آخر تحديث :الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 - الساعة:18:48:01
حمود درويش في عدن..حبيبتي تنهض من نومها
صلاح السقلدي

الثلاثاء 00 نوفمبر 0000 - الساعة:00:00:00

نَـزَلَ الشاعر العربي الراحل/ محمود درويش, ضيفا على عاصمة دولة الجنوب (عدن) نهاية عقد الثمانيات من القرن الماضي, في إطار زياراته المتكررة لليمن الجنوبي هو وعدد من الشخصيات العربية المنخرطة بالحركات العربية التحررية في ذلك الزمن الثائر. وكانت المدينة حينها في مرحلة تضميد جراحاتها التي أصابتها جــرّاء أحداث يناير 1986م .وقال على اثر ذلك قصيدة بديعة, أتذكر منها هذا المقطع:

(ذهَبنا إلَى عَدَن قَبلَ أَحْلاَمِنَا، فوَجدنا القـمر

يُضِيءُ جناحَ الغرابِ. التَفَتْنَا إِلَى البَحرِ،قـلْنا: لِمَن

لِمَن يرفـعُ البَحرُ أَجرَاسهُ، أَلِنَسمَعَ إِيقَاعَنا المُنْتظَرْ؟

ذهَبنا إِلَى عدَن قَبلَ تاريخنا، فوَجدْنا اليمَنْ

حزِينا عَلَى امرئِ القَيسِ، يَمضغُ قاتاً, وَيمْحو الصوَرْ.

ذَهَبْنَا إِلَى الفُقَراءِ الفقيرَةِ، نفتحُ نافـذةً في الحجر

لـقد حاصرتنَا القَبَائِلُ، يا صاحِبِي، ورمتنا المحن،

ولكِننا لم نُقايِض رغِيفَ العَدو بخبزِ الشجرْ.).!

أحداث يناير التي طوى صفحتها الزمن في سفر التاريخ المعاصر, ومحت تبعاتها عزيمة التسامح وصدق التصالح الجنوبي ليست أكثر من نقطة ماء في بحر لجٌ من المحن التي عصفت بالجميع بعد عام 1990م, ومع ذلك كانت تلك الاحداث بالنسبة للشاعر الراحل محمود درويش ذو الحاسة الشعرية المرهفة, وصاحب الرمزية الشعرية المتميزة مأساة قرعت أجراسها لعدن وسط مقبرة التاريخ تمتحي معها كل صور جمال البحر الناعق فوق صخور شطآنه غراب البين والفرقة, استفزت مخيلته الشعرية واستفزت مكامن العبقرية الإبداع و جعلت ذائقته الشعرية تتفجر نارا حينا, ونور أحيان في أبيات شعرية كفت ووفت بالغرض الشعري المستهدف.

وبرغم مرارة الشعور لديه وبرغم الجرح النازف والوجع الراعف ,ولأنه محمود درويش , ولأنها عدن تُـرس التاريخ ومتراسه وينبوع التفاؤل وغدرانه ,و هي التي سكنت هذا الشاعر قبل ان يسكنها ويزرها, فلا بد ان يظل للحب مكانا وللأمل فسحة في قلب الشاعر وفي أعماق المدينة, فكان لابد للنور في مقطوعته الشعرية ان يتهادى من بين سواد الظلمة المدلهمة وجوانح صروف الأيام ليغشى الزمان مشارقا ومغاربا, ولابد من فتح نافدة لإشراقة شموس الغد ولو من صميم الحجر . و كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة, وكما في فجاج المحن يُـدفن الألم ,وتنثر الدموع لرياح العدم, لتظل عدن معزفا لنغم الحياة الجميل ومزهرها الطروب الذي يرعش الحنين في القلوب والافئدة, و لأنها ايقونة الماضي والحاضر إلهام المستقبل في قلوب من سكنها وسكنته وعاصمة القلوب الأحرار في كل الأزمنة, و ذاكرة التاريخ الطارف والتليد , فلابد ان يكون لها جنودٌ من السماء والأرض جنود من عسل ونار تحمي أعراضها وتشفي أمراضها, وقد كان لها ما ارادت وتمنت, لا تقايض حريتها بخبز العداء ولا تساوم كبريائها برغيف الطغاة , ولأنها كذلك فحتما لن يخبو عنها ضياء الأمل أو تفنى على شفاهها بسمة الفجر الضحوك ولو استحكمت حلقات المحن حولها.

ليت شعري ماذا كان سيقول الدرويش في حضرة الغياب عن زهرة اللوز( عدن) إن كان مد له الله عمرا ,وقدر له ان يزورها أثناء وبعد الحرب العدوانية المجنونة التي شنت عليها مؤخرا جوار وتعسفا كادت ترمي بها من حالقٍ الى قرار الهوة السوداء-أو هكذا أرادوا لها ؟ .

هل كان سيجد الدرويش في سماء المدينة ثمة بقايا لنور القمر يضيء به جناح الغراب الناعق فوق الجثث المتناثرة والاشلاء المبعثرة في الأرجاء؟ أم ان جناحَـيّ وخافيته الغراب الأسحمُ وطائر الرخ الكبير ستحجب عن سماء سيدة المدائن سنا القمر ونوره, وستظل قوافي الشعر طريقها عن مخيلة الدرويش الشعرية بعد ان عَـدَنَ في هذه المدينة الموت طويلا وماتت العصافير في جولدمور وران فيها الصمت إلا من ايقاعات أجراس كنائسها تقرع للأحياء والأموات على السواء ؟

كيف كان درويش سيندب حال الفقراء الفقيرة في المنصورة وعدن القديمة والتواهي ويرثيها بأحرف من دموع وكلمات من وجع بعد ان تناهبتها الأمراض واستبد بها الجوع وافترسها الظمأ, لا قوت تأكله ولا قات تمضغه, وقصم ظهرها العطش, تقيسُ المسافَةَ ما بين أَجساد سكانها والقذائفِ بالحاسّة السادسة, ويوزع لها أولئك المارون بين الكلمات العابرة الموت بالمجان في كل حيِ وشارع وبيت. وهي الارض التي عليها ما يستحق الحياة , أو هكذا قال درويش.

يقيني ان حالة من الأسى والحسرة ,بل قل والبكاء ستتملكه عن حال قبلة الثائرين التي لطالما غنت للناس أحلى أغاني السلام, ولن يتحرج شعر الدرويش من ذلك او يعتريه شيء من الغضاضة و الكبرياء. بل سيرسم لها (جدارية) بحجم المأساة, ولن يصف لنا مع عدن يوميات الحزن العادي كما فعل مع فلسطين. ,ولن يقول حتى مقولته الشهير: ((إنني لا أبكي فكلما بالأمر ان غبار الحنين قد دخل عيني)), أو يردد كما يحلو له في مثل هكذا وجع : (الموت مثلي لا يحب الانتظار), أو حبيبتي تنهض من نومها , حتى من مدارها, قبل ان يعرف ان عدن برغم كل ذلك قد فتحت نافذة من يابس الصخر في جدار النار, وأوقدت مشعلا في عتمة ليل الحصار, فإن كان الأمس غيمة فبالغد مطر. وينهض طائر الفينيق الجنوبي من بين رماد البلاء والبلايا ليحلق في  فضاء مملكة التحرر والانعتاق.!

 

 

 

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحيفة الأمناء PDF
تطبيقنا على الموبايل