لعدن أهمية استراتيجية وجغرافية، وهو الأمر الذي جعلها محط أطماع العالم، فهي تربط بين الشرق والغرب من خلال الممر المائي المعروف بباب المندب، وازدادت أهميتها كميناء مهم بعد افتتاح قناة السويس في عام (1869م)، بحيث أصبحت قناة السويس البوابة الشمالية للبحر الأحمر وعدن البوابة الجنوبية له.. ونظرا لأهمية ومكانة عدن التاريخية والاستراتيجية التقت ( الأمناء) بالمؤرخ والكاتب/ نجمي عبد المجيد، الذي أحاطنا بحصيلةٍ لا بأس بها، في أن تكون عناوين عريضة للاستزادة والبحث أكثر، حتى يتم تجاوز الصراعات التي قد تتشابه سيناريوهاتها مستقبلاً إذا ما تشابهت مع أحداث اليوم، وهذا الأمر يلجم الأمور حتى لا تسقط وتخرج عن زمام السيطرة ويحدث ما لا يُحمد عقباه، فإلى تفاصيل اللقاء:
غياب المشروع الاقتصادي والسياسي
وفي بداية اللقاء استعرض الباحث العدني "عبدالمجيد" في أن العاصمة عدن شهدت بعد عام (67م) صراعات سياسية جمة ولم تعرف الاستقرار، والسبب في ذلك يعود لغياب المشروع الاقتصادي والسياسي الذي يحدد مصير أي بلد.. وعادة ما يحدث هذا بفعل فقدان القيادة.
ويضيف قائلا: (نحن لم يكن لنا هذا النوع من الإدارة، كانت لنا سلطة وهناك فرق بينهما.. وهذا ما ترك لنا تراكمات من الأزمات والحروب التي لم توصلنا إلى أي نتائج أو حلول، بل ترحيل من مرحلة إلى أخرى، وكل ترحيل يسحب مع إخفاقات السابق ويدخله على القائم، كذلك المراهنات على المشاريع الفاشلة سياسيا التي كنا نندفع إليها دون وعي أو مراجعة لأبعادها وممارسة عملية الإقصاء بحق كل طرف اختلف مع السلطة حتى ولو هو من داخلها، كذلك إلغاء كل مظاهر المجتمع المدني التي كانت في عدن أيام الحكم البريطاني وجعل السياسة قائمة على صوت واحد وهو صوت السلطة الذي وصل في النهاية إلى حد الاختناق).
وأوضح: ( كل هذا أوجد فجوات بين العقل والواقع وبين السلطة والشعب، وحوّل عدن إلى ساحة تصارع، وكل محاولة فرض لشكل معين للحكم تسقط في هذه المدينة لأنها مدينة لا تقبل صياغات دخيلة عليها، لذلك كل من حاول الاستحواذ على عدن وجعلها غنيمة لا يعمر فيها ) .
وواصل حديثه: (عدن تبحث عن العقلية المدنية في إدارتها، ودون هذا سوف تظل تعيش في دائرة الأزمات والحروب.. نصف قرن من الزمان يمضي (1967م- 2017م) والسؤال الذي يطرح أمامنا : ماذا تحقق لعدن بل للجنوب ككل؟ والإجابة نجدها في شواهد الماضي وأزمات الحاضر وكأننا مجتمع يعيد إنتاج المتصدع والمترنح والمتهاوي.
واليوم يطرح نفس تساؤل المأزق التاريخي على عدن وأهلها، هل نمتلك القدرة على إيجاد قيادة وليست سلطة، قيادة لها مقدرة في التعامل مع ما يطرح علينا من مشاريع هي صناعة مشروع الشرق الأوسط الجديد).
