آخر تحديث :الجمعة 22 نوفمبر 2024 - الساعة:23:31:26
الدكتور يحيى قاسم سهل وكتاب (حصاد العمر) بَعيداً عن الكتاب قريباً من المؤلف
(الأمناء نت / كتب / سعيد علي نور:)

( لقد كَتَبَ سيرته الذاتيةً على طريقته ..) هكذا حدَّثت نفسي وأَنا أنظر في فهارس الكتاب الأَخير للدكتور يحيى قاسم (حصَاد العُمر)، ربما كانت المصادفة (التوافق كما تقول العرب) أو أنه من قبيل توارد الخواطر، إذ لم ألبث أن قرأت القول نفسه في مقدمة الجزء  الثاني ، حيث كتب المؤلف يقول: ولعل القصد من ذلك أني كتبت سيرة حياتي خروجاً عن المؤلف في كتب السيرة ..) والأمر كذلك بالفعل ، لأن السيرة ليست (C.V) كما أنها ليست مجرد سرد ولا حتى (ببلوجرافيا) لمراحل العمر، بقدر ما هي بيان بما أُنجز فيه ، وقد قدَّم المؤلف صورة لذلك في الكتاب بأجزائه الثلاثة، التي تضمنت أبحاثه ومقالاته المنشورة.

كنت أقول دائماً، ولا زلت: إن الصديق العزيز يحيى قاسم أديب كسبه الحقوقيون وحقوقي انتفعت به الثقافة، فقد كان أقرب إلى الإنشغال بالثقافة والأدب، ولم يخلُ لقاء بيننا منذ أربعين عاماً إلاَّ ويحدثني فيه عما قرأ من قصص أو روايات ودواوين شعر، لذلك عجبت كثيراً عندما التحق بكلية الحقوق فقد كنت أتوقع أن يكون معنا في قسم اللغة العربية بكلية التربية، عندما التحقنا بالجامعة في العام 1980م معاً.

وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع أن يجمع بين التخصص في القانون والاهتمام بالثقافة والأدب والفن جمعاً أثرى كل تلك الحقوق بما كتب وناقش وحاضر، وبما ألف ونشر، من كتب أو مقالات في الصحف السّيارة.

إذا كان ذلك وجهاً من تلك السيرة ، كما هي في الكتاب ، فإن هناك وجهاً آخر منها أزعم وأدّعي أنني أعرفه دون غيري بحكم العلاقة الخاصة والنشأة والمجايلة العمرية واللقاءات المطولة التي كانت تجمعنا في مدينة جعار ثم  في عدن ، وبعدهما في قاهرة المعز، وكلها تمتلئ بالذكريات التي لا يتسع لها المقام، أتذكر جيداً تلك الإفاضات الأدبية والنقدية التي كان يتحدث بها عن قصص الراحل محمد عبدالولي ، كما أتذكر قوله لي إنه ذهب خصّيصاً من جعار الى عدن لكي يقابل الشاعر إبراهيم صادق عندما علم بوجوده في نادي ضباط الشرطة، الى غير ذلك مما يدل على شغفه الثقافي واخلاصه للثقافة والأدب، وهما الشغف والإخلاص نفساهما اللذان درس بهما القانون وصاربهما استاذاً فيه.

وأثناء دراسته في الجزائر تكررت تلك اللقاءات المطولة بيننا ، في القاهرة ، فقد كان يمر عبرها الى الجزائر ، وكنت مقيماً في حي (الدقي) فكان في كل مرة يزورني فيها ويمكث عندي يوماً  أو يومين ، وقد حمل إليّ مجموعة من الاصدارات الثقافية والأدبية وآخر ما صدر من الجرائد اليومية والاسبوعية في عدن ومثلها عند عودته من الجزائر عبر القاهرة ، وفي ذلك معنى يشير الى أنه لم يكن يهتم بالتخصص القانوني وحسب ، في يومياته  وأنه في السنوات التي قضاها في الجزائر ، لم يكن نشاطه واهتمامه مقصورين على تحضير الدكتوراه بل يتجاوزانها الى الشأن الثقافي وغيره، ولازلت أتذكر حديثه معي عن لقائه الكاتب واسيني الأعرج.

