات لها قد وهبن حياتهن لمساعدة الفقراء والمساكين تيمنا بـ (الأم تريزا)، وهي الراهبة ذات الأصول الألبانية، أسست جمعية لراهبات المحبة عام 1950م والتي اهتمت بالأطفال المشردين والعجزة وعلى إثر ذلك حازت على جائزة نوبل للسلام عام 1979م ، وتوفيت عام 1997م .
تقول مديرة دار رعاية المسنين:إن الدار تعمل بمساعدة الخيرين، ولم تشر إلى كثير من التفاصيل، غير أنها والأخريات يتحدثن بحذر خوفا من أن يذهب أجر عملهن – حسب تعبيرهن ..
(نحن لا نطالب أحدا بتقديم المساعدات ولا نروج لعملنا، نحن نساعد الفقراء والمساكين) .. هكذا تقول، وعن أكثر ما عانى منه الدار في أيام الحرب قالت: (قلق المسنين، ومحنة الصيف)، وذكرت أن مولد الدار يستهلك (10) لتر ديزل في الساعة، ويحتاج من (50) إلى (60) لتر في اليوم، في ظل ذلك الوضع المأساوي والحر الشديد وانعدام المشتقات النفطية.
لنحسن الصحبة
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ :
أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ, أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تعالى, قَالَ: هَلْ لك من وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ, بَلْ كِلَاهُمَا, قَالَ: فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تعالى؟ قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا).)
[أخرجه مسلم في الصحيح] .