قراءة المشروع البريطاني
ويضيف: ( في الماضي لم نقدر على قراءة المشروع البريطاني فكان الخروج عليه انجرار نحو متاهات متواصلة ورثنا منها مفارقات اليوم، والآن نقف أمام مشروع إقليمي ودولي، وعدن هي المقصد في كل هذا لأنها المدخل والمنطلق في كل فترة تشهد نقلة في إدارة الصراعات.. عدن اليوم هي الحل والأزمة في وقت واحد، ومحاور عدة يتقدم كل منها برؤية، والرأي العام في الشارع العدني له تصوره، ولكن أين القيادة التي تحول هذا الرأي إلى موقف وقرار عام؟! ، وحتى الاختلاف مع التصورات الأخرى علينا قراءتها في مضمار الحاصل، وكذا علينا تجنب الحسم عن طريق القوة لأن هذا مجرب في السابق، وهو وإن كان فترة صعود لطرف لكنه لا يقود إلا إلى الهاوية ) .
وأشار: ( نحن مجتمعات جربت الحسم القهري في دورات صراعاتها ووصلت بذلك إلى نقطة التراجع وكل هذا مراقب من قبل المجتمع الدولي وكذلك الإقليمي الفاعل في تحريك مسارات الأحداث ) .
عدن محرقة لمن يحكمها
وحول خصوصية عدن ونظرته فيها يقول المؤرخ: (كل المصادر التاريخية المتحدثة عن عدن تؤكد أن هذه المدينة لا تعرف الازدهار إلا عندما تجد قيادة تحفظ الاستقرار الاجتماعي فيها.. وعندما تخرج هذه المعادلة من حسابات الدولة تصبح عدن محرقة لمن يحكمها، تلك أيضا من خصائص عدن التي علينا أن لا نضعها في دوامة التجاهل).
ويضيف: ( الدولة المدنية هي مطلب عدن، وهذا الحق التاريخي لعدن إن لم يدرك بموضوعية لا أظن بأننا سنصل إلى منفذ من أزمات الحاضر..)
وأكمل نجمي: ( في العهد البريطاني وكما يعرف الكثير تعايشت في عدن مختلف الأطياف ، وكانت قوانين المجتمع تحدد نوعية العلاقات بين الناس، وذلك ما أبعد عنها شبح الحروب الأهلية والسياسية، ولكن هذه الأسس كلها ضربت بعد عام (1967م) ودخلنا في مخنق الصوت السياسي المنفرد والسلطة الشمولية، وتحول الجمع إلى صيغة المفرد ) .
موضحا: ( ولعل أخطر الحسابات العدنية، أن هذه المدينة تظل مطلوبة في فترات الصراعات لأنها في خط المواجهة ومن يحكم عدن ينطلق مسافات ما بين البر والبحر.. هذا ما أدركته بريطانيا ومن بعدها الاتحاد السوفيتي واليوم أمريكا وغيرهم من الدول الحاملة لمشاريع الحضور العسكري والحسابات الاقتصادية، في إعادة وهيكلة جغرافية المنطقة ) .
غياب الثقافة السياسية
ويقول المؤرخ: ( في عدن تبدو مسألة الجمع بين السياسة والسلطة حالة لم تتبلور أسسها بعد بالرغم من التجارب التي مرت علينا والتي يجب أن تصبح المرجعية التي نتعلم منها كيف نتجاوز الوقوع في نفس الأخطاء، وكيف ندير مقابض العمل في التعامل مع اتجاه يدفعنا نحو مفترق لا نريد الدخول فيه.. في مجتمعات تغيب عنها الثقافة السياسية لا تكتمل فيها شروط القيادة، وهذه وضعية ليست وليدة عدن فقط بل إرهاصات مرت على عدة دول خرجت من حقبة الحكم الغربي لتدخل في تناحرات السلطة الفاقدة لخبرة قيادة الدول ومستقبل الشعوب).
أكثر من مفترق
ويضيف: ( عدن اليوم تقف في أكثر من مفترق، وهي أمام اختبار وتمر بتجربة، ولكن نعود إلى تساؤل الأزمة المستمرة، أين هي القيادة وليست السلطة؟ سيظل هذا التساؤل الحد الفاصل بين الخروج بهذه المدينة من الدائرة المغلقة و العمل على قيام دولة مدنية، أو العودة إلى نفس الحدود السابقة من مسارات الصدام.. حتى الآن لم يكتب تاريخ عدن السياسي كما يجب منذ فترة الحكم البريطاني مرورا بعد عام (67م) وحتى الوقت الراهن وهي قضية إن أدركت عند مستوى الوعي السياسي المطلوب ستصبح أمام الأجيال منافذ تصلهم بين حاضرهم وتراثهم، وهذا معروف في المجتمعات الراقية التي يكون في الإرث السياسي علم وثقافة وليس عمل يقوم على التآمر والحروب، عدن تتطلب هذا النوع من السياسة القائمة على العلم والثقافة، ولكن دوامة الصراعات غيبت هذه الخاصية عن الذاكرة، وهي جسر منسوف بين طرف الأقدام وهاوية الاندفاع ) .
