تجري مطالبات واسعة بين أوساط الشعب الجنوبي، لاستلهام تجارب الشعوب التنموية الملهمة، ودراستها دراسة حقيقية والاستفادة منها، ومنها الشعوب التي نهضت بعد حروب مدمرة كاليابان وألمانيا وغيرها، وكذا التجربة التركية والتجربة الماليزية الرائدة حالياً على مستوى العالم، واستنهاض الجنوب والعودة بهِ إلى وضعه السابق، بل وأفضل من وضعه السابق إذا ما صدقت النوايا وتكاتف الجميع، على تحقيق التنمية المستدامة في كافة الجوانب.
نقاشات جنوبية مهمَّة
وتدور نقاشات جديرة بالاهتمام، في الوسائل المختلفة لأدوات التواصل الاجتماعي، بأن يحذو المسؤولون في الجنوب حذو الطبيب الماليزي الفقير "مهاتير محمد"، الذي أصبح كأيقونة عالمية للنجاح، ويُشار إليها بالبنان، وكذا تجعل الماليزيين يعتزُّون ويفتخرون بمسؤوليهم وبوطنهم، وينقادون لهم عندما يرون نواياهم وأعمالهم الحقة على أرض الواقع.
ولكي يعرف الجنوبيون، مدى تقدم الماليزيين ومن أي وضع انطلقوا، فقد قام قسم الرصد والتوثيق في "الأمناء" بتحرير هذه المادة، كي تصنع نوعاً من أنواع المقاربات بين الشعب الماليزي والشعب الجنوبي المؤهل بالإمكانات التي فيه، إذا ما استقلت استقلالاً أمثل، دون تلك المظاهر السلبية التي يغذِّيها نظام صالح والفاسدون الجنوبيون الذين غرقوا في وحل فساد نظام صالح وأتباعه الذين لا يعيشون إلا على الفساد.
ويضرب الجنوبيون المثل بدولة مهابة النظام والقانون التي كانت في الجنوب، رغم أن الاشتراكية كانت حينها موضة عالمية، كما هي الرأسمالية حالياً، لكن في الأخير هذه الأنظمة، تتغير ويتم تحديثها، على حسب الواقع، ولن تظل إلا وفق مصالح الشعب، وطفرة تنميته، فقد كان للجنوب دولة بمعنى الكلمة، وكان الإعمار فيها يضرب فيه المثل في شبه الجزيرة العربية، فقد كانت تتصدر المشهد، في حين لا تجد بعض دول الخليج التي أصبح بعضها الآن تعمل كمحرِّكاتٍ إقليمية ، وكان الجنوب فيها مضرب الأمثال في التحضر، ولكن كما يُقال العبرة في الخواتيم، ونحن هنا نحاول أن نصلح ما أفسده الدهر، بتصحيح الانحرافات، الحاصلة في هذا الجسد، الذي تعرض لدمارٍ واسع في كافة مفاصله، وأُفسِدَ جيلٌ بأكمله، لكن لا شيء يبقى مستحيلاً إذا ما توفَّرت الإرادة، والصدق والعمل الدؤوب والمستمر، المبني على الرؤى والخطط الحقيقية الجادة، ولا أحد يراهن على مشاريع الجهل المعروفة بضررها، والمعروف من ينفذ أجندتها ومن يغذيها..
مجتمع بدائي يعجُّ بالصراعات
حتى سنة 1981 كان الماليزيون يعيشون في الغابات، ويعملون في زراعة البطاط، والموز والأناناس، وصيد الأسماك.. وكان متوسط دخل الفرد أقل من ألف دولار سنويًا، والصراعات الدينية (18 ديانة) هي الحاكم.. حتى تولى أمرهم رجل اسمه (مهاتير محمد).
و"مهاتير" هو الابن الأصغر لتسعة أشقاء، والدهم مدرس ابتدائي راتبه لم يكن يكفي لتحقيق حلم ابنه “مهاتير” لشراء عجلة يذهب بها إلى المدرسة الثانوية ، فما كان منه إلا أن عمل “بائع موز” بالشارع حتى حقق حلمه، ودخل كلية الطب في سنغافورة المجاورة.
وأصبح رئيسًا لاتحاد الطلاب المسلمين بالجامعة قبل تخرجه سنة 1953 ليعمل طبيبًا في الحكومة الإنجليزية المحتلة لبلاده حتى استقلت ماليزيـا في سنة 1957، ففتح عيادته الخاصة كـ “جراح” وخصص نصف وقته للكشف المجاني على الفقراء مما أهله للفوز بعضوية مجلس الشعب سنة 1964 الذي عمل فيه مدة خمس سنوات ثم تفرغ لتأليف كتاب عن “مستقبل ماليزيا الاقتصادي” في سنة 1970.
تم انتخابه “سيناتور” في سنة 1974، وتم تعيينه وزيرًا للتعليم في سنة 1975، ثم مساعدًا لرئيس الوزراء في سنة 1978، ثم رئيسًا للوزراء سنة 1981 لتبدأ في نفس العام النهضة الشاملة لماليزيا.
ماذا فعل الطبيب الفقير؟
أولًا: رسم خريطةً لمستقبل ماليزيا حدد فيها الأولويات والأهداف والنتائج التي يجب الوصول إليها خلال 10 سنوات.. وبعد 20 سنة.. حتى سنة 2020 !
