لا شك أن إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي جاء في مرحلة حرجة للغاية يعيشها الجنوب أمنياً وسياسيا واقتصادياً، ويعيش فيها الشمال عمليات حربية وعسكرية مستمرة، وهي مرحلة متداخلة إجبارياً في الوسائل والتكتيك بعيداً عن اختلاف الأهداف التي ظلت متباعدة رغم القواسم المشتركة التي انتجتها ظروف الحرب.
وانطلاقا من نقطة التحول في مسار التطورات في الجنوب الناتجة من ممارسات وفشل الحكومة في إدارة ملف محافظات الجنوب بعد تحريرها من مليشيات الغزو، كانت التطورات إجبارية مثلما كانت بداية الحرب إجبارية فيما يخص الجنوب وحتى دول التحالف العربي.
توالت الأحداث والتطورات في الجنوب، بالتزامن مع جمود غريب في سير المعارك بشمال اليمن، والتي كان يؤمل التحالف العربي أنها ستنتهي سريعاً مقارنة بحجم الدعم بالمال والسلاح التي تتلقاه جبهات مأرب ونهم والجوف وتعز، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث ! ..
وكان نفس الأمل يحذو الجنوبيين في أن يتم الانتهاء من المعارك في الشمال بإعادة الشرعية ممثلة بهادي إلى صنعاء وإنهاء الانقلاب، وذلك حتى يتم البدء بمرحلة سياسية يتم فيها وضع الحلول المناسبة وفي مقدمتها حل القضية الجنوبية بما يلبي طموحات الجنوبيين وينصف تضحياتهم الجسيمة.
لكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه السفن، وتحول الأمر إلى خطر حقيقي يهدد مكتسبات الجنوب والتحالف العربي الوطنية العظيمة، والتي تم تعزيزها بتضحيات وانتصارات متتالية ضد الإرهاب جنوباً، وكذا انتصارات وتضحيات جنوبية على طول الساحل الغربي لليمن.
وبدا الأمر أكثر خطورة، بمحاولة حزب الإصلاح الإخوانية المحسوب على شرعية هادي، تطبيق انتهازية على وضع الجنوب الغير قابل لمزيد من التمييع والتعقيد.
والآخر أيضاً هو تحول الحكومة التي عادت من منفاها إلى عدن بنفس عقليتها التي ترعرعت في كنف علي عبدالله صالح، غير آبهةٍ بكل التحولات والتطورات التي جرت في الساحة الجنوبية واليمنية على حد سواء.
وبدلاً من معالجة الحكومة للملفات التي تفرز معاناة شديدة للشعب في الجنوب، ذهبت إلى تعميق تلك المعاناة بأساليب استعجال الصراع السياسي والمناكفات على حساب الشعب ودون أي مسؤولية أخلاقية أو وطنية أو حسابات لظروف المرحلة وتعقيداتها، وكان ذلك بمثابة تغطية لفشلهم حتى يتحمل الجنوبيون مسؤولية تأخير جبهاتهم المؤخرة أصلاً. بل أنها ذهبت إلى محاولة خلق صراعات مسلحة من خلال التجييش المشبوه بعيداً عن استيعاب أبطال المقاومة الجنوبية الذين أمر هادي باستيعابهم.
تراكمت المعاناة، وازداد الأنين جنوباً، وتم استخدام تأخير رواتب الموظفين بتعمد، وبحجة انعدام السيولة المالية، فيما جبهات الشمال تنعم بالهدوء والسلام وتتلقى الأموال المكدسة .
وفي أوج المعاناة للشعب الجنوبي الصابر على كل ممارسات الحكومة التي تدار بعقلية ( المخلوع صالح ) كان شرر ( القرارات الإقصائية ) كفيلاً بتفجر الخلاف واستفزاز إرادة الشعب التي طالما صبرت على كل الحماقات الرسمية، ليدخل المشهد في تحول غير اعتيادي تمثل بخروج شعبي في مليونية ( إعلان عدن التاريخي) ومن ثم ( إعلان المجلس الانتقالي السياسي الجنوبي).
وهنا كان الوضع أن يوشك على الانفجار من خلال الدفع به من قبل قوى الشمال الملتحقة بشرعية هادي، والتي تحاول طعن التحالف العربي والمقاومة الجنوبية منذ أول وهلة من الحرب. إلا أن إرادة الجنوبيين الوطنية وبمساندة التحالف حالت دون ذلك، ووجهت صفعة قوية لتجار الحروب وتلك القوى المأزومة التي لا تعيش إلا على الصراعات والتكسب .
