ظاهرة غير حضارية برزت في الآونة الأخيرة مع انبثاق توحد اليمن , وتتمثل بالانتشار اللافت للمرضى النفسيين والمتخلِّفين عقليا على حد سواء، في معظم مناطق مدينة عدن وغيرها من مدن الجنوب في هذه السنوات الأخيرة.
هؤلاء المعتلون نفسيا والمعاقون عقليا يتجمعون في شوارع وأزقة المدن بهيئات رثة تثير الخوف وبعضهم من النوع الشرس الذي لا يتوانى عن اعتراض المارة، وآخرون هربوا من ضغوط نفسية ناجمة عن قسوة اجتماعية أو معضلة صحية أو ظروف مالية، أوصلتهم إلى حالات نفسية لم يجدوا منها ملاذا سوى التقوقع في أماكن قديمة أو خربة على الأدراج وأبواب المحال التجارية وجولات راجلة على أرصفة الشوارع وتظهر على محياهم الأتعاب النفسية التي أرخت بظلالها على تصرفاتهم وملابسهم الرثة!
في هذا العدد تبرز صحيفة (الأمنــاء) بعضا من أوجاعهم وتتلمس أوضاعهم وتنقل بعض طرائفهم وقصصهم وتستوضح عما يقال عنهم أنهم مخبرون أو بعضهم وما تجره هذه التهمة عليهم من متاعب أحيانا وأحياناً مالاً وفيراً..
حين تدخل عالم المجانين وتبحث عن حقيقتهم ووضعهم وظروفهم وحقوقهم تجد الكثير من الطرائف والقصص العجيبة والمواقف المضحكة "وشر البلية ما يضحك فإلى فقرات التقرير والدخول إلى عالم المجانين.
فصائلهم متنوعة
هم متنوعون في الأسلوب والطباع، متواجدون في كافة الشوارع، بعضهم يفضل الأكل من الزبالة ويخزن من أعواد القات المرمية في الشوارع، بينما البعض منهم يطلب منك أن تعطيه مبلغاً مالياً والبعض يطلب منك سيجارة والبعض يجلس عند أبواب المطاعم عندما يشعر بالجوع، والبعض منهم سيار لا يقف ولا يتوقف إلا عندما يهاجمه النوم والتعب بينما البعض منهم اختاروا أماكن معينة يفرشونها بالكراتين هي مقر إقامتهم الدائمة أينما ذهبوا يعودون إليها آخر النهار.
منظر مشاهدة المجانين أصبح أمراً مألوفاً لا يستنكره أحد، وكل حي ومنطقة في العاصمة عدن وفي غيرها فيه مجانين مخصصون لذلك الحي، بعضهم لهم سنوات ، ومن هؤلاء المجانين هم مجانين منذ الولادة وهم نسبة بسيطة جدا ..أما الأغلبية الساحقة منهم مرضى نفسيون، بعضهم يتحدث بحكمة ثم يخلط ولكنه يدرك كل ما يدور حوله من تغيرات سياسية واجتماعية ودينية ومع هذا هناك نسبة منهم تشكل خطراً وعدوانية بعض الشيء إذا تم استفزازها .
واقع مؤلم :
تجار وسكان مدينة عدن بشكل خاص يقولون إنهم يعايشون واقعا مؤلما في تفشي ظاهرة انتشار المرضى العقليين والنفسيين في الشوارع بصورة خاصة، وهم في وضع إنساني مؤلم وفي حالة صحية خطرة إضافة إلى تصرفاتهم التي تلحق الضرر بهم وبالآخرين على حد سواء، ويهيم هؤلاء المرضى الذين يرتدون ملابس رثة على وجوههم وسط زحام السيارات، معرِّضين حياتهم للخطر.
(الأمنــاء) خلال تواجدها بشوارع مدينة عدن رصدت المشهد الذي يعد من المشاهد السلبية في العاصمة عدن، في ظل غياب كامل أطراف الجهات المعنية و صاحبة الاختصاص ، الأمر الذي أسهم -ولا يزال- بانتشار المزيد من المرضى النفسيين والمصابين بإعاقات عقلية، لتكون شوارع المدينة مستقرا لهم!
حكايات غامضة
خمسيني تعرض لضغوط حياتية متعددة تسببت بإصابته بمرض نفسي يقول: أنزل إلى وسط المدينة يوميا، مشيرا إلى أنه كان يعمل مترجما ولديه ثقافة عالية قبل أن يتعرض لأمراض نفسية، جعلته يركن في أطراف المدينة بحثا عن الظل ليتقي حرارة الشمس، ويحصل على مساعدات نقدية من المارة دون أن يعمد إلى التسول.
ويرجع ذلك الخمسيني متاعبه إلى ذويه وتعاملهم المتشدد معه بالإضافة إلى النظرة الاجتماعية للمريض النفسي، مشيرا إلى أنه يواظب على التواجد في شوارع المدينة يوميا بسبب توافر الخدمات المتعددة من مطاعم بأسعار شعبية .
ويقول مريض نفسي آخر يبلغ من العمر (55) عاما إنه استكمل دراسته للغة الانجليزية من إحدى الجامعات وعمل بعدها في إحدى الدول الخليجية، ونتيجة لضغوط الهجرة وقع في أسر الظرف النفسي الذي تعالج منه في البداية وعزف عن العلاج أخيرا لتأثيره على الجسم بسبب استخدام الصدمات الكهربائية في أحد المصحات الرسمية.