عقليات صاحبة نظرة
أما بخصوص رؤيته المستقبلية لعدن يقول نجمي: (عدن مدينة لها مواصفات عالمية وتمتلك القدرة على النهوض لو وجدت بها عقليات صاحبة نظرة علمية وحضارية، وكل الدول التي مرت على هذه المدينة كانت تدرك هذه الصفة وهي ميزان التوافق وبوصلة تحديد الاتجاه في هذا الجانب.. في عدن يجب أن يتقدم الثقافي على السلطوي والسياسة هي درجة من درجات الوعي الحضاري ولا يمكن لأطراف متصارعة أن تخلق عقلية مدنية ترسم لعدن مستقبلها).
وأشار: ( نحن اليوم نعيش في عالم تغيرت فيه الكثير من الأفكار والمصالح، وأصبحت المعرفة هي من تبرمج أعمال الشعوب وكل أمة تطمح لتصدر المشهد المعرفي في عالم اليوم.. يجب عليها وضع الوعي في أولويات عملها.. ومكانة عدن في السياسة الدولية تتطلب في الحاضر العمل في هذا الإدراك وبدون ذلك سنظل في نفس مربعات الأزمات والعجز عن الخروج منها ) .
عدن .. ساحة صراع
موضحا: ( نحن نطمح بأن تكون لعدن منزلتها العالمية التي عرفت بها في السابق بين الأمم وعبر تاريخها.. عدن بدون وعي حضاري تصبح ساحة صراع من أجل طموحات قاصرة.. كما نسعى من أجل مستقبل لعدن، ولكن علينا أن ندرك أن الأحلام حاجة وتغير الواقع شيء آخر . اليوم عدن في خط المواجهة مع محاولة استعادة دورها الحضاري، وهذا يتطلب جهود يأتي فيها أهل الوعي والمعرفة في الصف الأول للقيام بمثل هذه المكانة، وكل حركة إقصاء لهذا العامل لا تخدم دور عدن التي يسعى المجتمع الدولي إلى وضعها في مسار مصالحه الكبرى، وكل من يعجز عن هذا التأكيد التاريخي لعدن سيذهب نحو ذلك المصير الذي انتهى إليه الاندفاع السابق المفتقد لبعد النظر (هنا.. والآن) ).
العودة للتراث
موضحاً : ( لذا علينا اليوم العودة لتراث عدن وتاريخ المجتمع المدني الذي عرف قبل عام (67م) وهو قادر على إعطاء العديد من المعارف لندرك ما هو يسير مع متطلبات الحقبة الراهنة، وهذا فعل واعٍ تقدم عليه معظم الشعوب في لحظات تستعيد فيها ذاكرتها وعندما تدخل في عملية المقارنة والمقاربة بين المراحل.. هناك أيضا أهمية تنوير العامة بهذا الجانب من منزلة عدن، لأن الوعي لو ظل عند مساحة محدودة من التجاوب لن يرتقي إلى مقدرة المشاريع الكبرى.. الشارع العدني له حضوره في مختلف المراحل وتلاقي هذه الأطراف هو ما يعزز نحو اتجاه عدن الذي يرغب كل أهلها أن تصل إليه، مدينة حضارية تحكمها قوانين المجتمع المدني، مدينة تتحول فيها العملية السياسية إلى مستوى من العلم والثقافة وتنسحب منها نهائيا سلطة الهيمنة والإقصاء، ودون ذلك لن تخرج عدن من عقلية المراهنة على حدود الدم ) .