دولة في الدولة
المعلومات الخاصة بصفقة إنتاج وتسويق وتصدير الغاز فاجعة كارثية، وكان الفساد في هذا القطاع كفيلا بإقالة الحكومة ومجلس النواب ومحاكمة كافة النافذين في المراجع العليا على مستوى الدولة ووزارة النفط لينالوا جزاء ما اقترفوه بحق اليمنيين.
ويفيد ما يطالعنا به رأس جبل ثلج هذه المعلومات ان اليمن تكبدت اكثر من 60 مليار دولار بسبب الصفقة المبرمة مع شركة توتال الفرنسية، مع ملاحظة أن الرقم المذكور تقديري –افتراضي- لأن الرقم الفعلي قد يكون أكبر بكثير بالنظر الى ان الخسائر المالية الباهظة التي تتكبدها اليمن تشتمل على ما تهدره الحكومة في الانفاق على الديزل والمازوت وعدم استفادتها من مادة الغاز، وعلى ما يهدر في عمليات النقل البحري وما ينفق في مقابل دعم المشتقات النفطية وتكاليف النقل وغيره.
وفيما خص شركة توتال فهي إخطبوط تتوزع وتمتد أذرعه على نحو لا يسبر ولا يمكن ان يحصر، فهي الشركة الفرنسية العملاقة التي تشتغل في أكثر من مجال، علاوة على انها شريك في مشاريع كثيرة، في مجالات توليد الطاقة، والنقل البحري، والنفط والغاز والصناعات المختلفة.
توتال شركة عابرة للحدود والقارات وتمتلك معلومات هائلة، وقد اكتنفت العقد الذي ابرمته مع الجهات اليمنية النافذة الكثير من علامات الاستفهام والتعجب والاسترابة.
تدخلت هذه الشركة في توجيه عملية تسويق الغاز اليمني، كما في عملية انتاجه، واستثمرت في انعدام الكفاءة والجدارة و"الوطنية" والنزاهة لدى الجانب اليمني الذي كان ضالعا في الاحتيال والفساد ومستجيبا للتضليل المعلوماتي الذي مارسته توتال بشأن أوضاع الأسواق الخارجية، والعرض والطلب في تلك الأسواق والتقلبات التي تشهدها، بالاضافة الى التقلبات المتوقعة لديها في ضوء ما تمتلك من معلومات تأتيها من فروعها في استراليا ودالاس وباريس وغيرها.
هذه المعطيات وغيرها كانت مدار حديث الدكتور خالد عبدالمجيد البريهي، بمنتدى الجاوي الثقافي بصنعاء الأربعاء الماضي، مدير إدارة التشغيل والانتاج لشؤون الغاز وهو خبير مختص في هذا المجال وباحث ناشط ومثابر في ملاحقة تلابيب هذا الموضوع الشائك.
بعد أن تطرق د. البريهي الى مدخل تعريفي بالغاز الطبيعي واشكال تواجده واهم سماته واستخداماته واحتياطاته، وأهم معوقات الاستثمار في قطاع الغاز والآليات المتبعة في تسعير الغاز الطبيعي المسال في اليمن، ومراحل تسويقه وأوجه الغموض والاخفاقات التي رافقت تسويقه، والآثار المترتبة على صفقة الغاز المسال؛ تفاعل مع استفسارات واسئلة اعضاء المنتدى وضيوفه، وقال: إن وضع توتال كان ولازال لا يحتمل.
وأوضح ان ايرادات البلاد من توتال تكاد تكون معدومة، وليس ثمة دراسات او وثائق أو تقارير رسمية بشأن نشاط هذه الشركة التي بدأت مشوارها مع مشروع الغاز اليمني بإبرام أول اتفاقية في 1995م جرى تعديلها في 1996، ثم انطلقت في إنجاز المشروع في عام 1997؛ ولم يكن ذلك مقطوع الصلة بالموقف الفرنسي المؤيد لصنعاء في حرب صيف 1994.
ويشير الدكتور البريهي الى ماراثون المفاوضات مع توتال والشركات الاخرى، ملاحظا انه رغم الزيارات الماراثونية للوزراء الذين تعاقبوا على وزارة النفط –بارباع والوجيه مثلا- بزعم استطلاع الاسواق الخارجية إلا أن توتال كانت قد قفزت الى الصدارة وحددت الاسواق المستهدفة والمرغوبة من قبلها، والكميات التي ينبغي أن تسوق الى أمريكا بناء على معلوماتها.
