(هديل) الطفلة ذات الأعوام الأربعة ، ضحية أشهرٍ مرّت .. عانت كغيرها من أطفال عدن ويلات الحرب و قسوة النزوح ، نزحت وأسرتها إلى إحدى المدارس ، وعندما حان موعد العودة آثرت البقاء كنازحة على عودة ترسم لوحة ألم ، فما تزال صورة صديقتها بعين واحدة – راسخة في ناظريها .. خطفت الحرب العين الأخرى تاركة أثر دمارٍ نفسي لا تمحوه السنون ..
رصد / دفاع صالح
ألمٌ .. موتٌ .. معاناةٌ وحسرة لأنفس بريئة .. هذا كل ما تحمله الحروب في أحشائها ، وتضعه إما أثرا ظاهرا من صور مؤلمة للمصابين والقتلى والدمار ، أو أثرا غير ظاهر لا يمحوه الزمن من معاناة وآثار نفسية بداخل كل من عاصرها وعايش لحظات الرعب والقلق أو فقدان عزيز أو قريب أو منزل يستظل بظله ..
والأثر الظاهر قد يكون الزمن كفيل بتجاوزه ونسيانه ، أما الأثر الآخر فهو السلاح الأشد فتكاً في الحروب وهو التدمير النفسي للمدنيين الأبرياء وخصوصاً الأطفال الذين يفقدون توازنهم النفسي إزاء أحداث عصفت بأحلام طفولتهم المشرقة ...
أطفال عدن .. وجع وحسرة
تتساءل الطفلة حنان : كيف سأعود إلى منزلي وقد تهدم في الحرب ؟!
وبحسرة تقول : (أصبحت بلا منزل)..
ولأن قرابة نصف عام قد مرَ على أطفال عدن وهم بعيدون عن الحياة الطبيعية ، فقد عبر الطفل علي عن أمنية تراود تفكيره فقال : (أتمنى أن أذهب إلى الحديقة مع أصدقائي) ..
وملاك أيضا تتمنى ذلك ، وأمنية أخرى لم تزد عليها شيئا من التفاصيل ، فقط قالت : (أتمنى أن يأتي العيد) .. أمنيةٌ تختصر المسافة بين الألم و الفرح ، بالتأكيد فالطفلة تتذكر جيدا كيف أن ملابس العيد قد تبدّلت بالأكفان ..
( أنا حزين لأن اللغم قتل صديقي ) .. هكذا يقول الطفل وديع ، لم يضف شيئا ، كانت عبارته كفيلة بشرح مأساة وطن.
وفاء ، أنادير ، نجيب ، ياسمين ، سالي .. وغيرهم أطفال كُثر عانوا من ويلات الحرب وقهر النزوح ، ويحلمون الآن بحياة آمنة وإن كانت بسيطة.
صدمات راسخة في الذاكرة
يؤكد الاختصاصيون أن الصدمات التي يتعرض لها الطفل بفعل الإنسان أقسى مما قد يتعرض له من جراء الكوارث الطبيعية وأكثر رسوخاً في الذاكرة ، ويزداد الأمر صعوبة إذا تكررت هذه الصدمات لتتراكم في فترات متقاربة ، وأشاروا إلى أن من معوقات الكشف عن هذه الحالات لدى الأطفال هو أنه يصعب عليهم التعبير عن الشعور أو الحالة النفسية التي يمرون بها بينما يختزلها العقل وتؤدي الى مشاكل نفسية عميقة خاصة إذا لم يتمكن الأهل أو البيئة المحيطة بهم من احتواء هذه المشكلات ومساعدة الطفل على تجاوزها.
ويركز علماء النفس على أن الصدمة أكثر الآثار السلبية للحروب انتشاراً بين الأطفال، فغالباً ما يصاحب الصدمة خوف مزمن (فوبيا) من الأحداث والأشخاص والأشياء التي ترافق وجودها مع الحرب مثل صفارات الإنذار وصوت الطائرات ، الجنود ، الخ ، يقابلها الطفل بالبكاء أو العنف أو الغضب أو الاكتئاب الشديد ، ويضيف علماء النفس أنه إذا كانت الصدمة ناجمة عن مشاهدة الطفل لحالات وفاة مروعة أو جثث مشوهة لأقارب له فإنها يمكن أن تؤثر على قدراته العقلية ، وتتسبب الصدمة في معاناة الأطفال من مشكلات عصبية ونفسية ممتدة مثل الحركات اللا إرادية ، وقلة الشهية للطعام والابتعاد عن الناس والميل للتشاؤم واليأس وسرعة ضربات القلب في بعض المواقف ، إلى جانب الأعراض المرضية مثل الصداع، المغص، صعوبة في التنفس، تقيؤ ، تبول لا إرادي ... الآم وهمية في حالة مشاهدة لأشخاص يتألمون أو يتعرضون للتعذيب.