تم إعلان المجلس الانتقالي وسط ترحيب شعبي جنوبي غير مسبوق، وحاولت قوى التأزيم أن تشب النار، ولكنها فشلت، كما فشلت في خلق رأي عام ضد المجلس الانتقالي الجنوبي الوليد.
سيناريوهات ما بعد المجلس الانتقالي
بدراماتيكية غير متوقعة جرت التطورات سريعاً، وتحولت الأنظار صوب عدن التي أعلنت فيها قيادات الثورة الجنوبية، عن قيام المجلس الانتقالي السياسي الجنوبي، والذي بات حديث العالم كله من أقصاه إلى أقصاه.
وبهذا التحول الذي جعل الجنوب كتلة واحدة، وأظهر غموضا في مواقف دول التحالف، وهو غموض يكشف عن التأييد الغير معلن للمجلس وتحفظاً غير معلن أيضاً، لكنه بتاتاً لم يكن رفضاً، كما نال المجلس تأييداً غير عادي من قبل قيادات ونخب خليجية وعربية لإعلان المجلس الانتقالي وبشكل واضح وجلي ومعلن.
عقب يوم من إعلان المجلس الانتقالي، طلبت المملكة العربية السعودية وهي إلى جانب الإمارات العربية المتحدة تقود ( التحالف العربي ) من رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي المفوض شعبياً بمليونية إعلان عدن التاريخي القائد الأعلى للمقاومة الجنوبية اللواء عيدروس الزبيدي المغادرة إلى المملكة لمناقشة أمر المجلس، حيث غادر الزبيدي ونائبه الشيخ هاني بن بريك.
حيث التقى الزبيدي بالسفير السعودي في اليوم الثاني من وصوله، بعد أن التقى الزبيدي في اليوم الأول بعدد من القيادات والشخصيات الجنوبية في المملكة، وسيواصل الزبيدي ونائبه لقاءاته ومناقشاته بشأن المجلس المعلن عنه برئاسته.
وبحسب ما توفر لدينا من معلومات، فإن اللقاء بين اللواء الزبيدي والسفير السعودي كان جيداً، حيث أبدى السفير السعودي للزبيدي عتاباً حول عدم علم السعودية بالإعلان، لكنه بالمقابل أوضح أن المملكة والإمارات متفقتان.
من هنا يمكن قراءة سيناريوهات ما بعد إعلان المجلس، وردود الأفعال الرسمية من قبل دول التحالف العربي.
سيناريوهات مختلفة
بشكل واضح يبدو أن هناك تفاهماً دولياً حول إعلان المجلس الانتقالي السياسي الجنوبي، خاصة مع أن الإمارات العربية المتحدة التي تمسك ملف الجنوب منذ ما قبل التحرير أعلنت أن مهمتها الحربية مع الانقلابيين الحوثيين والمخلوع صالح قد انتهت، وأن حربها المتبقية هي حرب مع الإرهاب في جنوب اليمن ، وهو ما نجحت فيه بتميز من خلال تحالفها مع القيادات الجنوبية الوطنية التي تعمل في الميدان.
وبما أن هناك تفاهمات سعودية إماراتية باعتبارهما الدولتان المتزعمتان للتحالف العربي، فتلك التفاهمات لا تتم على الطاولة عادة، ولكنها تتم وفقا للإجراءات الدبلوماسية بين الدول، وقد أكد ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي/ محمد بن سلمان، أن علاقة المملكة بالإمارات علاقة تاريخية وقوية، واصفاً ترويجات الخلاف بين البلدين بأنها مجرد محاولات لإعلان الإخونج.
ويمكن لنا هنا أن نختصر الحديث في سيناريوهات ما بعد إعلان المجلس الانتقالي وبغض النظر عن دلالة التوصيف السياسي أو القانوني للمجلس، والذي لنا حديث آخر في هذا الخصوص، وذلك بنقاط محددة كالآتي:
السيناريو الأول:
اعتراف غير معلن بالمجلس السياسي الجنوبي من قبل التحالف العربي، وما يؤكد ذلك حتى الآن هو عدم صدور أي من السعودية أو الإمارات بيانات رفض أو إدانة لخطوة إعلان المجلس. فيما ركزت تصريحات أمينا مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية على التمسك بوحدة التراب اليمني ورفض خطوة الانفصال. وهذه لها أحكامها في العرف الدبلوماسي الدولي.
