لن يحل السلام بأدوات النفق البيض وصالح.. إنهما بعض الحرب وليس كلها (تقرير)

اندلعت الحرب على صفقة الوحدة المبرمة بين علي صالح وعلي البيض في 30 نوفمبر، وعلى جمهورية 22 مايو 1990 في لحظة التوقيع على الصفقة بين الشخصين المذكورين الذين توهما بأنهما دخلا التاريخ من باب الصفقة رغم أنهما خرجا منه وأخرجا معهما اليمن بتلك الفعلة النكراء التي تمثلت باختزالهما للمؤسسات والهيئات والإرادات والشعب في الجنوب والشمال في شخصيهما.

 

وتبدى الانفجار الصاعق الأول لفصول الكوميديا السوداء في تفاخر المذكورين أعلاه، واتباعهما، بأنهما أبرما الصفقة السحرية وهما في حالة (خلوة) ولا شريك لهما في (النفق) المفضي من مدينة القلوعة بعدن إلى شاطئ الساحل الذهبي "جولدمور".

 

   المفكر ابوبكر السقاف اعتبرها صفقة :

يومها تعاطى جل اليمانيين مع الخبر باحتفاء وأشعلوا السماء بالألعاب النارية، ولم يجرؤ أحد على الكلام أو السؤال باستثناء أفراد وبالأحرى صوت فرد واحد كان يتناهي من بعيد ليجاهر بوضوح باعتراضه ورفضه لمنطق الصفقة وهو صوت المفكر أبوبكر السقاف الذي نجا من الموت والاغتيال غير مرة بسبب اعتراضه ورفضه للصفقة.

 

في وقت لاحق عبر حزب التجمع الوحدوي اليمني عن اعتراضه على الوحدة القائمة على أساس المحاصصة والتقاسم، وقال بأن مقتلها يكمن في التقاسم ودفع الثمن غالياً على ما قال، وكان رئيس سكرتارية الحزب الشهيد حسن الحريبي هو الشهيد رقم (1) بأول عملية اغتيال سياسي عقب جمهورية 22 مايو، وهي العملية التي استهدفته مع الراحل عمر الجاوي أمين عام الحزب الذي نجا من الاغتيال في ديسمبر 1991.

 

  مساومة مقيتة :

وفي انحباس ملف الاغتيال المروع للشهيد الحريبي بين يدي صالح والبيض، مثل التواطؤ، بل والمساومة المقيتة على دمه وعدم ملاحقة ومحاكمة القتلة مستهل اللحظة السوداء والدامية التي ترامت في الأرجاء وازكمت الأنوف برائحة الدماء، وفتكت بأحلام اليمنيين بالوحدة وبأي وحدة على تلك الشاكلة التدميرية، كما مثل التعاطي اللامسؤول والإجرامي مع تلك الجريمة نقطة اتصال قوية مع ارث التعمية والتغطية لكافة أشكال الاغتيال السياسي التي استهدفت قيادات سياسية وحزبية وعسكرية واجتماعية في جنوب البلاد وشمالها وكانت تقيد باستمرار، ضد مجهول إلى أن تكرست وتمنهجت وصارت من الملامح البارزة لـ"النظام" ومن العلامات الأبرز لأسلوب إدارة الصراع، بل ولإدارة البلاد بالاغتيالات، كما صار الاغتيال فاكهة فاتحة لشهية الحروب المتواترة والمستدامة.

 

  من قتل الزبيري والحريبي :

(من قتل موليرو) رواية للنوبلي اللاتيني ماريا بارجاس يوسا، وهي بوليسية درامية تشابكت فيها بصمات قتلة موليرو من السياسيين وعناصر المجتمع المحلي والمنافسين في حلبة الغرام والمجرمين المحترفين والزعامات المحلية والوطنية و....الخ.

