آخر تحديث :السبت 20 يوليو 2024 - الساعة:02:50:18
أدٌبني أبي فأحسن تأديبي
(الامناء نت / كتب : د/عوض أحمد العلقمي:)

كلما أنظر إلى أبنائي أشعر بكثير من الارتياح ، ليس لأنني قد وفرت لهم المطعم والملبس والمسكن وحسب ، لكن الأمر غير ذلك ، وسوف تفهمه أخي القارئ جيدا عندما أسرد لك لاحقا كيف أدٌبني أبي ...؟ إذ أفدت كثيرا من تلك التربية وذلك التأديب ثم عكسته في تنشئة أبنائي ، وبناء شخصياتهم علميا وعمليا وأخلاقيا ، ربما لايصدق قولي هذا أو يتهمني بالمبالغة والتحيز لهم من لايعرفهم ، لكن من يعرف أبنائي أظن أنه سيصدق قولي فيهم ويؤكده ، ومع هذا فأنا غير راض كل الرضا عن تأديبي لهم إذ أشعر بالتقصير نحوهم لاسيما إذا ماقارنت بين تأديب أبي لي وبين تأديبي لهم - رحمك الله يا أبي وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة - كان أبي ثالث إخوته ، وأشدهم فقرا ، وأكثرهم بنينا ، لكنه أفضلهم علما إذ تعلم القرآن وحفظه ثم علمه  ، كذلك كان الأكثر برا بأبيه ، أما أنا فرابع إخوتي الذين يبلغ عددهم تسعة ، الذكور منهم خمسة ؛ بعد أن تجاوزت السنة الثالثة من العمر ، كان أبي ينطلق بعد صلاة الفجر للعمل في فلاحة الأرض وتعهد النخيل بالتشذيب والتلقيح والعناية الدائمة بها ، وإذا ماعاد عند الظهيرة ليأخذ قسطا من الراحة يجدني واقفا - أنتظر مقدمه بصبر نافذ - على التل الذي يقع عليه منزلنا وكذلك منازل أعمامي ، ذلك التل يسمى طور الفياح ؛ الطور كلمة وردت في القرآن وتعني التل الصخري الأصغر من الجبل ، أما الفياح  فهو حقل زراعي كبير يحتضن الطور من الجهتين ؛ الشمالية والشرقية ، في هذه الأثناء يأخذني أبي ويقبلني ثم يقتادني بيده إلى البيت ، نتغدى معا ، ثم يطلب مني إحضار المصحف وقلم ودفتر مستخدم من دفاتر أخي الأكبر الذي كان قد التحق بالمدرسة ، فيعلمني كيف أنطق الحروف الهجائية من مخارجها الصحيحة حرفا حرفا ، وكيف أنطقها بعلامات الهجاء ؛ الفتح والضم والكسر والسكون أو مانسميه اليوم التشكيل ، بعد هذا يعلمني كيف أنطق الحروف بعد أن يضيف لها الألف ، ثم نفرغ من هذا إلى قراءة السور القرآنية القصيرة بصوته الرائع المؤثر ، ويطلب مني أن أقرأ بعده تلك السور ، ويشير إلى كل حرف وكل كلمة بسبابته ، وأنا أتابعه وأردد بعده بالبصر واللسان ، نستمر على هذه الطريقة من التعليم لأسابيع ، ثم ينتقل بي إلى كتابة بعض الكلمات مفرقة الأحرف وكيف أعود وأربط بين أحرفها وأنطقها ، وكذلك يعلمني كيف أقرأ بعض السور القصيرة ، ثم يكلفني بحفظها وفي اليوم التالي يطلب مني أقرأها حفظا - أو كما كان يقول هو غيبا - على مسامعه ، وهكذا دواليك حتى إذا ما أصبحت أستطيع القراءة والكتابة ، وأحفظ أجزاء من القرآن ، دفع بي للالتحاق بالمدرسة ، وعند ذلك لم يتركني وشأني بل يظل يتعهدني بين الوقت والآخر إذ يطلب مني أن أطلعه على الذي أتعلمه في المدرسة ، فكان يقول : لابأس يابني إنهم يضيفون معارفا إلى معارفنا ، لكنه سألني ذات يوم ؛ هل يعلمونكم كيف تصلون يابني ؟ قلت : كلا يا أبي ، تبسم ضاحكا ثم قال : ادن مني يابني ، وإذا به يكتب لي في ورقة من دفتري التشهدين أو ماتسمى التحيات ، ثم طلب مني أن أحفظها ، وبعدها علمني عدد الصلوات في اليوم والليلة ، وعدد الركعات والسجدات في كل فرض ، ومتى أقرأ الفاتحة وماتيسر بعدها من القرآن ، وكذلك متى أقرأ التشهد الأول ، والتشهد الأخير ، حتى إذا ما أصبحت ملما بأداء الصلوات ومايتعلق بها ، كان يأمرني في كثير من الأوقات أن أصلي إماما وهو مأموما بعدي ، وبعد أن فقد أبي إخوته وأبناء عمومته آلت الأمور إليه فأصبح ملزما بأمور القوم كالفصل في النزاعات بينهم ، وقضاء حاجاتهم ، فكنت أكثر إخوتي ملازما لأبي وقائما بخدمته ، أجلس إلى جانبه وهو في الديوان يحل المشاكل ويفصل في المنازعات وغير ذلك ، الأمر الذي رفدني بالكثير من حكم القوم وأمثالها وأعرافها وتقاليدها وثقافتها ، فضلا عما تعلمته من سلوك أبي وأخلاقه وثقافته لالتصاقي شبه الدائم به ، من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر ؛ أن النفاق والمداهنة والمجاملة في الحقوق سبيل لايسلكه إلا الجبناء ورعاع القوم ، وأن الصدع بكلمة الحق هي سمة عظيمة تمثل أعلى مراتب الرجولة والشجاعة والقوة ، وأن الكذب أمر معيب لايسلكه إلا من وضع نفسه في أدنى مراتب القوم وأحقرها ، وأن شهادة الزور لايتفوه بها إلا فاجر غير مؤمن ، وكذلك يجب على الرجل أن يقول الحقيقة وإن كانت على نفسه أو على أقرب الأقربين منه ، وتعلمت منه أيضا أن لامساومة في الكرامة والشرف والعرض ، وغير ذلك من القيم النبيلة التي لاأستطيع حصرها في هذه العجالة .... فلله درك يا أبي كم كنت عظيما ومثالا أحتذيه وأعتز به ماحييت ، إذ أدبتني فأحسنت تأديبي ... أسأل الله أن يتغمدك برحمته وأن يسكنك فسيح جناته إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ...


مباشر انجلترا واسبانيا
مشاهده مباراه انجلترا واسبانيا
انجلترا ضد اسبانيا بث مباشر
انجلترا ضد اسبانيا بث مباشر

شارك برأيك