ويضيف أن والديه توفيا وكان يقيم عند شقيقه الأكبر الذي توفي أيضا، الأمر الذي جعله يلجأ للإقامة في وسط الشوارع بأحد البيوت المهجورة، مشيرا إلى أنه يجد متعة في التجوال في وسط المدينة ورؤية الناس، لأنه يمقت الوحدة، بحسب وصفه.
شاب آخر يمشي على امتداد الشارع وقد أطلق العنان لشعر ذقنه بصورة عشوائية وملابس بالية ويقوم بعمل حركات من ألعاب قتالية كراتيه وتايكواندو وهو من النوع الشرس، حيث بدرت منه حالة هيجان جعلته يعترض المارة ويحاول الاعتداء عليهم..
خطورة بالغة
وتتواصل المشاهد غير الحضارية ونحن نرى شابا آخر يركض من بداية سوق الذهب إلى نهاية الشارع ذهابا وإيابا يتخيل أنه يقود دراجة هوائية ويمشي بتعرجات ويرتطم بالمارة في لجة انفعاله وخياله الذي جعله يعتقد أنه فوق دراجة هوائية! .
ويرقد مريض آخر أمام أحد المطاعم الكبرى بمدينة الشيخ عثمان بعدن، مفترشا الأرض وملتحفا بطانية على الدوام حتى في وقت الظهيرة الذي ترتفع خلاله درجات الحرارة إلى أعلى مستوياتها.
مدير المطعم الذي ينام أمامه هذا المريض قال: هذا الرجل لا نعرف عنه شيئا، فهو يمضي فترات طويلة ثم يختفي قبل أن يعود مرة أخرى إلى موقعه، لافتا إلى أنه على هذه الحال منذ أربعة أعوام.
أما تجار سوق الذهب فلهم حكايات مع متخلف عقلي ضخم البنية يرفض أن يغادر المتجر الذي يدخله إلا بعد أن يحصل على بعض المال وسط صراخ عال يطلقه ذلك الشاب الذي يكون دوما في حالة هيجان شديد.
قنابل موقوتة تجوب الشوارع :
استفحلت بشكل كبير في مدينة عدن ظاهرة المختلين عقليا من خلال العدد الهائل لهؤلاء المختلين الذين أصبحوا يصولون ويجولون في شوارع المدينة صباح مساء وفي أوقات متأخرة من الليل في وضعيات تستفز النفوس، فمنهم من يكون مرتديا لباسه، ومنهم من يكون عاريا ويرابطون بالقرب من ملتقيات الطرق وفي التقاطعات والجولات حتى يتسنى لهم طلب النقود.
زنازين لمخلوقات بشرية :
يتواجد بالمدينة مستشفى للأمراض العقلية والنفسية بمنطقة عمر المختار يأوي المختلين الذين قامت عائلاتهم بوضعهم بعد إذن من الطبيب المشرف، بينما باقي المختلين يتواجدون بالشوارع العامة ولا يتم نقلهم إلى المستشفى إلا عندما يقدمون على إحداث الفوضى بالشوارع العامة ويزداد الأمر خلال التظاهرات والمناسبات الرسمية التي تعرفها المدينة وأغلب الحالات التي تتوافد على هذا المستشفى أكثرها تلك المتعلقة بمرض التأخر العقلي المزمن ، ويصعب على مستشفى واحد للأمراض العقلية والنفسية التغلب على كل هؤلاء الوافدين على المستشفى الذي يعاني نقصا مهولا من حيث الأطر و المعدات والتجهيزات الطبية والتي لا تلبي العدد الهائل من المرضى .
بين الصحة و الداخلية يضيع المجانين :
تبقى الدولة هي المسؤول الأول والأخير عن أي انحراف يطال هذه الفئة الاجتماعية، فمن مسؤولية الدولة إحصاء عدد هذه الفئة, ومعرفة الظروف التي تعيش فيها والإيعاز، إلى ذويهم أو إلى الجهات الوصية عليهم برعايتهم وإحاطتهم بما يكفي من رعاية اجتماعية حتى يستعيدون مكانتهم التي تنص عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان
نفور المجتمع المدني من المختلين و المشردين :
لماذا ينفر الفاعلين في المجتمع من المختلين عقليا والمتشردين في الشوارع ؟ لماذا لا يؤسسون جمعيات للدفاع عنهم و إيوائهم وعلاجهم ؟ لماذا لا تناضل الجمعيات الحقوقية من أجلهم و من أجل إقرار المبادئ الكونية لحقوق الإنسان كما أقرتها المواثيق الدولية و التي تؤكد إيمان المجتمع الدولي بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وبمبادئ السلم وكرامة الشخص البشري وقيمته، والعدالة الاجتماعية، وقد أكد الإعلان الإعلامي حول التقدم والنماء في الميدان الاجتماعي على ضرورة حماية حقوق ذوي العاهات البدنية والعقلية وتأمين رفاهيتهم وإعادة تأهيلهم، مما يفرض على جميع الدول مساعدة الأشخاص المتخلفين عقليا على إنماء قدراتهم في مختلف ميادين النشاط وضرورة تيسير اندماجهم إلى أقصى حد ممكن في الحياة العادية .