كم بين قوم إنما نفقاتهم مالٌ وقوم ينفقون نفوسا
(أبو تمام)
الوطن والوطنية روح مزروعة في أرواح كل الشرفاء في كل مكان ولقد استلهم الناس المعاني السامية للوطن من فجر التاريخ.
يقول الشاعر: ابن الرومي:
ولي وطنٌ آليت ألا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكا
إذاً فالوطن هو جزء رئيس من كينونة وجود الإنسان فهو الأصل والهوية والتراث وماضي وحاضر ومستقبل الإنسان.
وهو الأم التي يتربى ويترعرع وينمو الشخص بدفئها وحنانها ذلك لأن الوطن قد علت وارتفعت قيمه ومعانيه في عصرنا الحديث. فأضحى الإنسان يؤْثِر وطنه على نفسه ويرخص روحه لتعلو كرامة وكبرياء وطنه.
يقول أمير الشعراء (أحمد شوقي):
وطني ولو شُغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
ووطننا الغالي الجنوب قد وقّع في فخ الوحدة التي أفضت إلى تعرضه لأبشع احتلال عرفه التاريخ المعاصر في صيف 1994م التي كانت الجنوب مسرحاً لها. . فدمرت البنية التحتية لدولة الجنوب بالكامل وصودرت المصانع والمزارع والتعاونيات وكل مؤسسات وممتلكات الدولة وطُرد موظفوها وتوقفت رواتب الكثير فوقعت العائلات تحت خط الفقر فخرج الأطفال من منازلهم إلى الشوارع يبيعون رقائق الكلينيكس وقنائن المياه والجرائد. . دهست السيارات المجنونة عدداً منهم فمات من مات وتعوّق من تعوّق. . وقع عددٌ آخر منهم فريسة لمعدومي الضمائر. . ضاع الكثيرون كبضاعة رخيصة الثمن مع كبار تجار المحرمات. . بلغت النفوس الحناجر. . الجنوب بلد منكوبة.. صرخة تأخرت قليلاً لكنها وضعت اللبنات الأولى لإمكانية استعادة دولة الجنوب. . خرجت الجماهير كالأمواج الهادرة. فامتلأت الشوارع والأزقة والنوادي في المدن والأرياف على حدٍّ سواء. . وجه مقاولو الحرب الرصاص صوب الصدور العارية فسقط الكثير من الشهداء والكثير من الجرحى والتهمت سجون الاحتلال أعداداً أخرى. . لكن الجنوب ملتهبة.. أما في صنعاء فقد حدث أمر غريب كغرابة النظام المتخلف هناك ارتبط الخناق بالعناق والتقى فرقاء الأمس رفقاء اليوم في مسلسل جديد لإعادة إنتاج حرب 1994م دخل جنرالات صنعاء مدن الجنوب مجدداً فسقطت المدن بسبب وجود معسكرات تابعة للجمهورية العربية اليمنية فيها وحّدها مناطق ردفان والضالع ويافع بقيت محرمة من دنس هؤلاء الأوغاد. أغلق أبناء هذه المناطق كل المنافذ على الأعداء بجهود ذاتية وبأسلحتهم الشخصية حتى إن البعض قد استعار بندقيته من زملائه وذهب إلى الحرب.. لا مكان هنا للبقاء في المنازل.. هذه المناطق عُرفت بالقبائل النارية. كانت جبهة الضالع هي الأكثر دموية والأكثر اشتعالاً لأن الأعداء المارقين قد وجهوا أقوى ما لديهم من ترسانة عسكرية إلى هناك فدخل الأعداء مع رجال هذه المناطق في تحديات غير مأمونة النتائج مدفوعين بآمال انتعشت على أرضية الوهم. كانت إرادة المدافعين عن أرضهم قد حققت المعادل الموازي لعدم تكافؤ الأسلحة المستخدمة بين الطرفين.. كان مجموعة من فتية ردفان الشرفاء والشجعان قد ذهبوا لمساندة إخوانهم في الضالع وكان من بين هؤلاء الشهيد البطل/ عبدالعزيز سلام أحمد ذو العشرين ربيعاً وبرغم صغر سنة إلا أنه قد تشرب روح الوطنية منذُ نعومة أظافره لانحداره إلى عائلة ارتبطت حياتها بالنضال فخالة هو شهيد الوطن الكبير الدكتور محمد سالم علي ووالده الشخصية الوطنية والتربوية الأستاذ/ سلام أحمد علي أطال الله في عمره. ذهب عبدالعزيز مع أترابه إلى الضالع فالتحموا مع شباب الضالع ليجترحوا أعظم المعارك البطولية. واجهوا الأعداء وجهاً لوجه فاستطاعوا إجبار المحتلين على التراجع. قال رفاق الشهيد أنه قد ابتدع عربة لتكون منصة لإطلاق بعض الأسلحة التي كان يتدرب على استخدامها أثناء الحرب وعلى مدى ما يزيد على ثلاثين يوماً قاد فيها بعض المعارك بنفسه. فعاد عبدالعزيز فجأة إلى منزل العائلة الكائن في الحبيلين ظهر يوم الثلاثاء 12/5/2015م في زيارة خاطفة للعائلة وبعد الظهر توجه إلى مستشفى ردفان الذي يقع بالقرب من المنزل في زيارة لأحد رفاق رحلة المصير الذي كان أصيب في وقت سابق.. ثم ودّعه بعد أن كان قد ودّع عائلته فرداً فردا، لم يكن أحد يعرف إنه الوداع الأخير! وعاد في الخامسة عصراً من ردفان وبدأ من وقت وصوله إلى الضالع بالاشتراك في معركة ليلةٍ استمر يقاتل فيها ببسالة حتى التاسعة والنصف مساءً عندها أصيب سلاحه بطلقة رصاص عّطلت بندقيته عن العمل فحاول هو جاهداً إصلاحها وبينما هو في المحاولات يتعّرض لوابل من الرصاص أصابته عدد منها فأخرجه زملاؤه بصعوبة ونقلوه إلى المستشفى.
الرحلة الإسعافية كانت ماراثونية استمرت خمس ساعات ومن حين وصولهم إلى مستشفى أكتوبر في لبعوس ـ يافع، بذل الأطباء أقصى درجات الجهد لإنقاذ حالته الحرجة تبرع المتبرعون بالدماء تلو الدماء وصلت كميات الدم للحالة ثلاثة وعشرون رطلاً لكن نزيف الدماء مستمراً! آخر كميات الدم أُخذت من ذراع الطبيب المشرف على الحالة في صورة عكست أعظم القيم الإنسانية النبيلة.. لكن روح الشهيد ذهبت إلى بارئها ظهر يوم الخميس الموافق 14/5/2015م وبقي هو في قلوبنا يُعلمنا أن اللون الأحمر أشرف من كل الألوان.
يقول الشاعر أبو تمام:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتةً تقوم مقام النصر إذ فاته النصر
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
سلمت يداك يا شهيد الوطن الكبير.. الشهادة كانت مبكرة لكنها أيقظت ضمائر الناس.
إنّا على دربكم لسائرون وإن النصر حليفنا إن شاء الله. . .