آخر تحديث :السبت 02 نوفمبر 2024 - الساعة:11:12:07
الشاعر الأمير
(الأمناء نت /فهمي غانم)

من أين نبدأ مع الشاعر الأمير أحمد فضل العبدلي القمندان؟..من أين نفتح باب المعرفه معه؟..من شاعريته التي تميّز بها وكانت سبباً في شهرته أو من الحياة السياسية التي مارسها وكان قطباً من أقطابها في  المحروسة لحج أو من خبرته العسكرية الذي كان أحدَ سيوفها أو من ثقافته الواسعة واهتمامه بالتاريخ كمؤرخٍ يُشهدُ له..إنه كلّ هذا وذاك مزجها بعبقرية جعلته في محل النقدِ حتى الجرح أحياناً لكن عوده كان أصلبَ وكان سداً مانعاً لأي إنتكاسة أو تراجع عن الخطّ الذي خطّه لنفسه ولأدبه وشعره والثقافة بشكلٍ عام..
لم يلجأ القمندان إلى الأساليب التقليدية في طرح موضوعاته وإنّما أحدتثْ مواضيعه دوياً سُمعَ في عدن ولحج وانتشرت شظاياه  إلى العديد من الصحفٍ وخاصةً صحيفة (فتاة الجزيرة) العدنية التي نشرت عدداً من المساجلاتِ الثقافية والأدبية بينه وبين خصومه اتهموه بمجافاةِ التراث بل ومعادته وولعه بإحداثِ موضوعاتٍ ليست ذات صله بتراث سلفه من الأدباء والشعراء والمثقفين وفي لجؤّه للأوصاف الحسية المباشرة وأنّ ألفاظ شعره نحتْ نحو الميوعةِ اللفظية  اوبصورةٍ أدق كان يغرّد خارجَ السرب لكن الحقيقة  أنّ الأميرَ العبدلي الشاعرَ القمندان أحدثْ مايمكن أن نصفه ثقوباً في التراث الشعري الغنائي الذي _أتخذه البعض عباءةً للنيل منه_فهشّمَ تلك المقولات الثابته التي لصقتْ به وأخرجَ مافيها من ضعفٍ وركاكة وقاموسيةِ ألفاظه وتعابيره التي تجاوزها الزمن وطرحَ بدائلَ اكسبت النصَ الشعري روحاً جديدة أعادت إليه نظارته وقاربَ بينه وبين التجديد في الموضوعات والأسلوب والتناول على نحوٍ مغاير لما هو سائد وأدخلَ عنصرَ التشويق والإثارة وأعادَ الشباب والحيوية للنص بعد أن أصابه الذبول وتقادمُ السنين مما أبعده عن روح العصر غرسَ فيه معوله كي يغربلّه وينقّيه من تلك  النمطية المفرطة والأداءِ التقليدي فأعطى عنايةً خاصة بالتناسق بين الموضوعات والمقاربة بينها وبين انواعٍ أخرى من الشعر الغزلي الذي كان سائداً في العصور الأدبية المختلفة ولكن عمل ذالك بأسلوبٍ عصري وأفقٍ جديد وحماسةٍ رشيدة عن طريق المزامنةِ والتنسيق  وإبراز اللمسات الجمالية وترويضها وفقاً لمعادلات الحياةِ اليومية والطبيعةِ الساحرة للمحروسة لحج..
إذا أردتَ أن تعرفَ أنّك أمامَ شاعرٍ متمكّن يتصيّدُ ألفاظه من معاناته الإبداعية وحياته الشخصية الثرية خذْ مثلاً على ذالك في (المُعنّى يقول) والذي تُعدّ من كنوز الشعر الغنائي التي غناها الفنانُ الكبير محمد مرشد ناجي نلمسُ أثرَ هذا التوجه الأدبي الملتزم بالحرفية والمهارة اللغوية..وقد تماهه الفنان الكبير محمد مرشد ناجي بصوته الرشيق وماأحدثه الجملة الموسيقية المعبرة مع الجملة الشعرية للشاعر الفذ أحمد فضل القمندان من أثر فكان هذا العمل الفني الراقي..


