آخر تحديث :الاثنين 25 نوفمبر 2024 - الساعة:17:31:05
حاولتُ ألا أفقد حماسي
نشوان العثماني

الاثنين 00 نوفمبر 0000 - الساعة:00:00:00

وصلتني من أحدهم هذه الـSMS: «قبل دقائق حدث انفجار قوي جدًا هزّ بيتي وأدخل التراب إليه. والآن إطلاق». كنتُ سمعتُ انفجارًا لم أستطع تحديد اتجاهه. اتصلتُ بالزميل عبدالرحمن أنيس, وجاءني صوته «انفجارات انفجارات».

ما الذي حدث؟ 3 انفجارات هزت عدن في وقت واحد في الساعات الأولى من آخر أيام العام الذي انصرم. وقع أشدها في شابات الخور. سيارة مفخخة هزّت مبنى إدارة أمن عدن.

 

كنتُ في الثانية عشرة ظهرًا في الطريق إلى خور مكسر. تخلعت أبواب المباني المحيطة. تكسر الزجاج. انثال الحطام. رأيتُ مقر صحيفة «الأمناء» دون نوافذ والعمارة دون باب. رأيتُ طوابق العمارات شبه هياكل. هذا قبل أن أصل إلى مبنى إدارة الأمن الذي ركع سقفه وتشظت بوابته. مفردات المشهد: انفجار. حُطام. قُتل. جُرِح. انتحاري. مفخخة. إطلاق. تبادل. اتهام. أعلنت. يقولون في دروس اللغة العربية «وقس على ذلك».

 

كان منزل الدكتور عبدالرحمن عبدالخالق في الطرف الآخر من الشابات, وطالما اهتز وأُترب وهو على بُعد, فإن فنادق وعمارات سكنية قريبة قد أضحت دون أعين. كان الضغط مهولًا. سُمع الانفجار على نطاق واسع.

ثم لا تسأل يا صاحبي: من هو الفاعل كما سألني صاحبنا أنور: تقول منهوه الذي فجّر الله لا فتح عليه؟ ولمّا لم أجد ما أجيبه (وبما أجبه أصلًا؟) وقد كان جادًا في سؤاله إلا أن قلتُ: هذه المرة ليس دبّابة بل سيارة مفخخة, والمفخخات يذهب أول ضحاياها المسافرون إلى الجنة والحور العين الملاح.

 

وحسب أنني أسخر, وحسبتُ أنه سيقول: انتحاري أو مش انتحاري؛ المهم من يُمسك بطرف الخيط, فأوضحتُ: اتصلتَ بي الآن وأنا أكتب مقالًا سأقرأ لك ما تبقى منه ولكن استمع إلى أن انتهي:

من يقوم بهذه الجرائم؟ يُفجّر هنا ويرسل انتحاريًا هناك؟ ما الذي يمكن أن نتوقعه وماذا بعد؟ وهل سنصل إلى مرحلة لا نستطيع معها - مثلًا - أن نذهب كل صباح إلى مرافق العمل أو المدارس والكليات (أو حتى إلى سوق القات)؟ ما هو أصلًا قد وصلنا وأيش عاد باقي أكثر من كذا يخرج الواحد منا ولا يدري هل سيعود أو سيُسعف أو سيُشيع؟

 

اعتادت أسماعنا دوي الانفجارات؛ فحتى إذا سمعنا اصطفاق الباب مثلًا أو ألعابًا نارية (من حق هذه الأيام) نستقبل الصورة الأولى من الدماغ في جزء من الثانية أن انفجارًا حدث. ثم إذا تكرر ضرب الأبواب وألعاب الأطفال لجأت الصورة الأولى إلى الراحة والدعة حتى إذا جاءت مصيبة جديدة عادت أجهزة الإنذار المبكر مجددًا. ثم نقول: ولمَ كل هذا؟ هو قضاء وقدر ومن يُقتل يُقدر له أن يتخلص من هذه الدوامة. ثم نصحح الصورة: سنقاوم وإن جاء حتفنا. لن نستسلم. لن ينال منا المجرمون. لن نتخلى عن مشروع الحياة العظيم.

 

هذه الصورة المرتبكة موجودة عند الطفل والشيخ والمرأة وأنت وهذا وذاك دون شك. الكل يدعو إلى استقرار البلد وإلى الأمن والأمان. فسمعتُ من يقول على متن حافلة: هؤلاء الشباب الذين يغرر بهم ويقادون إلى مصيرهم دون علم ولا دراية لا يقدّرون لا يعرفون ما معنى وطن. آلمتني هذه العبارة وهي تخرج من فم رجل يظهر أنه خَبِر الحياة. وهي مغلفة بمعان كثيرة فهمت منها اثنتين: أولها: إن من يقومون بالعمليات الانتحارية والتفجيرات شباب في مقتبل العمر يغيّبون عن الوعي بطريقة وأخرى, ويُرسلون إلى حتفهم. وثانيها: أنه لا قاعدة إلا قاعدة استغلال قوى الصراع لفراغ الشباب والزج بهم في خضم حروبها ضد بعضها البعض. وإن من نقطة ثالثة: ففراغ الشباب ألقى بهم في هذا الجحيم؛ وبالًا عليهم وعلى الأبرياء, ولنا أن نقدر حجم الخسارة. وإن من رابعة وهي الأهم: فحاميها حراميها إلا إذا ثبُت العكس. ذلك الرجل سمعته يقول أيضًا: «من قام بالانفجار؟ هم يا جماعة هم الذين يفجرون ولا يبالوا ولا أحد غيرهم»؛ كان يشير إلى الحامي والحرامي كما فهمتُ.