ثانيًا: قرر أن يكون (التعليم والبحث العلمي) هما الأولوية الأولى على رأس الأجندة، وبالتالي خصص أكبر قسم في ميزانية الدولة ليُضَخ في التدريب والتأهيل للحرفيين.. والتربية والتعليم.. ومحو الأمية.. وتعليم الإنجليزية.. وفي البحوث العلمية.. كما أرسل عشرات الآلاف كبعثات للدراسة في أفضل الجامعات الأجنبية.
ثالثًا: أعلن للشعب بكل شفافية خطته واستراتيجيته، وأطلعهم على النظام المحاسبي الذي يحكمه مبدأ (الثواب والعقاب)؛ للوصول إلى “النهضة الشاملة”.
فصدّقه الناس ومشوا خلفه مبتدئين بقطاع الزراعة، فغرسوا مليون شتلة نخيل زيت في أول سنتين لتصبح ماليزيا أولى دول العالم في إنتاج وتصدير زيت النخيل!
قطاعات السياحة والصناعة والاقتصاد والاستثمار
واستغل مهاتير نقاط القوة فراح يوسع من أرضية الاستثمار في شتَّى القطاعات، ومنها قطاع السياحة والصناعة والاقتصاد والاستثمار بالذات؛ لأنها أهم القطاعات، وهي قطاعات العملة الصعبة.. فقرر أن يكون الدخل في عشر سنوات هو 20 مليار دولار بدلاً من 900 مليون دولار سنة 1981، لتصل الآن إلى 33 مليار دولار سنويًا!.. وكي يستطيع الوصول إلى هذا الدخل، حول المعسكرات اليابانية التي كانت موجودة من أيام الحرب العالمية الثانية إلى مناطق سياحية تشمل جميع أنواع الأنشطة الترفيهية والمدن الرياضية والمراكز الثقافية والفنية..
لتصبح ماليزيا مركزاً عالميًا للسباقات الدولية في السيارات والخيول والألعاب المائية والعلاج الطبيعي.
وفي قطاع الصناعة .. حققوا في سنة 1996 طفرة تجاوزت 46% عن العام الذي سبقه بفضل المنظومة الشاملة والقفزة الهائلة في الأجهزة الكهربائية، والحاسبات الإلكترونية.
وفي النشاط المالي .. فتح الباب على مصراعيه بضوابط شفافة أمام الاستثمارات المحلية والأجنبية لبناء أعلى برجين توأمان في العالم.. بتر و ناس.. يضمان 65 مركزاً تجارياً في العاصمة كوالالمبور وحدها .. وأنشأ البورصة التي وصل حجم تعاملها اليومي إلى ملياري دولار يوميًا.
أكبر جامعة إسلامية
أنشأ "مهاتير محمد" أكبر جامعة إسلامية على وجه الأرض والتي أخذت بالتطور لتنضم إلى قائمة أهم خمسمائة جامعة في العالم يقف أمامها شباب الخليج بالطوابير، كما أنشأ عاصمةً إدارية جديدة اسمها putrajaya بجانب العاصمة التجارية كوالالمبور، وبنى فيها مطارين بالإضافة إلى الطرق السريعة وعشرات الفنادق ذات الخمس نجوم وغيرها، تسهيلاً للسائحين والمستثمرين الوافدين من الصين والهند والخليج ومن كل بقاع الأرض.
باختصار.. استطاع "مهاتير محمد" من 1981 إلى سنة 2003 أن ينقل بلده من بلد متخلف مهمل إلى دولة حضارية تتربع على قمة الدول الناهضة التي يشار إليها بالبنان والبنيان. ويرافق هذا الازدهار مع تضاعف دخل الفرد الماليزي من 1.000 دولار عام 1981 إلى 16.000 دولار سنوياً عام 2003!!.. أما الاحتياطي النقدي فقد ارتفع من 3 مليارات إلى 98 مليارًا، ووصل حجم الصادرات إلى 200 مليار دولار.
الاعتزاز الوطني
كان الرجل يهتم بصناعة الشخصية وباعتزازها الوطني وبقضيتها، فلم يكن يسرق شعبه وكان يقول: "أنت ماليزي ويجب أن تفخر بنفسك".
ورغم كل الإنجازات التي تحققت على يديه لماليزيا فهو لم يطلب يوماً من أبناء شعبه أن يقدموا أي ولاء لشخصه، بل كان يحثهم على العمل والإنتاج.
"مهاتير محمد" الذي ما فتئ ينتقد أنظمة الغرب ، لم ترهبه إسرائيل ولم يعترف بها كدولة. "مهاتير محمد" لم ينتظر معونات أمريكية أو مساعدات أوروبية، ولكنه اعتمد على الله، ثم على إرادته، وعزيمته وصدقه، وراهن على سواعد شعبه وعقول أبنائه ليضع بلده على الخريطة العالمية، فيحترمه الناس، ويرفعوا له القبعة !!
في سنة 2003 وبعد 21 عامًا قضاها في خدمة بلده قرر بإرادته المنفردة أن يترك الحكم، رغم كل مناشدات شعبه التي كانت تحثه للبقاء، تاركًا لمن يخلفه خريطة طريق وخطة عمل اسمها “عشرين.. عشرين” وهي ترمز إلى شكل ماليزيا سنة 2020 والتي يفترض أن تصبح رابع قوة اقتصادية في آسيا بعد الصين، واليابان، والهند.
"مهاتير محمد" الذي بكاه الشعب الماليزي عندما غادر السلطة، يعيش الآن في ماليزيا مثله مثل أي مواطن آخر من الطبقة الوسطى، منزل ريفي بسيط وسيارة ومرتب تقاعد.
سيبقى الشعب الماليزي ينظر باحترام لهذا الطبيب الفقير وستبقى ذكراه حية في قلوبهم للأبد.