آخر تحديث :السبت 04 مايو 2024 - الساعة:23:10:20
خلقنة السياسة لا أدلجتها!!
باسم الشعبي

السبت 00 مايو 0000 - الساعة:00:00:00

تحتاج الأحزاب الايدلوجية إلى كثير تغيير وتطوير في داخلها لمواكبة حركة التمدد والنمو الاجتماعي، وحركة الفكر الإنساني المتطور، وفهم كيفية إدارة شؤون الناس في وطن كبير لا في بنية تنظيميه مغلقة، وإلا فإن فرصها في الحكم سوف تضعف وتقل وستعود سنوات إلى الوراء حيث عهود الحرب الباردة والصراع بين القوى الفكرية والايدلوجية المختلفة، وسيتحول المجتمع إلى حلبة صراع، وستبدد إمكانات الدولة في ملاحقة المخالفين وإضعاف المعارضين أو القضاء عليهم.
في الخمسينيات والستينيات نشأت وظهرت أحزاب وقوى عديدة في المنطقة العربية، كل منها كان يدعي محاربة الاستعمار الأجنبي أو الاستبداد الأسري والعائلي المتخلف، ولما انتهى الاستعمار وسقطت قلاع الاستبداد أخذت هذه القوى تتحارب وتتصارع فيما بينها، الأمر الذي أعاق بناء الدولة العربية الحقيقية وخلق واقع مشوه ومليء بالماسي والأحقاد والضغائن.
معظم تلك القوى والأحزاب والحركات كانت ايدلوجية ذات بنى تنظيمية وفكرية مغلقة، وكل منها كان يرى أنه الوريث الشرعي في الحكم خلفا للاستعمار الأجنبي أو الاستبداد العائلي، وساهم صراع المعسكرين الشرقي والغربي أيضا في تجذير هوة الصراعات الفكرية بين هذه القوى، وفي الأثناء كانت هناك قوى إسلامية تتشكل وتتكون لتجد - هي الأخرى - نفسها داخل حلبة الصراع دفاعا عن ما كانت تسميه الهوية العربية والثقافة الإسلامية في مواجهة المركسة والعلمنة، فتغلب منطق ومفهوم العداء والصراع مع الآخر المختلف على منطق البناء والتطور، فتفرغ العرب للصراع فيما بينهم وتركوا عملية بناء الدولة جانبا، ومع مرور الوقت اكتشف كثيرون أن مثل هذه  القوى والأحزاب لم تنشأ الحاجة البناء وإدارة شؤون الناس بقدر نشوئها لحاجة الصراع والقضاء على المختلفين فكرياً، فدفعت الشعوب البريئة المتطلعة إلى التغيير ثمنا كبيرا بسبب الاستقطابات والحسابات الخاطئة وغياب الدولة الحرة، وسجلت أجهزة المخابرات العربية أرقاما قياسية في القتل والتعذيب والخطف والتغييب القسري لم تسجله دول متخلفة كثيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها.
ولما فشلت الأحزاب المؤدلجة في عديد أقطار عربية، في الحفاظ على الحكم بفعل الصراعات الطبقية والمناطقية، والفرز الفكري والسياسي الإقصائي، والانقلابات التي حدثت داخلها والصراع مع القوى الأخرى، وبفعل توحش العملية السياسية، وبفعل المؤثرات الإقليمية والدولية، برزت أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات أحزاب غير ايدلوجية وتولت دفة الحكم إلا أنها وبعد مضي وقت ليس بالطويل على وجودها في الحكم أصبحت هذه الأحزاب في
موازاة كتل أسرية أو حاشية أسسها الحاكم زعيم الحزب لتشاركه في الحكم، وأصبحت المصالح والمنافع هي ايدلوجيا هذا النوع من الأحزاب المرتبطة بالحاكم وأسرته، فتعطلت الأطر التنظيمية لها وأصبحت مجرد ملحق بركب الحاكم وحاشيته وعائلته، فضلا عن كون الحاجات الخاصة والمصالح لدى قيادات هذه الأحزاب قد تضخمت في موازاة حاجات الناس التي اضمحلت، ولم تعد تلقى أي اهتمام لديهم الأمر الذي دفع الناس إلى الخروج إلى الشوارع للمطالبة بالحرية، والعيش الكريم.
ومن الغرائب أن القوى السياسية التي شاركت في الثورات السلمية كانت قد أنهكت من الصراع فيما بينها، إلا أن الحاجة إلى التغيير والظلم الواقع عليها وحدها سياسيا على الأقل في مواجهة أنظمة الاستبداد في المنطقة، ولما أفضت هذه الثورات إلى سقوط أنظمة وحكام مستبدين في أكثر من قطر عربي، وجدت هذه الأحزاب والقوى نفسها أمام تحد جديد وهو السلطة وكيفية الوصول إليها وإدارة شؤون الناس، ففي (تونس) تكاد تكون التجربة في طريقها
إلى النجاح بفعل المشاركة السياسية لقوى الثورة في الحكم على اختلافها الايدلوجي، رغم أنه تحالف جديد صنعته لحظة الثورة فقط بعيدا عن حزب (بن علي)، أما في (مصر) فقد فشلت تجربة التغيير بفعل تسرع الإخوان في السيطرة على الحكم وإقصاء القوى الثورية التي شاركت في ثورة يناير، وهو الخطأ الذي استغلته قوى الثورة المضادة لتعيد حشد الجماهير وقوى ثورة يناير اليسارية والعلمانية والإسلامية أيضا ممثلا بحزب النور ضد الإخوان، ومن ثم الانقلاب عليهم عبر أداة الجيش الحاسمة ليتولى هو الحكم من جديد عبر قائده (عبدالفتاح السيسي) الذي يتطلع حاليا للفوز في الانتخابات القادمة ليوطد حكم العسكر الذي ثارت الناس عليه.