ويضيف ان هذه الشركة الاخطبوط كانت على معرفة عميقة بحالة السوق الآسيوية في أثناء الازمة الاقتصادية التي عاشتها تلك الاسواق، كما كانت على دراية بالاحتياجات والمترتبات التي يمكن ان تنشأ عن تلك الازمة؛ وبناء على ذلك رسمت سياساتها واتخذت اجراءاتها.
أساطين الصفقات
لاحظ البريهي ان توتال وغيرها من الشركات العاملة في مجال النفط والغاز استفادت من الفساد المستشري في وزارة النفط وتضارب الجهات والتوجيهات واداء المؤسسات في الوزارة والتابعة لها، منوها الى فضيحة مفادها بأن تلك الشركات معفية من ضرائب الانتاج لفترة تتراوح من 10-15 سنة، وهي لا تدفع الملاليم رغم انها تحصد ملايين ومليارات الدولارات.
وأكد على ان اليمن لا تعتمد على سياسة بترولية وغازية واضحة، وهي لا تدري ما تريد أو ما تفعل بهذه الثروة التي تبيعها وهي تحت الارض وكأنها في حالة حرب.
وأشار الى ان البلاد تفتقر الى قانون ينظم عمل انتاج وتسويق وتصدير النفط والغاز، منوها الى ان كل الصفقات التي أبرمت كانت تبرم باسم قانون لا وجود له، ما يفصح عن واقع ان الفساد في وزارة النفط مؤسس والشاهد على ذلك ان الاتفاقيات والصفقات الخاصة بقطاعي النفط لا تنشر، ما يؤشر الى اندماج مصالح المافيات والمهربين مع الفاسدين ومع مصالح الشركات.
700 مليون دولار.. كيف؟ ولماذا؟
على هذا الصعيد نوه الى أن تكاليف انتاج الغاز في اليمن هي الأغلى في المنطقة، مشيرا الى ان ذلك يرتبط بنفوذ قوى فساد كبيرة كانت ولازالت تحول دون صياغة واقرار قانون ينظم شؤون تصريف هذه الثروة، كما كانت ولازالت تحول دون ممارسة دور رقابي فعال على انتاج الغاز.
وقال إن الموازنة السنوية أو التكلفة السنوية لعملية انتاج الغاز تصل الى 700 مليون دولار وهي موازنة ضخمة تعادل موازنة محافظتي عدن وتعز، ما يفصح عن واقع سطوة قوة الفساد.
عناصر لوبي الفساد صاروا أصحاب شركات
.. في السياق أوضح الدكتور البريهي ان عناصر لوبي الفساد المستفيدين من النفقات الهائلة بما فيه أولئك الذين كانوا من النافذين في وزارة النفط هم من يقف وراء مثل هذه النفقات المهولة، ذلك ان بعض الفاسدين الذين خرجوا من الوزارة توجهوا نحو فتح شركات خدمات وصيانة –شركة تنمية لصاحبها الاهدل مثلا وهو مهندس صفقة الغاز- واسهموا بفعالية بأن تكون توتال دولة داخل الدولة في اليمن.
في السياق أوضح بأن المعلن هو ان اليمن تصدر سنويا 360 تريليون قدم مكعب، منوها الى ان ما يتردد عن استكشافات الغاز في الجوف لا يمكن التعويل عليه لأنه لم يخضع بعد لاختبارات تؤكد ما يتردد بشأنه.
وتحدث عن التصدير اليومي من مأرب الى بلحاف، مشيرا الى انه يصل الى نحو ألف ومائة قدم مكعب.
في الأثناء ألمح الى ان المعلومات الدقيقة المتعلقة بعمليات الانتاج والاحتياطي لازالت محفوفة بالكثير من الغموض، مشيرا الى ان شركة هنت –مثل توتال- حجبت معلوماتها المتعلقة بالغاز عن الجانب اليمني في دالاس، وانهكت الحكومة اليمنية في مشوار استرجاع من هنت الذي استغرق اكثر من أربع سنوات.
وقال: إن القيمة المضافة ضائعة وينسحب ذلك على النفط والغاز، مؤكدا على انه كان بميسور الحكومة الاستفادة من الغاز وتوفير ما يزيد على مليار ونصف مليار دولار يصرف سنويا على دعم الديزل والمازوت.