يامنْ سكن في فؤادي*
واحتجبْ في سعودة
كم يكون الجفا 
يافاتني والبعاد
لاجزى من بعوده
فالتزمْ مذهبي
واسمح برشفةٍ لصادي
من جميل بروده
داوِ قلبي بها 
من قبل يقلق فؤادي
في الهوى من وجوده
وارحمْ المشتكي المظلوم 
كم له ينادي
والمدامع شهوده
بعتُ فيك الكرى 
يامنيتي بالسهاد
وأنتَ مانع رقوده

قدرةٌ على تفكيك المشهد والصورةِ الذهنيه القديمة وأعادَ تركيبها وفقاً للقواعد الفنية والأدبية والجمالية التي كان يرى الشاعر من وجهة نظره قادرةً على أن تعيدَ عربات الشعر والغزلي منه إلى سكّتها الصحيحة وهذا ربّما كان واحداً من أسباب الهجوم عليه..
وفي نموذجٍ آخر نحسُّ بتلك الحميمية التي جمعت فنياً الشاعرَ الامير أحمد فضل القمندان بالفنان الكبير عبد الكريم توفيق زريابِِ لحج كما وصفه الأستاذ الأديب هشام السقاف في إحدى مطالعته الأدبية..وهذا مانلحظه ب(ذنوب سيدي ذنوب ياورد نيسان)..
الذي جعل الزرياب توفيق يشدو صبابةً وولعاً ويترّجم أحاسيسَ الأمير الشاعر بكلّ شفافيةِ التعبير الجميل المصحوبِ بالوله..
ذنوب سيدي ذنوب 
ياورد نيسان*
لما متى ذوب 
تهجرني وانا لوب
والعين تبكي أسى
والقلب متعوب
لك خذ شامي 
وتحته خصر مقطوب
وعين امسى بها 
ذا القلب مسلوب
قالوا نعم تب 
وانا على كيف باتوب
ببني لكم في العرايس 
جنب شيلوب
وحيث كان السد 
بالدار منصوب
ذنوب سيدي ذنوب 
ياورد نيسان

لا يمكنُ الحديث عن الأميرِ الشاعر القمندان بمعزلٍ عن الفنان الكبير صاحبِ الصوتِ الشجي والنبرةِ الحزينة سعودي أحمد صالح وكيف توافقا في إخراجِ عملٍ مشترك تجاوز المكان والزمان وذاعَ صيته وتأثيره في الأوساط الأدبية والشعرية في المحروستين لحج وعدن  على الرّغم من قلّة لقاءهما فنياً..والأغنيةُ هي (غزلان في الوادي) غناها أيضاً الفنان الكبير فضل محمد اللحجي والفنان الكبير فيصل علوي وقدماها بصورةٍ فنية ولحنية  وأداءٍ ممتع كما تغنى بها معظم فنانوا لحج..
 كما أنّ صاحبَ اليدٍ الطولى بالشعر الشاعرُ الكبير  والمبدعُ  الجميل عبدالله هادي سبيت غناها أيضاً..لكن فقد تميّز بها الفنانُ الكبير سعودي أحمد صالح بإستخدامه المقاماتٍ القريبة من طبقة صوته المفعم بالشجن فتفاعلَ الأداءُ الهرموني الصوتي مع الكلمات وقدرة الفنان في تأطيرٍ ملحمته الغنائية إن جازَ لنا التعبير في خلق تفاعلٍ ينبضُ ألقاً ومتعة فأصبحت من بصماته ومؤشراً على إرتقاءٍ النفس الذوقية في الاغنية اللحجية  وعلى غير ذات الأغاني الاخرى..

غزلان في الوادي ياسعد رعيانه*
ياليتني معهم بامرح عسل نوب
يرعون من بين الوادي وحرمانه
يا خاطري ماشأنك ليه متعوب 
حبيت غزلان الوادي وفتيانه
ياخاطري ماشأنك ليه متعوب
والفضل لك ياسيدي والعفو مطلوب
بمسي على بابك والبرد سعبوب
وإن خفت من أهلك
بسري معك بالدّس
ياخاطري ماشأنك ليه متعوب