في تلك اللقاءات لم نكن نتحدث عن القانون ، وهو تخصصه، ولا عن الأدب والثقافة، وهما تخصصي ومجال اهتمامه، فقد تجاوز كل منا مرحلة اثبات الذات وصرنا مؤهَّلين للكلام في الشأن العام والثقافة العامية وحال التردي السائدة في العالم الثالث، وكنت في ذلك أتبين قدرته على التحليل والنقد والقراءة العميقة لكل ما كان يجري في مطلع القرن الحالي، كما لمست أنه يفضّل عدم الاقتراب من السياسة، وإن كانت المرارة والغبن يبدوان في كلامه وعلى قسمات وجهه من الحال التي آلت إليها عدن، قال لي مرة: تصور يا سعيد أنا ذاهب الى الجزائر لكي أكتب (150) ورقة أحصل بها على شهادة الدكتوراه، في القانون، على الرغم من أنني كتبت مئات الأوراق البحثية وألفت كتابين في تخصصي وألقيت عدداً من المحاضرات وشاركت في عدد من الندوات ونشرت كماً كبيراً من المقالات في القانون وغير القانون وفي لقاء آخر قال لي إن الدكتورة المشرفة عليه، بعد أن قرأت  المباحث الأولى من رسالته، قالت له: ليس بالضرورة أن تبقى في الجزائر إذا أردت أن تكتب وأنت في عدن فذلك بإمكانك ولا أعتقد أنك بحاجة الى مراجعتي، اكتب وسوف نناقش ما كتبت))

ومن اللفتات الكريمة، التي تحسب للدكتور يحيى أنه تجشم عناء السفر من الجزائر العاصمة الى وهران لكي يحضر شهادة البكالوريوس الخاصة بالشاعر الراحل عبدالرحمن ابراهيم والحديث عن الذكريات يطول، أختمه بما لمسته فيه من تكران للذات وايثار للآخر ، فعندما أهدى إليّ كتابة الذى أعدّه ونشره عن الفنان (سعودي أحمد صالح) دعوته الى الحضور الى مبنى الاذاعة في عدن لإجري معه حواراً عن الكتاب، وفي الموعد المحدد حضر ومعه الفنان (سعودي) المعني بالكتاب ، وأبعد من ذلك أكتفى بحديث موجز عن كيفية انجازه لهذا الاصدار وترك الحديث كله، تقريباً للفنان وذكرياته، مؤثراً الاستماع على الكلام.

وهناك حدث لا يستقيم الكلام عن سيرة الدكتور يحيى قاسم دون التذكير به، فقد أصيب بمصاب جلل حين فقد فلذة كبده، ابنه الوحيد ((معاذ)) ولعل ذلك أهم ما في سيرته التي أهداها الى روح فقيده، إذ كشف ذلك المصاب عن مقدار الايمان العميق بالله وقدره، وقد عبر عنه بقوله (هذا حق الله) وسكت ، ولكنه سكوت يبعث على الكلام عنه ، تذكرت حينها والده السيد قاسم – رحمه الله- ذلك الفقيه الوسطي المعتدل ومقالته التي تكررت على مسمعي وهو يقول، دائماً (الله يُسَلّمَ الله يُجمّل) فلا غرو إذن أن تكون التربية التي رباها السيد قاسم لإبنه الدكتور يحيى وراء ذلك الاعتصام بالله حيال ذلك المصاب الذي أفقده الوجود الفيزيقي لأبنه، على حين لم يزل وجوده الوجداني يلح على جميع أفراد الأسرة الأب والأم والاختين ، حتى أن احدى أختيه سمت ابنها معاذاً باسمه، في اشارة من ربَّ العالمين الى أنَّ الله يُخلف على عباده المحتسبين.

لذلك كلَّه، وأن أوردته على سبيل إلا ختصار المُخلِّ بالتفاصيل، أقول للأخ العزيز يحيى إن عنواناً من قبيل ((حصاد العمر) لا ينبغي أن تكون دلاله قريبة وحسب ، فهناك دلالة  بعيدة للعمر اختزلها الشاعر التركي ناظم حكمت في قوله (أجمل الأيام التي لم نعشها بعد، وأجمل الاشعار التي لم نكتبها بعد ..) فلا بُدَّ أن يكون هناك حصاد آخر، إن شاء الله أن تكون في العمر بقية، ما دمنا نزرع في أحلامنا، حتى لوجفَّت التربة أو تصحّرت لأن الفصول لا تخلف مواعيدها، وذلك العمر لا ينتهي ، بإذن الله، ما بقي في لوحة المحفوظ حصاد آخر لما نزرع.

 

 

 




شارك برأيك
صحيفة الأمناء PDF
تطبيقنا على الموبايل