أما في (اليمن) فهناك نوع مختلف أفرزته الثورة، فلا نستطيع أن نقول إن التجربة نجحت، ولا نستطيع أن نقول أنها فشلت، فهناك قدر متساوي من النجاح والفشل، فتحالف المعارضة المتمثل في اللقاء المشترك وهو التجربة الفريدة في الوطن العربي موجود في السلطة ويتقاسم الحكم مع الحزب الحاكم حزب الرئيس السابق (صالح) الذي قامت الثورة عليه، فضلا عن كون رئيس البلاد
الحالي هو أمين عام الحزب الحاكم نفسه، فالمسألة متداخلة جدا، وما حدث هو ليس نتاج حسم ثوري، بل نتاج مبادرة خليجية تعاملت مع ثورة 11 فبراير كأزمة سياسية بين شركاء الحكم، أو صراع عائلي داخل بيت (الأحمر) الأسرة الحاكمة في اليمن، وأخيرا صراع بين المعارضين والحاكمين، ولا توجد هناك أية إشارة بأن ما حدث هو صراع بين شعب ونظام عائلي مستبد، بين شعب وحزب حاكم  تضخمت مصالح قياداته على مصالح وحاجات الناس.
لقد لعبت أحزاب المشترك دورا كبيرا في هذه التسوية السياسية، إذ عملت على احتوى الثورة في الساحات تمهيدا لتسوية من هذا النوع المسخ، الذي يعيد الأمور مرة أخرى إلى الصراع بدلا من تفاديه ووضع العراقيل أمام عملية التغيير بدلا من المصالحة والمشاركة في بناء البلد.
لم تكن الأحزاب الايدلوجية بمفردها قد شوهت العملية السياسية من خلال الصراعات والتناحرات في الماضي وتحويل السياسة إلى عملية متوحشة، بل حتى الأحزاب غير الايدلوجية هي الأخرى لم تخلقن السياسة بل سارت في طريق التوحش فتركت آثارا دامية، ونسيجا اجتماعيا ممزقا ومهلهلا، وفسادا ضخما ينخر كل أجهزة الدولة بحاجة إلى عقود من الزمن لإعادة ترميمها وإصلاحها.
فكيف يمكن لأحزاب تدعي أنها أحزاب تغيير أن تشارك حزب تصفه بأنه حزب تدميري، بل ما يزال هو الحاكم الفعلي للبلاد.. هذا يحدث في اليمن فقط لأنها بلاد العجائب في ظل ثورات الشعوب السلمية، لكن هذا لا يعني أن نغلق الأبواب أمام الحزب الحاكم في اليمن إذا ما أراد فعلا تصحيح أوضاعه، والتخلص من التركة الثقيلة التي ورثها بسبب طيش وممارسات زعيمه، وإعادة
لملمة صفوفه وتحسين صورته أمام الناس، فالسنوات الثلات الماضية من الحكم التشاركي كشفت انه لا يوجد أحد أحسن من أحد، الجميع سواء، أحزاب التغيير كما تصف نفسها، وأحزاب التدمير، الجميع مسؤول عن اللحظة التي تمر بها البلاد الآن، وكلهم مسؤولون عن التغيير والبناء ولا شيء غيره.
إن حزب العدالة والتنمية التركي ليس حزبا ايدلوجيا، هو حزب سياسي يمارس الحكم بمفهوم السياسة والاجتماع لا من منطلق ديني وحركي مغلق، فقيادته عملت على إدخال الحزب إلى الوطن الكبير والمتعدد باعتباره جزءاً منه لإدخال الوطن داخل الحزب كما تفعل أحزابنا الايدلوجية في المنطقة العربية، كالذي يدخل العمارة داخل السيارة مثلا، بدلا من إدخال السيارة داخل
العمارة!!
وهو الحزب الوحيد المتفرد في المنطقة العربية والإسلامية، الذي يمكن الاسترشاد بتجربته باعتبارها تجربة ناجحة تجاوزت الايدلوجي إلى الإنساني، لقد استطاع حزب العدالة والتنمية الفصل بين الايدلوجي والسياسي، فأخذ السياسي لتسيير شؤون الحكم واستبقى الايدلوجي للمنابر والمؤسسات التابعة له كحزب لا التابعة للدولة التي يملكها كل الناس، وشرع في تنفيذ مشروع وطني إنساني يجد كل الأتراك أنفسهم فيه رغم اختلاف بعضهم مع الحزب، ومن هنا تتجلى وطنية الأحزاب وقدرتها على تقديم مشروعات وبرامج تهم الناس وتهتم بهم ليمنحوها اهتمامهم وأصواتهم كي تنجح وتحكم، لا من دائرة الحزب أو الجماعة المغلقة ولكن من دائرة الوطن التي تتسع للجميع.

أمام الأحزاب الايدلوجية الفرصة ما تزال سانحة لإصلاح أوضاعها، ووضع حد لتغول الايدولوجيا في العمل السياسي وعليها يقع إضفاء مسحة من الأخلاق على العمل السياسي، وفي إدارة شؤون الناس.. أي خلقنة السياسة لا أدلجتها!!
ما لم؛ فإنها ستعيدنا إلى الصراع القديم نفسه وإن بطرق مختلفة، وهذا النوع من الصراع لن تسمح الجماهير بعودته فستجد هذه الأحزاب نفسها في صراع مع الناس وقد خسرت كل شيء.. الداخل قبل الخارج!!
رئيس مركز مسارات للاستراتيجية والإعلام

b.shabi10@gmail.com

 

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
صحيفة الأمناء PDF
تطبيقنا على الموبايل