يجب أن ندرك أن لحج كلّها تتنفسُ جمالاً وإخضراراً وغناء..
فالطبيعةُ هنا ولاّدة وتحدثُ قدراً كبيراً من الدهشة وبالتالي فرضتْ وصيتها على الشاعر القمندان كي يرتقي إلى مستوى المشاهدات المرئية من حوله في كلّ من حاضرة السلطنة العبدلية الحوطة وأطرافها في الحسيني والخداد والمحلة والشقعة  ودار العرائس وأوديةِ العطاء في وادي خير وتبن والوادي الكبير فشكّل ذالك أحد أهم الروافد التي  ألهمتْ الشاعر وحفزّتْ فيه طرح مواضيع ذات صلةٍ بعيدٍ عن التغوّل في مفردات الماضي والوقوف على أطلاله..لذا رسم الشاعرُ المثقف القمندان تصوره الذهني الخاص  وقابليته الشعرية وفقاً للمتواليات الجمالية للبيئة اللحجية وفي حياة الناس العاشقةِ للشعر والفن والجمال فهو هنا لايعبّر عن عاطفة شخصية أو إستلهماتٍ ذاتية فقط بل يصدر منه ما يعبّر عن الذات الجمعية لمجتمع متنّوع  العطاء وكأنّه أعادَ التوازنَ للشعرِ الغنائي في لحج.. فالناسُ هنا فرحون..يغنون.. يعشقون..وفي الشدائد هم حاضرون..

ياذي تبون الحسيني*
عزمتُ باسري معاكم
يالي قدا قرة العين
ياسين..يازين..ياسين
قلي للذي في الرمادة
فاعل في عنقه قلادة
وله درايا ونهدين
ياسين..يازين..ياسين

الشاعرُ الأمير لايقول بل يرسم ولايصف بل يتأمّل ولايعبّر بل يعيش وبالتالي نرتقي معه ونعيش هذه الحالةَ الإبداعية الصادرةَ من نفسٍ حالمةٍ صادحةٍ بالغناء والجمال حدّ الإفتنان..وتمكنّه من حقنِ البيئة الثقافية والفنية للمحروسة بجرعاتٍ من التألّق التي أصبحَ الغناء اللحجي لايُذكر والا ويُذكر معه أميره القمندان..
أنتَ تحس في شعر أحمد فضل القمندان أنّكَ أمام مهرجانٍ من الفنتازيا المعبأةٍ بالفرح التي يمزجُ فيها ألفاظه بمصادر الطبيعةٍ الخضراء المستمدة من الخامات التي مصدرها الأرض وهذا ليس غريباً عنه فقد كان خبيراً زراعياً معتبراً لذا من الطبيعي أن يمتلئ شعره وأغانيه بمثل هذه التشبيهات وتحميل المشبه به ألوانَ الطبيعة والعناصر الروحية فيها..
ياوردْ ياكادي   
 ياموز يامشمش ياعمبرود
ياقمري الوادي   
لك خد شامية وعين الهنود
يافل يانادي
قل لي ليالي الوصل شئ بتعود
بانجلي الصاد 
ياسمهري القامة أسيل الخدود 

قام بغنائها الفنّانُ الكبير فضل محمد اللحجي ومن بعده الفنّان الكبير فيصل علوي ثمّ أصبحتْ أغنيةً شعبية تُغنى في مناسبات الفرح والأعراس..بل إن مايميز شعر القمندان أنها جامع مشترك لكل الفنانين فلا يمر فنان إلاّ عبر مدرسة القمندان ولاتصقل قريحته الغنائية إلاّ من خلال شعر القمندان فأصبح شعره كمتاع يأخذ منه الفنانون حاجتهم وجواز عبورهم عالم الشهرة وهذه ميزة إختص بها الفنان الشاعر الأمير القمندان..ولهذا فإن كل فناني لحج والمنطقة عموما غنوا من شعر القمندان لكن قد يبدو أحدهم تميّز بميزة خاصة إقترب من خلالها للقمدان أكثر ومن هنا لايكتمل الحديث عن الشاعر الأمير
القمندان إلاّ بالحديث عن الفنان الشعبي الكبير فيصل علوي إذ نستطيع  التأكيد أنّ الفضلَ الكبير بانتشار شعر القمندان يعود بدرجةٍ كبيرة إلى فنّان لحج الممتع فيصل..فقد أعطى لأعماله الغنائية مساحةً معتبرة لشعر القمندان وعكس بصوته الصادح وعزفه المميّز ونبراته القوية ذالك الوهجَ القمنداني الأصيل الذي رفع من شأن الغناء اللحجي فلا يُذكر القمندان إلاّ وفيصل حاضر معه في تمازجٍ وجداني وفني عظيمِ الأثر 
ففي (الحسيني جناين) يظهر هذا الأثر العاطفي بين الشاعر الأمير والفنان الاصيل..