ويقول الأطباء النفسانيون إن الأطفال الذين عايشوا الحروب ربما لن يشفوا من الاضطرابات النفسية التي تسببها لهم الصور المختزنه في أذهانهم عن مشاهد الموت والدمار التي عايشوها ، ويؤكدون أن المشاهد التي يراها الطفل بين سن الثالثة والسابعة تشكل شخصيته وتؤثر في سلوكه ، ولذلك فإن مشاهد الجثث المحترقة والمنازل المهدمة يختزنها الطفل في عقله الباطن فتفقده طفولته وعفويته ، فالآثار السلبية لتلك المشاهد لا تنتهي بنهاية مرحلة الطفولة ، بل تشكل منظاراً يرى الطفل العالم من خلاله، ولأن الأطفال لايفهمون الحرب كما يفعل الكبار، فإنه لا سبيل أمامهم للتعبير عن تأثرهم بما يعانون ويعايشون ولا يرون من تلك الحرب إلاّ الانطواء والتوجس أو التبلد والعدوانية.
أزمة هوية
ويرى علماء التربية أن الحروب تفجر لدى الأطفال أزمة هوية حادة، فالطفل لا يعرف لمن ينتمي ولماذا يتعرض لهذه الآلام ، أما الأطفال الأكبر – الفتيان – فيجدون أنفسهم وقد أصبحوا في موقف التجنيد ، عليهم الدفاع عن أنفسهم وذويهم ولو عرّضهم ذلك للخطر وحتى إذا لم يفعل الأطفال ذلك فإنهم يجدون أنفسهم في حالة من التشرد تفوق قدرتهم على الاستيعاب خصوصاً على التعبير الجيد عن المشاعر والرغبات مما يبعث مشاعر دفينة تظهر في مراحل متقدمة من أعمارهم في صور عصبية وانطواء وتخلف دراسي وغيرها من الأعراض...
ومع ذلك فإن من علماء التربية من يرى أن هناك شيئاً من الإيجابية ينتج عن أجواء الحروب، إذ يشير بعض التربويين إلى أن الجيل الذي يعيش تلك الأجواء سيكون أكثر قوة وقدرة على التحمل شرط أن يكون وراء هؤلاء الصغار أسر واعية تشرح لهم ما وراء مشاهد الحرب التي يعايشونها أو يشاهدونها.
مشاعر تظهر أثناء اللعب
يشير علماء الاجتماع أن غالباً ما تظهر المشاعر التي يختزنها الطفل في أثناء اللعب أو الرسم، فنلاحظ أنه يرسم مشاهد من الحرب كأشخاص يتقاتلون أو يتعرضون للموت والإصابات وأدوات عنيفة أو طائرات مقاتلة وقنابل ومنازل تحترق أو مخيمات ويميلون إلى اللعب بالمسدسات واقتناء السيارات والطائرات الحربية، وتمتلئ مشاعر الطفل بالعنف والكراهية والشك واليأس والقلق، فالأهل يواجهون تحديات جمة في التعامل مع أطفالهم أثناء الحروب ليس في البلدان التي تدور فيها الحرب فحسب ، بل في البلدان التي تتابعها على شاشات التلفاز، فعلى كل الأحوال يحتاج الأطفال إلى معاملة خاصة من ذويهم سواء كانوا ضحايا للحرب أو مجرد متابعين لها.
المعايشة هي الأصعب
قد يسهل الحديث عن الآثار التي تصيب الأطفال من جراء الحروب سواء عايشوها أو شاهدوها، لكن تجارب الآباء والأمهات مع هؤلاء الأطفال هي التحدي الذي يواجه كل أسرة ، فربما يكون من السهل أن نقول للآباء والأمهات : لا تدعوا أطفالكم يرون مشاهد القتل والدمار في نشرات الأخبار، ولكن ماذا نقول لمن يعيشون التجربة حية ؟! ماذا تقول الأم لطفلها عندما يرتج بيتها من القصف؟ .. وينهار البيت المجاور، ويموت زملاء وأصدقاء أطفالها الذين يسألون عنهم، فالواقع المعاش أكثر تعقيداً من كل نظريات التحليل والتنظير ..