آخر تحديث :الخميس 11 يوليو 2024 - الساعة:20:19:25
حكاية من حرب 94: ذكرى.. و راچا .. و سالم
احمد محمود السلامي

الخميس 00 يوليو 0000 - الساعة:00:00:00

منذ صباح الخميس 4 مايو 1994م وعندما سمعت طائرة شمالية ترمي صاروخاً على مطار عدن الدولي وتهرب، أيقنتُ أنها الحرب ! وأن الواجب الوطني يستدعي التحرك فوراً إلى مقر عملي في تلفزيون عدن (القناة الثانية حينها) وفعلاً تحركت بسيارتي إلى التواهي وباشرنا فوراً وبجهد ذاتي بنقل بعض المكاتب والأدوات المكتبية التلفون والفاكس إلى الطابق الأرضي و رتبناها في غرفة صغيرة محاذية لاستديو 3 لتكون غرفة تحرير الأخبار .. كما حوّلنا استديو 2 إلى غرفة عمليات كنا كمدراء إدارات نتناوب في إدارتها بشكل يومي بالإضافة إلى عملنا المعتاد  .

بالنسبة لي استمر هذا الواضع كل يوم إلى مساء الأربعاء 6 يوليو 94م حيث غادرت التواهي إلى كريتر وكنت أسمع دوي القذائف وأشاهد لهب انفجارها في مواقع مختلفة من المعلا وأنا اتجه  إلى العقبة عدن  كنت أقود سيارتي وقلبي يتمزق ألماً وحسرة بعد أن أيقنت أنها الهزيمة لا محالة ، الكل هربوا تركونا في مهب الريح نؤدي الواجب دون أي توجيه أو خطط أو معلومات عن تطورات الموقف الميداني وكيف التصرف في هذا الظرف .. كان المطلوب منا أن نصنع إعلاماً جماهيرياً فاعلاً من أنفسنا.. كُنا نبذل جهود كبيرة ونحاول تقديم الخدمة الإعلامية المهنية ونختلف كثيراً مع بعضنا البعض على أساليب التنفيذ ونوعية المواد التي نبثها ، وعندما نبدي رأينا في مسائل العمل  كان البعض يشك فينا ويتهمنا بالخيانة والعمالة ، مثلاً عندما كانت بعض التلفزيونات العربية تطلب منا إرسال أخبار (على حسابها) عبر القناة 9 في القمر عربسات عن المعارك أو آثار الدمار الذي تحدثها الصواريخ والقذائف التي تسقط على عدن والقتلى والجرحى كان بعض المسؤولين هنا يرفض بث هذه الأخبار المصورة ويرى أنها انهزامية وكانوا يفضلوا إرسال لقطات قديمة وطويلة من مناورات  للجيش الجنوبي ولم يقتنعوا أن اللقطات الحية للدمار وفظاعة القتل ووحشية القصف كانت ستسهم في تعاطف الرأي العام العربي والعالمي مع شعب الجنوب في محنته.. وكنا نعترض بشدة على أسلوب إجراء المقابلات الميدانية مع ناس أتوا بهم من بيوتهم بأسلحتهم إلى تحت أشجار الحدائق العامة في عدن وكأنهم في جبهة القتال !

ليقولوا أن الوضع مستتب والمعنويات عالية وكل العناصر التي تسللت قضينا عليها  وكانت هذه وسيلة سخيفة لتهدئة الناس الذين يعرفون كل شيء   صباح الأربعاء 6 يوليو 94م  كانت القوات الشمالية الغازية قد دخلت الشيخ عثمان والمنصورة وتستعد بحذر شديد للتقدم نحو خورمكسر ، نحن في التلفزيون لم تتوفر لدينا معلومات مؤكدة عن ذلك الوضع الجديد في ضواحي عدن !

المصيبة أنه عندما كنا نسأل كان يقال لنا نفس الكلام : (لاااا ذي دبابة تسللت وتم التعامل معها) أو (دحرناهم) !! كان مطلوب من تلفزيون عدن أن يبث أخبار وصور وتقارير تكذب تلك الأخبار ! وأن نرسل طاقم إخباري إلى مدينة المنصورة لإجراء لقاءات مع المواطنين حتى في الشوارع القريبة من جولة كالتكس ، نحن في الأخبار رفضنا القيام بتلك المجازفة الخطيرة حتى لا تزهق أرواح زملائنا وتذهب هباء .. لكن للأسف تطوع ثلاثة من المساهمين (الغير موظفين) المذيعة ذكرى , المصور راچا ، السائق سالم  !

تحركوا على متن سيارة التصوير الخارجي (صالون  أسود ) مروا بسلام في كل الطرقات و كان سالم يسوق السيارة بسرعة متأنية حسب نصيحة راچا ، تجاوزوا جسر الطريق البحري ، وعندما  اقتربوا من جول كالتكس فجأة انحرفت  السيارة ، أصيب السائق سالم برصاصة قناصة قاتلة في صدره  ، وبشكل لا إرادي وسريع سيطر راجا على مقود السيارة وأوقفها ، ثم سحب سالم إلى المقعد الأخر وتولى هو قيادة السيارة انعطف بها على طول إلى الخلف ، طلب من ذكرى التي كانت في حالة رعب شديد أن تنزل إلى أرضية السيارة تفادياً لرصاص القناصة المحترفين للقتل بدم بارد ، استطاع راچا تجاوز مرحلة الخطر و أوصل السيارة إلى مستشفى الجمهورية .. لكن الشاب سالم كان قد فارق الحياة سالم التحق بالتلفزيون قبل الحرب بشهرين أو أقل كان شاباً طموحا ومسالماً يقدس ويحب عمله ، كانت أمنيته العظيمة مثل أي شاب هي الوظيفة حتى يتمكن من بناء مستقبله وتكوين أسرة صغيرة مكونة من زوجة وأطفال هم مملكته ، ولكن في ذلك اليوم عادت إلينا بطاقة سالم الجنوبية التي كان يحملها في جيبه معطرة بدمائه الطاهرة الزكية  ولم يعد هو .. قتلَ بتلك الرصاصة اللعينة وذلك الأمر اللا مسؤول الذي أصدره للتلفزيون شخص همجي وهو يغادر عدن هاربا بجلده عبر البحر.

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحيفة الأمناء PDF
تطبيقنا على الموبايل