في الحسيني جناين والرماد زراعة*
عادني..عادني من الزين ساعة عادني..عادني بشترح
بين الربت والشواعة
ليه ياخاطري ليه
الجفا ليه ماشان
ليتني بنجري في معصمه أو ذراعه
والنبي..والنبي أحمد رسول الشفاعة

الفنّانُ الكبير فيصل علوي هو من طوّع أغاني القمندان ووضعَ فيها بصمةَ الانتشار وقد استفاد فيصل من قدرته على العزف حيث يبدو العود في يده كطفلٍ مدلّل يداعبه بكلّ أريحيةٍ وسلاسة وهو سرّ تفوّق فيصل كعازفٍ ماهر وكأنّه قرأ بإحساسِ الفنان الواعي مايريده الشاعرُ الأمير القمندان..  
كانت عدن حاضرةً في وعي القمندان وشعره وبعشقِ الشاعر وخياله الخصب رسمَ حواريها وأزقتها بصورةٍ أحال فيها الصورةَ الشعرية إلى حياة..
إذا رأيتَ على شمسان في عدن*
تاجاً من المزن يروي في تبن
حيّاكِ ياعدن من منهلٍ عذب
للقاصدين حماك الله من وطني
يادار آهلة فيك الكرام لقد
طبتِ وغنتْ لكِ الورقاء من فنن
إذا سرى من هوى حقات في عدن
أحيا عليل الهوى شجوى وذكّرني
أهل القطيع وأهل الزعفران
وفي حافة حسين
من أهل الفضل والفطن
أبعثْ مزاحم حيّ العيدروس
وصالح في الخساف
وعانق ثمّ واحتضن
وغنَّ لي مرحباً بالهاشمي 
( ياشادي البرق) أن غنّيتَ يطربني

الجسمُ في لحج والروحُ في عدن تلازمية وجدانية وسيل عاطفي جارف قادمٌ من أودية الخير في لحج لتمطر سماءَ عدن شعراً وغناءً  للأمير الملهم الفضل القمندان..
إذن الأميرُ الشاعر أحمد فضل العبدلي القمندان هو إنعكاسٌ مضئ لحالةٍ الوعي التي نهضتْ في إطار السلطنة العبدلية وحاضرتها الجميلة(الحوطة) حيث أرستْ معالمَ الدولةِ المدنية وأنشئتْ قانونها الخاص ودستورها وأنظمتها وشكّلت بذلك إحدى روافد الوعي السياسي الوطني والرشد الثقافي والعلمي رافعة لمعالمه الزراعة والبنى التحتية ففي التعليم كانت المدرسةُ المحسنية نموذجاً كما في أسلوب الإدارة الرشيدة كانت سبّاقة مما جعلها علامةً تاريخية فارقة  فأصبحتْ لحج بذلك إرهاصاً لتفاعلات نهضوية لحقتْ بقية الإمارات والسلطات والمشيخات في عهدٍ إتّسمَ بنوعٍ من الحرية الفكرية والنسائم الثقافية والغذاءِ الروحي والتذوق الفني..لهذا نستطيع القول أنّنا أمامَ تجلياتٍ شعرية من نوع خاص إبتكرها الأمير الشاعر العبدلي (القمندان) أسّس خلالها نوعاً من الحداثةِ الفنية في الشعر الغنائي اللحجي وصنعَ من خلال إبداع شعري وفني جميل والعيش في مناطق الجمالِ والإحساس الممتع وزرعَ مساحات خضراء في نفوس المتلقين عكستْ نضارةَ لحج وإخضرارها ووجهها الحسن..

انتهى
مايو2022م



شارك برأيك