"سامحوني جميعكم فالدنيا أصبحت مخيفة، سامحوني وأنتم بألف سماح، هذه ليست مجرد رسالة..!، فالموت لا يستأذن أحد، لذلك لكل من آذيت (نبضه) يوماً أنا أعتذر.."، كانت هذه الكلمات البسيطة هي الوداع الأخير الذي كتبه الشهيد محمد لأصدقائه وكل معارفه، الذين أجهشوا جميعاً بالبكاء، قائلين: حقاً (الدنيا مخيفة وكئيبة) فقط، عندما لا تكون حاضراً فيها..!
كلمات تبعث القشعريرة في الجسد ، شابٌ غضٌّ ، كان يحلم في معظم صوره، بأنه سيصبح عريساً في وقتٍ قريب جداً ويأخذ لنفسه صوراً وهو بمعطف "جاكيت" العرس وعقد الفُل "جرز" منسدلاً من رقبته على صدره؛ لكن روحه فاضت إلى بارئها، وأقامت عرساً ملائكياً مهيباً في السماء، فسبق عرس الشهادة عرس الحياة..
بين شهادتين
وككثير من الشباب الجنوبي الطاهر الذين قُطفت حياتهم، وهم في ريعان الزهور؛ إلا أن الزهور لا تتكلم، والشهيد كان له بَحَّةٌ جميلةٌ في صوته وضحكته، وهي تتمرغ - الآن - في ذاكرة من يعرفونه، كان "محمد الهاشمي" طالباً يدرس في كلية المجتمع, قسم العلوم المالية والإدارية, تخصص "إدارة وسكرتارية"، السنة "الثانية" ، لقد ذهب واسمه لا يزال مقيٌّد في جداول الجامعة، وربما بعض أصدقائه، لا يعرفون أن زميل دراستهم، الذي كان كأحد فرسان العرب القدامى، نخوة وعزة وكرامة، قد قرر الانتقال إلى جامعة الملكوت..!
الأجذعـــان
48 قذيفة هي محصلة، قصف "دار الحيد" في مدينة الضالع، والذي يعد داراً مقدساً لكرامة أبناء هذا المدينة الباسلة، "وإن سقط فقد سقطت كرامتهم وانكشفت عورتهم"، حسبما كان يرددها الشهيد دائماً لأصدقائه أثناء الحرب.
وارتبط اسم الشهيد ارتباطاً مباشراً بهذه الدار العريق، وتمَّ إطلاق لقب "الأجذعين" عليهما، فكلاهما قُطعت أنفه بسبب هذه الحرب؛ لكن كرامتهما لم تسقط أبداً، وسقط الشهيد مُدثّراً بدمائه، بعد أن اخترقت جسده رصاصات قناصة المليشيات، وهو يحاول وأصدقاؤه، أن يمنعونها من الصعود باتجاه العرشي ودار الحيد.
بطـن المـوت
قصة هذا الشاب اليافع، كما يرويها شاهد عيانٍ، وشهيدٍ حيٍّ عاد من بطن الموت، ليروي هذه الحكاية، وهذا الشهيد الحي هو "كمال الجبني" الذي سكنت رأسه رصاصة قناص لئيم، فلم يستطع أن يكتب اسمه في دفاتر الموتى؛ بل سلبت الرصاصة "نور عينيه"، بعد تلك الإصابة المميتة، وكأنه محرمٌ عليه أن يرى غير أولئك الشباب الشجعان المتخندقين والمتمترسين، في الشوارع والأزقة وخلف الجدران، لقد كانت حياةً "فدائية" بحقٍّ كما يرويها هذا البطل، فشهيدنا كان فدائي قبل الحرب وبعدها، وللمفارقة العجيبة فالشهيد "هاشمي" أصيل حتى النخاع؛ لكن القضية كبيرة من وجهة نظره، إنها "قضية وطن ، مبدأ ، عرض ودين"؛ ثم إنه لم يركن لموقف سلبي متخاذل تحت أي غطاء كان، وللحق ينشد دائماً له أو عليه.
