آخر تحديث :الاثنين 23 ديسمبر 2024 - الساعة:01:37:25
المدرسة الوسطى في حضرموت الجرس الذي يقرع ذاكرة الزمن
(الأمناء/جمال شنيتر:)

حظيت المدرسة الوسطى في بلدة غيل باوزير بمحافظة حضرموت، كبرى محافظات اليمن، بمكانة وأهمية خاصة تفوق كل مدارس اليمن الأخرى، فهي المدرسة الولَّادة التي تخرج فيها كَمٌّ من الرؤساء والقادة والحكام والوزراء والسفراء والمديرون ورجال الأدب والثقافة، واشتهرت بمنهجها الخاص في التربية والتعليم وبالتأهيل في العلوم، ومنهج التحصيل بالنشاطات المختلفة، وتميزت بتصدرها مدارس التعليم في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

سمعت وقرأت كثيراً عن هذه المنارة العلمية والتربوية الرائدة، فزادني الشوق لزيارتها، وكان لي ذلك صباح يوم الأحد الماضي، وما إن وصلت إلى بوابة المبنى الذي هو الآن مركز ثقافي، حتى استقبلني بحفاوة الشاب النشط عبد الله الحوري القائم بأعمال المركز، ثم أخذني في جولة في المبنى الذي يشهد أعمال ترميم واسعة.

 

هكذا تأسست وسطى الغيل

 

كانت هناك مدرسة وسطى أخرى في حضرموت قبل مدرسة الغيل، وكان مركزها في مدينة المكلا عاصمة السلطنة القعيطية، في فترة الاحتلال البريطاني للجنوب، وفي شهر مايو (أيار) 1944 انتقلت المدرسة الوسطى من المكلا إلى غيل باوزير.

عن أسباب اختيار غيل باوزير مركزاً للمدرسة الوسطى بدلاً من المكلا، يكتب آخر مدير للمدرسة الوسطى في الغيل السفير الراحل محمد سعيد مديحج في كتابه "المدرسة الأم": "انتقال المدرسة الوسطى إلى الغيل يعود إلى عدة أسباب، منها أن الغيل منطقة ريفية وبها كل ما تتطلبه خطة عميد معهد التربية بخت الرضا (السودان) المستر قريفس لتنظيم التعليم في حضرموت من أهداف ومقومات لتحقيقها، وصلاحية هذه المنطقة لجوها التعليمي المناسب، ولوجود المياه المتوفرة واتساع الأرض الزراعية، وإمكانية بناء المؤسسات التعليمية فيها، مع وجود قصر كبير يسمى القصر الأزهر الكبير، وبستانه الجميل الذي يساعد على القيام بالأنشطة المدرسية، كما أن الغيل تقع في منطقة منبسطة يتسنى معها بناء مدارس كثيرة، ويتحلى أهلها بصفات جمة من مهارات وقدرات فنية وعلمية مكتسبة من الماضي".

 

البرنامج المدرسي

 

كان البرنامج المدرسي اليومي مميزاً للغاية، - بحسب كتاب مديحج - ابتداءً من صلاة الفجر في المسجد المجاور للمدرسة، ثم تأدية بعض الأنشطة الطلابية الصباحية المبكرة، وفي مقدمتها تنظيف الفصول الدراسية والعمل في بستان المدرسة، وممارسة بعض الأنشطة الرياضية، وعند الساعة السابعة والنصف صباحاً يدق جرس المدرسة إيذاناً بطابور الصباح، ثم بداية جدول الحصص الدراسية، فيدرس الطلاب مواد التربية الدينية واللغة العربية والحساب واللغة الإنجليزية والطبيعة والجغرافيا والتاريخ والأعمال اليدوية، وبعد العصر يتوزع المعلمون على مختلف الميادين الرياضية الفسيحة، للإشراف على الفرق الطلابية التي تتوزع على ألعاب كرة القدم والسلة والطائرة والطاولة والتنس الأرضي والسباحة وألعاب القوى، فيما يقوم بعض الطلاب بتنظيف حوض السباحة والعمل في بستان المدرسة، كما شكلت عدة أندية وجمعيات مدرسية، ومنها نادي النسيج الذي يقوم بعمل الفنايل والشربات، ونادي الأعمال اليدوية الذي يقوم بتجليد الكتب واللوازم المدرسية وإصلاح الكراسي وطلاء المبنى المدرسي، كما أولت الإدارة المدرسية اهتماماً كبيراً بالتحصيل العلمي للطلاب، من خلال تشجيع الطلاب على مذاكرة موادهم الدراسية ليلاً، وفي كثير من الليالي يدخل المعلمون الفصول مع الطلبة لمراجعة ما يتطلب مراجعته من العلوم والمواد الدراسية المتنوعة، إضافة إلى وجود المكتبة المدرسية، وعلى الطالب أسبوعياً قراءة أي كتاب، سواء كان إنجليزياً أو عربياً، ثم تلخيصه وتقديم ما كتبه لمدرس المادة لتصحيحه.