الحاجة لثورة في قطاع الطاقة
تعليقا على هذا الفساد المريع الذي تشهده وزارة النفط والمرافق التابعة لها قال الدكتور البريهي: ان قطاع النفط والغاز يحتاج الى ثورة جذرية وشاملة، منوها الى جذور الخلل بالنسبة لقطاع الغاز بنيوية وشاملة وتطاول حتى عملية مد الانبوب الى منطقة بلحاف، فيما كان الاجدر ان يمد الى مناطق ذات كثافة سكانية مثل عدن خاصة وان هناك مبلغا مرصودا لذلك (110 ملايين دولار) وان العملية تحتاج فقط الى زيادة بسيطة في قطر الانبوب.
ولاحظ ان عملية مد الانبوب الى بلحاف كانت سياسية بامتياز وهي مرتبطة بتأثير توتال ودورها في حرب 1994، وغير مقطوعة الصلة بالمؤامرة على عدن ومراكز الكثافة السكانية.
فضيحة الزجاج
وفيما تطرق المتحدث الى جوانب شتى من هدر ثروة الغاز ضرب مثلا، شاركه في ذلك بعض المتحدثين، بعدم الاستفادة من الغاز في صناعة الاسمنت، وفي صناعة الزجاج.
في هذا المنحى يذكر بأن أحد المستثمرين كان قد بادر الى بناء مصنع للزجاج في نهم محافظة مأرب، وكانت حاجة المصنع ملحة لمليون ونصف مليون قدم من الغاز فقط، إلا أن الجهات المعنية في وزارة النفط حالت دون تلبية هذه الرغبة المتواضعة للمستثمر اليمني الذي غامر في الاستثمار بمنطقة لا تتجه انظار جل المستثمرين والنافذين بصنعاء إليها.
فيما خص المصنع المشار إليه كانت مصادر عليمة أوضحت بأن الطاقة الانتاجية لهذا المصنع كانت ستغطي احتياجات السوق المحلية، علاوة على ان نصف الانتاج سوف يصدر الى الخارج ليعود بالنفع على البلاد بعملة صعبة هي في امس الحاجة إليها، وقبل هذا وذاك كان المصنع ولازال مؤهلا لتوفير ألف فرصة عمل في منطقة يريد لها النافذون ان تكون مسرحا لـ"المقرحين" والفوضى والانفلات الامني.
تصدير بلا رقابة
فيما يتعلق بالرقابة على عملية تصدير الغاز أوضح الدكتور البريهي بأن الادوات الرقابية تنحصر في الجانب الرقابي والمحاسبي، مشيرا الى ان مراكز النفوذ كبيرة جدا وبمقدورها الالتفاف على ذلك، وهي تعمل خلف ستار من غياب الشفافية وتضارب المعلومات، علاوة على ان وضع العاملين في منصات الغاز كمشرفين رقابيين لم يخضع الى التدوير منذ البدايات وجلهم من "النظام السابق".
وفيما اعاد التأكيد على ان وضع الطاقة في البلاد يحتاج الى ثورة فعلا، عرج على فضيحة اخرى تتمثل في تقصد المعنيين على قطع دابر شتى المساعي التي بذلت بقصد اقامة مركز لدراسات وابحاث النفط والغاز او الطاقة عموما، منوها الى ان هنالك الكثير من الوزارات غير الايرادية تبنت انشاء مراكز للمعلومات والادارات إلا وزارة النفط التي عملت مراكز القوى على الحيلولة دون انشاء مركز او حتى دون استصدار قانون للنفط؛ والهدف من ذلك هو ان يستمر امر تفصيل الاتفاقيات على مقاس الجنرالات والمشائخ من أصحاب النفوذ.
تجدر الاشارة الى ان اكثر من 40 من حملة الدكتوراه المتخصصين في مجال النفط يتسكعون في أروقة الوزارة دون جدوى ومن غير ان تستفيد الدولة من طاقاتهم او تفعل مواردهم المعرفية التي تتعرض هي الاخرى للتلاشي والهدر والانعدام، لأن مراكز النفوذ استمرأت السمسرة والتعويل على الاستشارات والدراسات الخارجية التي تنفق عليها ملايين الدولارات، وتسقط من الحسبان ان هناك مبلغا يتراوح من 50-100 ألف دولار اعتمد للدراسات والابحاث داخليا ولا يعلم أحد أين يذهب!