
التصعيد العسكري الأخير في البحر الأحمر، الذي ترجمه الهجوم الأميركي على أهداف عسكرية نوعية تابعة لميليشيا الحوثي الإرهابية، سيكون بلا شك بداية مواجهة عسكرية مفتوحة مع ميليشيا الحوثي. هذه الميليشيا اختطفت الدولة اليمنية في سياق سياسي معين، وحولتها إلى بارشوك (مصد) جيوسياسي يحمي نظام الولي الفقيه في طهران. عبر هذا الدور، يمارس جنرالات الحرس الثوري الإيراني إستراتيجياتهم المفضلة في خلط الأوراق الإقليمية وإعادة إنتاج ميكانيزمات الصراع بما يخدم مصالح البرنامج النووي الإيراني، الذي يُعد الخط الدفاعي الأخير للنظام الإيراني في مواجهة الولايات المتحدة، التي لا تخفي نيتها إسقاط هذا النظام واستبداله بنظام ديمقراطي يعبر عن آمال وطموحات الشعب الإيراني الأصيل، المختطف هو الآخر منذ حوالي نصف قرن من طرف الجماعات الأصولية والمرجعيات الشيعية المتطرفة في طهران والحوزات الدينية الشيعية في قم.
لا يخفى على أحد الدور الإستراتيجي الذي بات يلعبه البحر الأحمر في خريطة التوازنات الدولية، وبشكل خاص بعد عملية “طوفان الأقصى” بتداعياتها العسكرية والأمنية والاقتصادية على المنطقة. تأتي هذه التداعيات وسط رغبة المجتمع الدولي في تطهير مضيق باب المندب من سيطرة الجهات الفاعلة غير الحكومية والمنظمات المسلحة غير النظامية، كجماعة أنصارالله الإرهابية، التي أصبحت تشكل أحد أخطر التهديدات التي تواجه الملاحة العالمية واستقرار خطوط الاتصال وسلاسل الإنتاج الاقتصادية في العالم.
الهجوم الأميركي على الأهداف العسكرية الحوثية هو تغيير إستراتيجي في مسار المواجهة بين الطرفين. فمنذ بداية الضربات الأميركية والبريطانية في مطلع عام 2024 وحتى اليوم، ركزت العمليات على إضعاف قدرات الحوثيين من خلال ضربات مُخطط لها مسبقًا على الأصول العسكرية الثابتة، إضافة إلى الاستهداف الديناميكي لأنظمة الأسلحة المتحركة. واليوم، بعد إدراج واشنطن ميليشيا الحوثي في قائمة المنظمات الإرهابية، يُتوقع أن نشهد عمليات نوعية تستهدف قيادات رفيعة المستوى في الهيكل العسكري والسياسي للحوثيين.
التصنيف الأميركي لميليشيا الحوثي كمنظمة إرهابية كان خطوة إستراتيجية إلى الأمام لإنهاء حالة الفوضى المنظمة في مضيق باب المندب، كونه أحد أهم الممرات الملاحية البحرية في العالم وأحد مفاتيح الاستقرار والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.
منذ الانقلاب الإيراني على الحكومة الشرعية اليمنية في صنعاء، وتواطؤ جماعة أنصارالله، وسيطرة ميليشياتها المسلحة على مفاصل الدولة اليمنية، والبلاد تغرق في حرب أهلية مدمرة، وفوضى، ومجاعات، وأوبئة. أضف إلى ذلك العديد من الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي عانى وما زال يعاني منها الشعب اليمني الشقيق. هذا التدهور يعود إلى ارتهان قيادة الميليشيا لرغبات صانع القرار السياسي في طهران، الذي حول اليمن بتاريخه العريق إلى بندقية إقليمية مأجورة ببعد جيوسياسي، تشكل تهديدًا مباشرًا لميكانيزمات السلام والاستقرار العالمي والإقليمي.
الاستهداف الأميركي للمواقع العسكرية التابعة لميليشيا الحوثي هو إنهاء عملي لعربدة النظام الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وتكريس نهائي لقواعد الاشتباك الإقليمية الجديدة التي أفرزتها نتائج معركة “طوفان الأقصى”، التي كتبت للأسف بدماء عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين الغزيين في هذا الطوفان الدموي.
تثبيت قواعد الاشتباك الإقليمية الجديدة يتطلب اليوم مؤتمر “يالطا” شرق أوسطيّا، يضم مختلف القوى الفاعلة في الميدان العسكري والسياسي، بما فيها إسرائيل. الهدف هو بناء تصور جديد لمفهوم الأمن في منطقة الشرق الأوسط، مع إعلانها منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وخطاب التطرف، والجماعات الإرهابية والانفصالية، والأسلحة غير الخاضعة لسيطرة الجهات الحكومية الفاعلة.