 

التجربة السودانية

 

ينوه مدير مكتب الثقافة بمديرية غيل باوزير أكرم باقحيزل، بأن مبنى المدرسة الوسطى كان داراً للحكم بناه الحاكم منصر بن عبد الله القعيطي عام 188م، قبل أن يتحول إلى المدرسة الوسطى للتعليم النظامي 1944، مشيراً إلى أنه قبل المدرسة الوسطى، كان نظام التعليم عبارة عن معلامات وكتاتيب دينية تابعة للمساجد.

ويضيف "كانت الدراسة في المدرسة تطبيقاً لتجربة التعليم السودانية من معهد بخت الرضا، وكانت تجربة ناجحة جداً آتت ثمارها في غيل باوزير وحضرموت والجنوب اليمني آنذاك، فتم استقدام البعثات التعليمية من السودان، واستمر معهد التربية بخت الرضا في تأهيل معلمين أكفاء تولوا عمادة المعهد، بعد رحيل عميدها الأول المستر قريفس، وكانت التجربة السودانية رائعة على التعليم النظامي في المدرسة الوسطى وحضرموت إجمالاً، وأعطى فرصة حق التعليم لفئات المجتمع بجميع أشكاله، فولدت نهضة علمية ليس لها مثيل، ولاقت استحساناً واستجابة محلية وخارجية كتجربة فريدة في الأرياف".

ويتطرق باقحيزل إلى الأنشطة المدرسية التي كانت طفرة في هذه المدرسة، بالقول "تشجيعاً للأنشطة الصفية واللا صفية وزع الطلاب إلى ثلاث مجموعات (منازل) متنافسة هي الينبوع والأحقاف والوادي، وكانت العملية التعليمية مرتبطة بالفنون التطبيقية، بقيادة الشيخ محمد عبد القادر الملاحي، والأنشطة الرياضية المختلفة بقيادة العم صالح سيدار وصفارته المشهورة، وحظيت الزراعة باهتمام كبير من قبل الإدارات المدرسية المتعاقبة، فقد أسست في المدرسة جمعية صغار المزارعين أعضاؤها كل طلبة المدرسة، وسميت نادي صغار المزارعين، وكان أول مستشار لها الشيخ عوض عثمان مكي، وقد قامت هذه الجمعية الطلابية بعمل جبار، وهو خلق حديقة غناء، كما شهدت المدرسة جملة من الأنشطة المتصلة بالبيئة والفنون المسرحية والقراءة والشعر، وأنشطة طلابية تفوق الخيال، مع نخبة مخلصة متخصصة من المعلمين والمربين".

مناطق الاستجلاب

يلفت إلى أن طلاب المدرسة يأتون من مناطق الأرياف والبادية والحضر، وبدرجة أولى من غيل باوزير وضواحيها، بالإضافة إلى مناطق ما كانت تسمى سابقاً السلطنات القعيطية والكثيرية والواحدية والمهرية، وهي مناطق شاسعة ومتباعدة، بعد أن يكون هؤلاء الطلاب قد أكملوا دراسة المدرسة الابتدائية في مناطقهم، مضيفاً أن المدرسة الوسطى أولت اهتماماً بتربية طلابها التربية الصالحة، وتأهيلهم لحياة المستقبل، وتميزت الحياة التعليمية فيها بالانضباط والجدية، وكان هناك إقبالاً شديداً على المدرسة الوسطى، الفريدة من نوعها لفترة من الزمن، لأنه حينها كانت الوسطى بالنسبة للطالب المرحلة الثانية والمهمة.