السيناريو الثاني:
رفض المجلس من قبل التحالف العربي، وإعلانه كــ" تمرد " على ما تسمى " الشرعية " وهذه الخطوة لها من الخطورة أكبر من الاعتراف بالمجلس، حيث أن الجنوب اليوم هو الورقة الوحيدة التي كسبها التحالف العربي منذ تدخله في الحرب، وفقدانه لورقة الجنوب من خلال الرفض يعني دخول الجنوب في فوضى عارمة وهذا ليس لمصلحة التحالف ولا دول العالم، بما يعني أن التحالف حينها سيكون قد أفشل نفسه بنفسه وأسقط الورقة الوحيدة التي يمتلكها .
السيناريو الثالث:
بالنسبة لوضع الشرعية في حالة الاعتراف بالمجلس الانتقالي الجنوب أو رفضه من قبل التحالف العربي، فهو ذات الوضع الذي لا يملك أي ثقل ميداني، غير ثقل ( القرار الرسمي) وهذا القرار لن يكون مجدياً في ظل فقدانه أساس قوته وهي القوة والحاضنة الشعبية.
السيناريو الرابع:
تواؤم المجلس الانتقالي الجنوبي مع " الشرعية " من خلال استحداث خارطة عمل سياسية تضمن تحقيق التوازن بين عمل المجلس ووضع الشرعية السياسي، وهذا يعني استمرار العمل وفق ( القواسم المشتركة ) طالما والحرب لا تزال مستمرة على الحدود الجنوبية وفي الشمال كذلك، أي إعطاء فترة زمنية جديدة للعمل المشترك بين المجلس السياسي والشرعية، وهذا ما سيجعل التضارب في العمل مستمراً وبالتالي انعكاس الصراع السياسي على وضع المحافظات المنهارة خدماتياً واقتصادياً، ما سيؤدي إلى استمرار المعاناة.
السيناريو الخامس:
أن المجلس الانتقالي قد يتعرض لعملية تأطير سياسية، بدلاً من كونه ( انتقالياً)، أي أنه يكون مجلساً سياسياً شريكاً مع الشرعية في الحكم والنفوذ بالجنوب، وهو ما يعني تقليص نفوذ الشرعية السياسي بالتزامن مع انعدام لأي قوة له ميدانية، فيما المجلس السياسي الجنوبي يمتلك كل مقومات القوة وهي ( القيادة – القوة العسكرية – الدعم والشرعية الشعبية ).
السيناريو السادس:
حل المجلس الانتقالي الجنوبي، وهذا الأمر لن يحل المشكلة ولن يعيد الأمور لمجاريها، بل سيخلق مشكلة جنوبية داخلية بين الشعب وبين قياداته التي وثقت به، وبالتالي سيؤدي إلى فراغ قيادي سياسي وعسكري وبروز ظاهرة المليشيات المسلحة، وتحول الجنوب إلى السيناريو الليبي .
وعلى وقع كل الاحتمالات في بلد كل شيء فيه متوقع كاليمن، يظهر أن القادم غامض جداً، ولا مؤشرات حقيقية للخروج من المأزق الذي لم تدخله اليمن وحدها، بل أُدخلت فيه معها دول الخليج أيضاً.
وبالمقابل، ونتيجة لخطورة المرحلة، ومدى التأثير الذي سيلحق بمصالح العالم والدول العظمي، في حال انهيار الجنوب ودخوله في الفوضى، فإن الأمر الأقرب للحدوث، هو بقاء المجلس الانتقالي الجنوبي، كممثل لقضية الجنوب المعلقة بدون حل منذ حرب غزو الجنوب عام 94 وانتهاء مشروع الوحدة اليمنية.
ومصير بقاء المجلس الانتقالي الجنوبي، يتعلق بمدى جدية دول العالم في تفادي الخطر المحدق بالجنوب وعدن وباب المندب، ومحاربة الإرهاب، وهي المخاطر الرئيسية التي تجعل من الجنوب محط اهتمام دولي.
وبدون المجلس الانتقالي أو السياسي الجنوبي، سيغدو الجنوب بين عجز الشرعية، ومطامع المليشيات المدعومة من إيران، ونشاط الجماعات الإرهابية، وتحركات قوى الثورة الجنوبية.
وفي حساب المصالح وصراعاتها، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون التحالفات والمواقف السياسية والتوجهات ثابتة، وهو ما سيطبق على وضع اليمن والجنوب اليوم، خاصة بعد أن أثبت الجنوبيون جدارتهم في محاربة الإرهاب وقدرتهم على حماية مناطقهم وحكمتهم في عدم انزلاق الأمور إلى صدامات مسلحة عادة ما تشهدها الدول عقب الحروب.