العودة إلى المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية، التي حاولت “قمة النقب” رسم خطوطها، أصبحت اليوم ضرورة إستراتيجية على المستوى الإقليمي. مع قرب تغير الموقف السياسي الداخلي في إسرائيل، يبدو أن حكومة الحرب الإسرائيلية، بقيادة بنيامين نتنياهو، ليست قدرًا دائمًا لإسرائيل أو المنطقة.
تداعيات نتائج حرب “طوفان الأقصى” على المستوى الانتخابي لم تنضج شروطها بعد في تل أبيب لتفرز واقعًا سياسيًا جديدًا في إسرائيل “ما بعد نتنياهو”، يكون قادرًا على بناء السلام، والانخراط في ديناميكيات الاستقرار الإقليمي والسلام المستدام، في توافق تام مع باقي القوى الإقليمية الفاعلة في الملف الفلسطيني.
الضربة الأميركية على مواقع الحوثيين واستهداف الهيكل العسكري القيادي في ميليشيا أنصارالله، بما في ذلك إمكانية تحييد عبدالملك بدرالدين الحوثي من المشهد، قد يفتحان الطريق أمام قيادات حوثية أقل رتبة للدخول في مفاوضات مع باقي الأطراف. الهدف هو التوصل إلى حل تفاوضي ينهي الأزمة السياسية والعسكرية في اليمن، مشابه لما حدث في لبنان بعد تحييد حسن نصرالله.
التصعيد الأميركي ضد الحوثيين قد يتخذ أربعة مسارات متوازية عبر استهداف البنية التحتية العسكرية، واستهداف البنية التحتية المدنية وتصفية القيادات وضرب الهيكل التنظيمي ودعم لوجستي وعملياتي لمناورة برية لتحرير مناطق في عمق سيطرة الحوثي لنقل المعركة إلى الحاضنة الجغرافية والعقائدية للميليشيا، صعدة.
تشابك المصالح الجيوسياسية والعسكرية مع تعقيدات الموقف الإقليمي وتداخل المسارات العسكرية والأمنية، بتواجد 19 قاعدة عسكرية لمختلف دول العالم في مضيق باب المندب، وأكثر من عملية عسكرية بحرية أميركية وأوروبية لتأمين الملاحة البحرية في المضيق، يطرح أكثر من تساؤل حول طبيعة الأولويات التي تحكم المراقب للوضع الجيوسياسي في المضيق وجنوب البحر الأحمر.
فصناعة استقرار إقليمي في المضيق تمر أساسًا عبر تطوير الهجوم الأميركي ليتوسع إلى “نورماندي مصغر”، على شكل عملية إنزال بحري وجوي لقوات عسكرية تابعة للشرعية اليمنية في الحديدة. يتطلب ذلك توفير دعم لوجستي وعملياتي واستخباراتي لعملية الإنزال، بشكل يجعل الحكومة الشرعية اليمنية تسيطر على أحد أهم موانئ البحر الأحمر دون الدخول في حرب استنزاف، يراهن عليها الحوثي لتحويل المدينة إلى بؤرة إنسانية لاستدرار العطف الدولي ومخاطبة الضمير الإنساني.
فمعركة تحرير الحديدة ستكون انعطافة مهمة في مسار الحرب بشكل عام، حيث كانت المدينة تاريخيًا بوابة دخول العاصمة صنعاء. التحكم بها ستكون له تداعيات كبرى على ميكانيزمات الأمن البشري في المضيق، وعلى مسارات المواجهة العسكرية المرتقبة بين عناصر أنصارالله والقوات المسلحة اليمنية. هذه المواجهة تهدف إلى إنهاء أزمة إنسانية يعاني بسببها أكثر من 19 مليون شخص في اليمن، الذين هم اليوم بحاجة ماسة إلى الحماية والمساعدات الإنسانية.
مع التذكير بأنه في سنة 2024 فشل المانحون في تلبية احتياجات التمويل المطلوبة من قبل الأمم المتحدة لليمن، وهو ما أدى إلى نقص حاد في الموارد المخصصة للمساعدات الإنسانية. فمن أصل 2.71 مليار دولار مطلوبة، تم تلقي 1.36 مليار دولار فقط، ما يمثل 50.2 في المئة من التمويل المطلوب، وهو أدنى مستوى تمويل خلال السنوات الخمس الماضية.