 

مركز ثقافي

 

في أثناء تجوال مراسل "اندبندنت عربية" في مبنى المدرسة الذي تحول إلى مركز للأنشطة الثقافية، تحدث إلينا القائم على إدارة المركز عبد الله الحوري، عن مصير المدرسة الوسطى بعد استقلال جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية عام 1967، قائلاً "بعد الاستقلال الوطني انتهى النظام التعليمي للمدرسة المتوسطة، وتحول المبنى إلى مدرسة للتعليم الأساسي الموحد، وبعد سنوات من ذلك أصبح المبنى مقراً للسلطة المحلية في المدينة، واستمر هكذا حتى بعد الوحدة اليمنية عام 1990، ولكن في حرب صيف عام 1994، تعرض للنهب من قبل بعض الأشخاص، بالإضافة إلى نشوب حريق هائل بفعل فاعل في أجزاء منه، وبعد الحرب كانت هناك فكرة إزالة المبنى، لكن محافظ حضرموت حينها صالح عباد الخولاني لم يكن مع فكرة الإزالة، بل مع فكرة ترميم المبنى وإعادة تأهيله، وبالفعل تشكلت لجنة للإشراف على إعادة ترميم وهيكلة المبنى، وتحول إلى مركز للأنشطة الثقافية والتربوية عام 1997".

امتداد للمدرسة

ويسهب شارحاً وضع المركز "المركز الثقافي للأنشطة هو امتداد لتاريخ المدرسة الوسطى، بإحياء الفعاليات التي ترتبط بتاريخ المدرسة المجيد بالعلم والمعرفة والثقافة، وللأمانة وللتاريخ كان للسفير الراحل محمد سعيد مديحج، بصمة خاصة على إقامة هذا المركز عام 1997، فهو المؤسس وأول مدير له، فأعطى جُل اهتمامه أن يكون المركز مؤسسة ثقافية وتنموية تعني بالمواطن الحضرمي، كمنظمة غير حكومية بهدف استقطاب دعم وتمويل المنظمات المحلية والدولية، في ظل شح إمكانيات الدعم الحكومي عند التأسيس، وبالفعل تحول المركز إلى شعلة للنشاط الثقافي والتربوي والتنموي منذ انطلاقته، وأصبح قبلة لكل الزائرين من اليمن والدول والعربية والأجنبية من سفراء ووزراء وأفواج السياحة".

 

الخلاصة

 

يخلص الحوري في حديثه بالإشارة إلى أن "شخصية خريجي هذه المدرسة، كانت تتجلى لديهم الصفات المطلوبة من اكتساب معارف ومعلومات وحب العمل الجماعي والاتزان في الأداء والمروءة والصبر والشجاعة والثقة والاعتماد على النفس، مع حب المعرفة والاطلاع والتفكير المستقيم في الرأي، ووضوح الرؤية إلى مجريات الأمور، وبُعد النظر في الأمور ثم الأمانة والإخلاص والالتزام في الصدق في القول والفعل، وقد طبق هذه الصفات خريجو المدرسة في أعمالهم الإدارية والفنية والعملية، وفي انضمامهم إلى المدارس الثانوية والكليات والجامعات في الداخل والخارج، وقد عرفوا بهذه الصفات عند التحاقهم في الوظائف القيادية، وعند انخراطهم في السلك التربوي والدبلوماسي، وعند وصولهم إلى الوزارات والإدارات وتسلمهم أعلى الدرجات بها، ومن هولاء على سبيل المثال نائب رئيس الجمهورية الأسبق علي سالم البيض، وأول رئيس لوزراء اليمن الموحد حيدر العطاس، ورئيس الوزراء الأسبق فرج بن غانم، وعدد كبير من الوزراء والسفراء والقادة، وهكذا على مدى ربع قرن تقريباً ساهمت المدرسة في ترسيخ دعائم التطور التربوي والتعليمي والثقافي، وكانت بداية قوية ومشرقة لتطور التعليم في حضرموت".




شارك برأيك