آخر تحديث :الخميس 26 ديسمبر 2024 - الساعة:01:26:07
أنا والنورس وانتظار الرحيل
(الأمناء نت / مريم محمد الداحمة :)

في أحد الأيام كنت أسير نحو ذلك الشط منتظرًا قدري في الرحيل، تلفت يمينا ويسارا لأرى مخرج يبعدني عن ذلك المكان ولكني لم أجد في ذلك الشط المهجور سوى نورس حزين ربما فاته السرب ورحل في الأفق البعيد، فموسم الرحيل تراءى في عينيه عبر الشفق، فلا تراه غير يقفز بين الصخور ولمعة الحزن في عينيه، فكلما رأى موجه راوقها إلى صخره أخرى. يبحث بمنقاره بين الصخور فربما يكاد يجد بينها شيئاً، ربما نملة جائعة ويلتهمها وتؤلم حلقة قرصًا قبل أن تموت.

وأنا هنا أراقب كل ما يحدث بحرص لأنسى وحدتي، ومع كل نفس أستنشقه أجده يهديني ألمًا جديداً ووحشه بدلاً من أنس كنت أرنو إليه.

أتمتم بيني وبين نفسي هل يشبهني ذلك النورس فهو وحيد مثلي، ذهب أقرانه يتقافزون في الضياء إلى حيث الغيم والورد والفراشات والربيع، لماذا لم يذهب بصحبة رفاقه ذلك النورس؟، هل أهيض جناحه؟، وما ذنبه فيما آل إليه حاله؟، أظن قدره أن يعيش الشتاء هنا معي في ذلك الشط، ربما يغمره الصقيع ذات مساء، ولن تسمع غير أغاني الصيادين ورائحة السمك المشوي عندما تعبر مراكبهم وهم يغنون أغاني موغلة في القدم كان يغنيها الصيادون منذ آلاف السنين، ربما هذا البحر هو الذي يقذف في أفواههم لحن الأمسيات الحزينة الذي يجاوبه صدى الصخور ويرتد كسيموفونية تشبه شقشقة هذا النورس.

وهممت أن أحمل هذا النورس إلى كوخي، غير أني احترمت حريته، ولكن ربما يتجمد على الشط إذا لم يطر من هنا، وحفاظاً عليه أخذته ووضعته في كفي وهو يرتجف من البرد والألم والجوع، ورأيت في عينيه ألماً وشوقاً إلى الهجرة، وفقدان السرب، وهممت بوضعه في قفص ولكن احترمت حريته أيضاً، ووضعته أعلى القفص وقدمت له بعض السنابل والعشب عله يتعافى قبل موسم آخر للرحيل.

بعد عدة أسابيع، بدا يحلق قليلًا مع الغروب ويحط رحاله على الكوخ وتغير صوته وأصبح فيه شيء من الحنين ربما بسبب الفراغ.

وألف النورس الكوخ، وأصبح يغدو ويروح، وفي أول أكتوبر، بدأت أسراب النورس هجرتها نحو الجزر الدافئة، فتغير لحن النورس وأصبح يرسل لحناً جديداً يشبه نغم الفوز الجميل..

وعندما عدت من البحر مساء اليوم التالي وأنا أحمل سلة السمك وسنارتي القديمة لم أجد النورس.

لقد رأى السراب وذهب فرحاً ليحلق به، وفي نفس الليلة وصلني خطاباً جاء بالبريد للتو، ووجدت فيه صورة فيزا من صديق قديم يدعوني لزيارة بلد تبعد أربعة آلاف ميل هي بلدي، وأخيرًا وجدت من يدعوني لزيارة بلدي وكأنها مواسم الرحيل تتزامن في شتاءات العمر قبل النوى والجفاف، ولكن قبل الرحيل إلى بلدتي، سأودع البحر وصخوره التي اعتدت الجلوس عليها.




شارك برأيك