من قتل الشاعر الكبير محمد محمود الزبيري الذي يحمل اسمه أكبر شارع في العاصمة صنعاء ويكاد يكون الشارع الوحيد الذي يمكن التقاطه فوتوغرافيا من الجو أو الإقرار بوجوده بالعين المجردة من أي جبل يطل على صنعاء ذات الشارع الوحيد: الزبيري.

 

من قتل الرئيس الجنوبي، بل رئيس أول دولة للاستقلال في جنوب البلاد قحطان محمد الشعبي وهو سجين خرج من سجنه إلى المقبرة، ومن قتل الدبلوماسي والسياسي المعروف محمد أحمد النعمان، وأول رئيس وزراء لحكومة دولة الاستقلال فيصل عبداللطيف الشعبي، والرئيس ابراهيم الحمدي في صنعاء والرئيس سالم ربيع علي في عدن، والرئيس الغشمي في صنعاء والرئيس عبدالفتاح اسماعيل في عدن ومشائخ الحجرية ومشائخ خولان، وعلي عنتر وصالح مصلح والباقة المتقدمة من كوادر دولة الجنوب، وأصحاب الكفاءات والقدرات في دولة الشمال.

 

من قتل الشهيد حسن الحريبي، ومن كان ومازال وراء سلسلة الاغتيالات المتعاقبة والمضطردة التي استهدفت قيادات الحزب الاشتراكي من المنتقلين إلى صنعاء عقب صفقة الوحدة، ودشنت لحرب صيف 1994، ومن يعتمد الاغتيال نهجا ومنهجا باستهداف أبرز القيادات الأمنية والعسكرية -السياسية لاحقا- وخاصة الجنوبية في الوقت الراهن؟!

 

من يعتمد ثقافة الاغتيال والقتل أسلوبا للتحكم بأرزاق وأعناق ومصائر الناس؟

ما الذي يمنع الأوساط الثقافية والفعاليات المدنية –إن وجدت- من مكاشفة واستنطاق سؤال الاغتيال وثقافته!

 

  مصائر الشعوب لا تتقرر بصفقات :

المؤكد أن لطريقة تدبير الشأن العام أو إدارته وتقرير مساره وتوجهاته من "النفق" ومن أي نفق على الإطلاق، علاقة وثيقة بتغول الاغتيال وتناميه وتفشيه، ومن المؤكد، أيضا، ان الصفقة (النفق) بين صالح والبيض، وما كان ولا يزال ينساب في مجراها وينسج على منوالها، لن يفضي إلا إلى المزيد من الاغتيال والاقتتال.

 

ذلك لأن مصائر الشعوب والبلدان لا تتقرر بصفقات كواليسية محكومة بزعامات بهلوانية ونزاءة وغريبة الأطوار ومفتقرة للأهلية العقلية والنفسية والعلمية والتربوية والثقافية.

 

إن ملف الاغتيال في الغرف المغلقة والمكاتب ومخيمات الولائم والسجون والشوارع، وبالطائرات والعبوات الناسفة وكواتم الصوت، وبالسم والسيارات المفخخة والدراجات النارية، سيظل مفتوحا كأشداق الدراكولا والديناصورات التي لا تشبع ولا تتوقف عن التهام أي شيء يصادفها إلى أن تصاب بالجنون ويستعمرها سعار ممارسة الدمار من أجل الدمار فقط، وتستحوذها كراهية الهدوء  والاستقرار.

 

ثم ان هذا الملف المنهك والمهلك سيقود الى المزيد من تجريف السياسة واغتيال ما تبقى من عقل، والى توسيع مساحة الضحالة وتأثيث كافة الأرجاء لبومة الانتقام كيما تسرح وتمرح وترقص على الجثث وتسكر بشرب الدماء.

وليس ثمة شيء يرتجى من ثقافة الهدنة مع الاغتيال وترحيل الحروب بـ"الهدنة" ومن ثقافة استقباح الاغتيال في الظاهر مع ممارسته وتمديد سلطته على مستوى الفعل، وتأبيد سطوته غير تغذية ماكنته والتآلف مع صوته الذي لا يعلو عليه صوت وكتم أنفاس البلاد بين خيارين قاتلين: إما الموت بالاغتيال أو الحرب.

