آخر تحديث :الاربعاء 12 فبراير 2025 - الساعة:01:17:01
أدٌبني أبي فأحسن تأديبي
(الامناء نت / كتب : د/عوض أحمد العلقمي:)

كلما أنظر إلى أبنائي أشعر بكثير من الارتياح ، ليس لأنني قد وفرت لهم المطعم والملبس والمسكن وحسب ، لكن الأمر غير ذلك ، وسوف تفهمه أخي القارئ جيدا عندما أسرد لك لاحقا كيف أدٌبني أبي ...؟ إذ أفدت كثيرا من تلك التربية وذلك التأديب ثم عكسته في تنشئة أبنائي ، وبناء شخصياتهم علميا وعمليا وأخلاقيا ، ربما لايصدق قولي هذا أو يتهمني بالمبالغة والتحيز لهم من لايعرفهم ، لكن من يعرف أبنائي أظن أنه سيصدق قولي فيهم ويؤكده ، ومع هذا فأنا غير راض كل الرضا عن تأديبي لهم إذ أشعر بالتقصير نحوهم لاسيما إذا ماقارنت بين تأديب أبي لي وبين تأديبي لهم - رحمك الله يا أبي وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة - كان أبي ثالث إخوته ، وأشدهم فقرا ، وأكثرهم بنينا ، لكنه أفضلهم علما إذ تعلم القرآن وحفظه ثم علمه  ، كذلك كان الأكثر برا بأبيه ، أما أنا فرابع إخوتي الذين يبلغ عددهم تسعة ، الذكور منهم خمسة ؛ بعد أن تجاوزت السنة الثالثة من العمر ، كان أبي ينطلق بعد صلاة الفجر للعمل في فلاحة الأرض وتعهد النخيل بالتشذيب والتلقيح والعناية الدائمة بها ، وإذا ماعاد عند الظهيرة ليأخذ قسطا من الراحة يجدني واقفا - أنتظر مقدمه بصبر نافذ - على التل الذي يقع عليه منزلنا وكذلك منازل أعمامي ، ذلك التل يسمى طور الفياح ؛ الطور كلمة وردت في القرآن وتعني التل الصخري الأصغر من الجبل ، أما الفياح  فهو حقل زراعي كبير يحتضن الطور من الجهتين ؛ الشمالية والشرقية ، في هذه الأثناء يأخذني أبي ويقبلني ثم يقتادني بيده إلى البيت ، نتغدى معا ، ثم يطلب مني إحضار المصحف وقلم ودفتر مستخدم من دفاتر أخي الأكبر الذي كان قد التحق بالمدرسة ، فيعلمني كيف أنطق الحروف الهجائية من مخارجها الصحيحة حرفا حرفا ، وكيف أنطقها بعلامات الهجاء ؛ الفتح والضم والكسر والسكون أو مانسميه اليوم التشكيل ، بعد هذا يعلمني كيف أنطق الحروف بعد أن يضيف لها الألف ، ثم نفرغ من هذا إلى قراءة السور القرآنية القصيرة بصوته الرائع المؤثر ، ويطلب مني أن أقرأ بعده تلك السور ، ويشير إلى كل حرف وكل كلمة بسبابته ، وأنا أتابعه وأردد بعده بالبصر واللسان ، نستمر على هذه الطريقة من التعليم لأسابيع ، ثم ينتقل بي إلى كتابة بعض الكلمات مفرقة الأحرف وكيف أعود وأربط بين أحرفها وأنطقها ، وكذلك يعلمني كيف أقرأ بعض السور القصيرة ، ثم يكلفني بحفظها وفي اليوم التالي يطلب مني أقرأها حفظا - أو كما كان يقول هو غيبا - على مسامعه ، وهكذا دواليك حتى إذا ما أصبحت أستطيع القراءة والكتابة ، وأحفظ أجزاء من القرآن ، دفع بي للالتحاق بالمدرسة ، وعند ذلك لم يتركني وشأني بل يظل يتعهدني بين الوقت والآخر إذ يطلب مني أن أطلعه على الذي أتعلمه في المدرسة ، فكان يقول : لابأس يابني إنهم يضيفون معارفا إلى معارفنا ، لكنه سألني ذات يوم ؛ هل يعلمونكم كيف تصلون يابني ؟ قلت : كلا يا أبي ، تبسم ضاحكا ثم قال : ادن مني يابني ، وإذا به يكتب لي في ورقة من دفتري التشهدين أو ماتسمى التحيات ، ثم طلب مني أن أحفظها ، وبعدها علمني عدد الصلوات في اليوم والليلة ، وعدد الركعات والسجدات في كل فرض ، ومتى أقرأ الفاتحة وماتيسر بعدها من القرآن ، وكذلك متى أقرأ التشهد الأول ، والتشهد الأخير ، حتى إذا ما أصبحت ملما بأداء الصلوات ومايتعلق بها ، كان يأمرني في كثير من الأوقات أن أصلي إماما وهو مأموما بعدي ، وبعد أن فقد أبي إخوته وأبناء عمومته آلت الأمور إليه فأصبح ملزما بأمور القوم كالفصل في النزاعات بينهم ، وقضاء حاجاتهم ، فكنت أكثر إخوتي ملازما لأبي وقائما بخدمته ، أجلس إلى جانبه وهو في الديوان يحل المشاكل ويفصل في المنازعات وغير ذلك ، الأمر الذي رفدني بالكثير من حكم القوم وأمثالها وأعرافها وتقاليدها وثقافتها ، فضلا عما تعلمته من سلوك أبي وأخلاقه وثقافته لالتصاقي شبه الدائم به ، من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر ؛ أن النفاق والمداهنة والمجاملة في الحقوق سبيل لايسلكه إلا الجبناء ورعاع القوم ، وأن الصدع بكلمة الحق هي سمة عظيمة تمثل أعلى مراتب الرجولة والشجاعة والقوة ، وأن الكذب أمر معيب لايسلكه إلا من وضع نفسه في أدنى مراتب القوم وأحقرها ، وأن شهادة الزور لايتفوه بها إلا فاجر غير مؤمن ، وكذلك يجب على الرجل أن يقول الحقيقة وإن كانت على نفسه أو على أقرب الأقربين منه ، وتعلمت منه أيضا أن لامساومة في الكرامة والشرف والعرض ، وغير ذلك من القيم النبيلة التي لاأستطيع حصرها في هذه العجالة .... فلله درك يا أبي كم كنت عظيما ومثالا أحتذيه وأعتز به ماحييت ، إذ أدبتني فأحسنت تأديبي ... أسأل الله أن يتغمدك برحمته وأن يسكنك فسيح جناته إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ...




شارك برأيك
صحيفة الأمناء PDF
تطبيقنا على الموبايل