الأصدقاء الفدائيون
وترى آيةٌ عجيبة في شباب هذه المدينة الحجرية التضاريس ، معجزة تلاحم قلّ أن تجد لها نظير، كلهم بيت واحد، يجمعهم حقد رصاصات القناصة الموزَّعة على أسقف منازلهم، وعندما كانوا يسقطون تراهم يسقطون ويموتون كالأشجار الواقفة، وكذلك كان دار الحيد أيضاً، كانوا مجموعة من "الأصدقاء الفدائيين"، الذين تعاهدوا ألا يعودوا إلا معاً وإلّا فليدفنوا معاً، فسقط أغلبيتهم تحت هذا الخط الناري الأحمر، ونجا بعضهم من الموت المحتم بأعجوبة.
مصابٌ بالسرطان
أصيب هذا الشاب البالغ من العمر 24 عاما، بمرض السرطان، وأصيبت أسرته بالحزن، وباعت كلما يمكن بيعه، وسافروا به إلى "الأردن"، وتلقى العلاج الكيميائي هناك، وقبلها تلقاه في الوطن من دون جدوى، وكان في حكم المفقودين - حتماً - لمن يعرف مرضه الخطير، ونظرات الشفقة من أهله ومحبيه تخترق قلبه العطوف، وهو بدوره يرأف بتلك العيون، سخيّاً كان حتى في أحلك ظروف مرضه، وبسبب حالته المختلفة وإيمانه بعدالة الموت والحياة وبقدريتهما ، فلم يهتم لذلك ولم تنهَر إرادته، بل ظل جسده وعقله يعالجانه بالتحفيز المتواصل، إلى أن شُفي تماماً، وهذا ما أثار استغراب الأطباء المتخصصين من سرعة التحفيز والاستجابة، حتى أنهم كانوا على تواصل مستمر معه لتعجبهم من حالته، فكتبت له الحياة بعدها، وعاشها بعز مع أصدقائه الذين قاتل إلى جانبهم حتى جاء أمر الله.
كتائب الشهيد
ولأن سمعة الشهيد طيبة بين أقرانه وله حضور في المجتمع الضالعي، فهو أحد الذين كان لهم باع في مكافحة بيع الحبوب المخدرة بين الشباب، والسرقة، وذلك عن طريق النصح والتوعية والإرشاد والاحتواء، ولم يكن هذا الأمر بالقوة، ولهذا فقد تم تخريج كتيبة كاملة تحمل اسمه المحمدي، وأقيم لها حفل مهيب، حضره العديد من القادة من كل الأطياف، وأقيم حفل التخرج في ميدان الصمود الذي لا يبعد عن منزلهم الواقع في حارة الإسكان.
تخيّل فقط..!
ولا يفوتنا الإشارة إلى والد الشهيد الهاشمي، الذي يعد من أبرز المناضلين الجسورين، وهو القيادي في الحراك والمقاومة الجنوبية أ. "عبدالله حسين الهاشمي"، المعروف في محافظة الضالع، بمطاردات الأمن له منذ صيف 94، وتم اضطهاده في كل عملٍ أو وظيفة يُقدم عليها؛ لكنه أيضاً لم يرضخ لأحد، ولما قُتل فتاه الأحب إلى قلب كل من عرفوه، حتى ضُربت به الأمثال، وقيل فيه شعر لأحد الشعراء الشعبيين، بعنوان: "هذا الشبل من ذاك الأسد".
كان موقفاً صعباً للغاية، أن تنقل الجرحى والمصابين إلى المستشفى، وتعبر من فوق حدود القصف والخوف والرصاص، فتجد أن ولدك وقرة عينك مضرج بدمائه، في نقالةٍ بين يديك، لكأن نواميس الكون تغيرت، ولكأن الأرض اتسعت للحزن، لقد بعثته وإخوته ليعودوا إليك مساء اليوم، يأوون إلى فرشهم وينامون على أنغام أصوات المدافع والدبابات، التي ترعب الأطفال والنساء، والتي كانت تحط بالقرب من بيتهم، هل تنتظر يا والدي أن يعود "عصفورك الرنان" لعشه؛ كما يفعل كل مساء؛ لقد صنعت له أجنحةً وعلَّمته أن يطير ويحلق عالياً، فكيف تطلب منه أن يقف على غصن شجرةٍ يابس، لقد كسر فتاك اليافع غصن الشجرة، وطار منطلق، بعيداً.. بعيداً حيث يتنفس أكسجين الحياة الحقيقية والأبدية..