 

  لغة مكتوبة بحبر الاغتيال :

في هكذا مناخات تطفو على السطح، غالبا، لغة مكتوبة بحبر الاغتيال ولا تخرج عن نطاق الشخصنة المقيتة وعن غواية البحث عن متهم. وليس ثمة مفارقة عجيبة إذا ما كان في صدارة المتهمين كل من الرئيسين السابقين علي صالح وعلي البيض، فالأول نجا من محرقة وحتف محقق بأعجوبة في 3 يونيو 2011 يوم تفجير ونسف مسجد النهدين، والشيطان يعلم، بعد الله، كم هي المرات التي نجا فيها من محاولات الاغتيال، والثاني نجا من مذبحة 13 يناير 1986 بأعجوبة وصار على رأس الحزب والدولة في الجنوب، كما نجا من حرب صيف 1994 ومن محاولات اغتيال كثيرة ولا تكاد تذكر.

 

هذه القراءة التبسيطية والشخصانية تفيدنا بأن الحل كان هو القتل، وان المشكل يكمن في واقعه أن صالح نجا من القتل وكذلك البيض وقد انحرفا بذلك عن قواعد الرياضة الوطنية الأكثر شيوعا ونفاذا وسيادة: الاغتيال.

ترى كيف أخطأ قدر الساعة اليمنية ولم يقطف هذين الرأسين ومن كان على شاكلتهما؟

ببساطة ان هذا الوعي يستمزج الحل المستعجل: الاغتيال لإشباع رغبة اسعافية أو الحرب المستدامة التي لم تعرف اليمن بجهاتها الأربع غيرها.

 

يحدث كل هذا على خلفية (الصفقة) التي كانت ومازالت تغلف بعناوين الحوار الوطني والعهود والمواثيق التي كانت ومازالت تبرم وتوثق وتشغل معظم الباحثين في الداخل والخارج إلى درجة ان أحد الأصدقاء وهو الأستاذ القدير قادري أحمد حيدر خصها بكتاب متميز ومتفرد لم يكتف بالتوثيق والتحقيق لتلك الحوارات والمواثيق، بقدر ما ذهب إلى الحفر الاركيولوجي في خلفياتها وتبعاتها وتداعياتها.

 

 يحدث كل هذا على خلفية (الصفقة)

في العموم لم تكن معظم مقاربات الصفقات التي تبرم بين الفرقاء معمقة، ولم تحفر عميقا في ما تعنيه الهدنة التي تحكم وتنتظم مسار وآليات العلاقة بين القبائل المتحاربة، بقدر ما كانت تجنح في الغالب إلى التعلق بأهداب فرسان الميدان من رموز وواجهات التقاتل وتلك مقاربات يبدو أنها استدرجت المزاج الدولي الذي راح يبحر في نفس الخضم ويختصر المعضلة بمعوقين للعملية السياسية على شاكلة علي البيض المقيم في الضاحية الجنوبية لبيروت في نطاق الخيمة الحمائية لحزب الله، وعلي صالح المقيم في ضاحية السبعين وفي نطاق حماية اتباعه من القبائل والعسكر ورعاية بعض الدوائر الإقليمية والدولية التي تقوم بتغذية ما تبقى من رمق زعامات النفق وتستمرئ ملاحقة ما يمارسانه من ألاعيب الكر والفر من داخل النفق ومن ما بعد النفق، ومن معارك كسر العظم وطحن الرؤوس التي تطبخ بعض فصولها في عواصم إقليمية ودولية.

 

بالمناسبة لا يخلو المجال من بعض الموسعين لهذه الجملة الكسيحة والقائلين بأن الأمر لا ينحصر في شخص البيض أو صالح، بقدر ما ينبغي أن يشتمل على أولاد الشيخ الأحمر وقائد الفرقة الأولى مدرع علي محسن والحوثيين والحراك المسلح و....الخ.