 

وهي جرائم ستظل مجهولة الفاعل. مجهولة للرأي العام وللبسطاء؛ لي ولك ولهؤلاء الذين يقضون جل الوقت يفكرون بتعليم أبنائهم وصحتهم ومستقبلهم ويكدون ويكدحون من أجل معيشة الأسرة. وأما مراكز القرار, وجزء منها مراكز الصراع, من يحكم البلد ومن يدير ما تبقى من مؤسساتها فيعرفون جيدًا من هو الفاعل في كل عملية. وعلى حد تعبير الكاتب والأديب منصور راجح «الأوليغارشية هي الحاكمة في اليمن», وهي كما يقول «عصابات المال والسلاح». والمسألة تدُار سجالًا بين هذه القوى, ولكن لأن البلد بين «الدولتين»؛ التي ذهبت (على اعتبار أنها ذهبت) والتي ستأتي (على أمل أن تأتي), فإن التراخي يولد كل هذا الحصد البشع لأرواح الناس من المدنيين والعسكريين ويلحق أفدح الأضرار بالممتلكات العامة والخاصة. إحدى مسببات هذا التراخي الصمت الذي يزيد عن حدّه عند السيد الرئيس. يصمت الرئيس هادي في وقت يكون فيه الصمت معادلًا للجريمة.

 

ولقد كان ديسمبر شهر قتل وسفك وجرائم ومجازر شاب منها الولدان, بُدئت في اليوم الثاني منه في حضرموت, مرورًا بصنعاء والبيضاء ومحافظات أخرى والضالع, ثم أطل في اليوم الأخير الختام العنيف. وأيام العام لم تخل من قتل وعنف. يقول أستاذنا عبدالرحمن نعمان في توقعه للعام الجديد: سيكون أسوأ. وأملي أنه سيكون أحسن من سابقه. هو الأمل الذي أمسك به بالضرورة من أجل الحياة؛ ويجب أن يكون هناك أمل.

 

أي ضمير سأخاطبه إن خاطبته هنا وأي وصف يمكنني خلعه على هذه الجرائم؟

إن منظومة/ عصابة الحرب في البلد مترابطة وواحدة وذات مصالح مشتركة. ولا يقوم بهذه الجرائم, المجازر والتفجيرات إلا من يملك السلاح, ولا يملكه إلا هذه العصابة/ات. وكل من يُمول خارجيًا – أفراد أم جهات - أكان بالمال أم بالسلاح أم بكليهما معًا لن يكون غير خائن لبلده وجزء من هذه المنظومة ولا أحد غيره/م يتحمل/ون المسئولية الأخلاقية والجنائية أمام التاريخ والإنسانية.

 

قَطَعَ صوتُ صاحبي صوتي, وقال لا تزد, فهمتُ واتفقُ معك. قلتُ: يبدو أن الكلام كثير ورصيد الاتصال قليل كما هو حال مشاكلنا الكبيرة أمام القدرة على الحلول؛ فنلجأ إلى الهروب من بعضنا ونتباعد فتكبر الهوة.

 

ضحكنا ضحكة الروح المُوجَعة. وأضفت في ختام المكالمة والمقال أيضًا:

هذه مرحلة حرجة جدًا ستزيد فيه الأمور سوءًا كما هو مُشاهد ومُعاش. لن تبرح التداعيات أن تتوالى. والصراع هو داخلي وهو خارجي والثاني أكبر ووكلاؤه كُثر. ولكن ما يهم جدًا هو: أن تظل روح السلام والأمل والإرادة قوية لا تتزعزع ولا تفقد الإيمان بمشروع الحياة وقِيَمِه. الخطورة تكمن فيما لو جنحت هذه الروح إلى تفضيل العنف كحل سريع في غير إدراك إنه حل مدمّر لا يوجد فيه منتصر ولا مهزوم؛ أو كما قال الدكتور ياسين سعيد نعمان: «وهو مهما بدا مغريًا (العنف) لمن يملكون مقومات البقاء فيه؛ إلا أنه في نهاية المطاف طارد للجميع».

 

الحياة مستمرة, يجب أن نستمر معها وأن نمضي قدمًا دون توقف دون خوف.

***

أطلّ عام ميلادي جديد. الشمس تشرق كل صباح, وإشراقها اليوم يدخل ضمن زمن 2014. عله يكون عام مختلف إلى الأفضل. لا يعاب الزمن: لن نعيب زماننا, فقط علينا أن نتجدد معه ونمضي ونترك الماضي ماضيًا, له ما له وعليه ما عليه. صحيح أنه في الماضي جرائم لا تسقط بالتقادم, أو كما يقول العظيم نيسلون مانديلا «التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل», ولكننا يجب أن نسير إلى الأمام وأعيننا تنظر إزاءنا لا خلفنا. ولن يكون العام الجديد عام سلام وخير ودعة بالشكل الحالم, غير أنني أأمل أن يكون أفضل من سابقه وليس العكس. وسنرى ما الذي تحمله رياح الزمن وحركة المكان!!

 

يقول مانديلا أيضًا: «لقد سرتُ على الدرب الطويل للوصول إلى الحرية، وحاولتُ ألا أفقد حماسي، ولقد قمتُ ببعض الخطوات الخاطئة على طول الطريق، ولكنني اكتشفتُ السر أنه بعد تسلق جبل عظيم، يجد المرء أن هناك جبالًا أخرى كثيرة ينبغي تسلقها».

 

nashwanalothmani@hotmail.com

 

 

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحيفة الأمناء PDF
تطبيقنا على الموبايل