وليس ثمة من يقول إن كل هؤلاء معاقون ومعوقون لـ"المبادرة الخليجية"، وأن مكمن الإعاقة يرجع إلى أن البلاد تجرفت من السياسة والتمدين عبر زمن ممتد من الحروب ودورات العنف التصفوي.

 

 تحت مظلة "الزعيم"

حتى عند مجابهة استحقاق الحوار جرى التغافل عن حقيقة انه لا يمكن إحلال السلام بأدوات الحرب، ولا يمكن إصلاح "النظام" بشروطه. وعندما تدخل المجتمع الدولي واقترح صيغة توفيقية تستوعب الكثير من رؤى الفرقاء؛ قامت الدنيا ولم تقعد إلى أن تدخل مرة أخرى عبر مفاوضات وضغوط جانبية ألزمتهم بـ"التوقيع" على نحو استحضر معه توقيع علي صالح على انخلاعه من رئاسة الجمهورية، واستبقائه في الكواليس والخنادق ليمارس الحرب وهو متخفف من أثقال المسؤولية والمساءلة كـ"رئيس"، وليستمر في ممارسة هوايته كسيد للخراب لا ولن يضاهيه البيض الجريح الذي يبدو انه يريد الثأر للجنوب وإنقاذه وإعادة الأمانة إلى أهلها تحت وطأة شعوره المؤلم بذنب اقتراف "الصفقة" بنوع من الاستغماء الذي يذهب به، من حيث لا يدري إلى إغراق سفينة الجنوب التي يريد إنقاذها.

 

لقد تكاثرت الزعامات في جنوب البلاد وشمالها، وتحت مظلة "الزعيم" أو الرئيس المخلوع الذي خلع على نفسه لقب "الزعيم" لأن السلطة لصيقة بجلده، ترعرعت الكثير من الزعامات وكان تصدع مركز السلطة بصنعاء على إثر موجة "الربيع اليمني" كفيلا بتفجير بركة الآسن والعفن كلها، وإطلاق المزيد من الرؤوس الديناصورية المسخة و"الزعامات" الزاعقة باسم "الثورة الشبابية" والناطقة بمظالم التاريخ وما قبل التاريخ والجهادية والقتالية والانتقامية والهلامية إلى أن صارت كل حارة في صنعاء أو عدن أو المكلا أو تعز أو الحديدة تنطوي على طامة اسمها "زعيم" وما إلى ذلك من الكائنات المفرخة من مفقسة زعيم السبعين، أو من رحم قائد الفرقة في الستين، أو من خيمة شيخ الحصبة، وكل أمراء وجنرالات الحروب في شمال البلاد وجنوبها أكلة البارود ومشعلو الحرائق وأصحاب المصلحة الحقيقية في عدم انجاز مشروع الدولة الاتحادية، أو الدولة في الشمال أو الدولة في الجنوب، أو أي شكل من أشكال الانتظام في عقد اجتماعي وسياسي وفي ألفة جامعة، وفي اختراع وطن بدلا من هذا المطب الكبير الذي تتخبط فيه البلاد من أقصاها إلى أدناها واسمه: اليمن.

 

 

نقلا عن - صحيفة الامناء

 

متعلقات
سجون الحوثي.. جرائم وانتهاكات على مرأى ومسمع من العالم
مؤسسة الصحافة الإنسانية ترصد وفاة 60 حالة وإصابة أكثر من 7 آلاف شخص خلال شهر فقط
التسرب المدرسي معضلة تهدد مستقبل الطالبات في ردفان
تقرير: "دثينة وقبائلها".. لا حياد في الحرب على الإرهاب
الأمم المتحدة تتهم جماعة الحوثي الانقلابية بعرقلة العمليات الإنسانية للشعب اليمني