آخر تحديث :الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 - الساعة:00:16:31
شاعر الدّردواش: الشاعر محسن علي عبدالله الوحّدي القطيبي
(الأمناء نت / كتب : عبدالحميد الأعجم :)

زخرت كتب الأدب العربي بقصص حول شياطين الشعراء،إذ يزعمون أن لكل شاعر نَجِيّ من الجن، يناجيه ويلهمه قول الشعر رفعة لشأن هؤلاء الشعراء، فهم يعتقدون أن الجن تأتي بالخوارق التي يعجز عنها البشر.
والعجيب أن هذه المعتقدات قد بقيت حتى عصرنا، وقد صادفت شاعراً مجيداً من شعراء ردفان، له صلة بشياطين الشعر؛ إذ يتمثلها في شعره بأسلوب ينم عن شاعر فذ، له باع طولى في نسج القصيدة العامية، إنه الشاعر المرحوم/محسن علي القشع الوحَّدِي القطيبي، حيث نجده يبني الكثير من قصائده بناءً حوارياً بينه وبين هاجسه من الجن، وقد أسماه (الدردواش).
الشاعر/محسن علي القطيبي-رحمه الله-من قرية(وحَّدَة) ، توفي تقريبا بداية أربعينيات القرن العشرين، ولا أعلم عنه الكثير سوى أن شعره يحكي شاعراً مجيداً، ذو ثقافة دينية، وربما أنه قد نال قدراً من التعليم، أو أن الله قد وهبه هذا البيان مكرمةً من المكارم التي ميز بها أرباب القوافي.
إنه شاعر الدردواش!، وهذا الاسم الذي اختاره عجيبٌ ..غريب، يظل يحاور هذه المرأة القادمة من عالم الجان، وقد لاحظت بما وصلني من شعره أن هذه المرأة عندما تحضر في نصه الشعري تزيل همّه، ويطرب لوجودها بعد أن يشكو الضيق والكرب
سأستعرض في هذه الحلقة قصيدة من الشعر الشعبي لهذا الشاعر، وقد وقفت متعجباً من أسلوب الشاعر، وصياغته الشعرية الراقية، وكذا من ثقافته التي سبق بها زمنه (عليه رحمة الله).
من الواضح أن القصيدة قد أخذت طابعاً صوفيّاً خاصةً فيما يتعلق بمقدمتها، وقد أفادني من يسكنون قرية الشاعر (قرية وحَّدَة) في (ردفان) بأن هذه القصيدة قد كانت قديماً تُغنّى في التواشيح الدينية، وهي من أشهر قصائده، وإليكم أبياتها:

1- المقدمة:
-----------
يقول محسن بن علي عبدالله أتوسّل بمن
يمحي ويثبت كل ساعة شأن ما قدّر يكون

يامن خلق سبعاً سماواتاً وبالعليا سَكَن
لكنّهُ حاضر على تحريك خلقِه والسكون

أحيان يتماثَل جمادي ماظهر ولّا بَطَن
وكلها في قدرته محفوظ ماشيئاً يهون

آخِذ نواصيها ونَفخ الروح من أصل البَدَن
عالم ضمايرها وعالم كل ماتخفي الظنون

هو قبل قبل القبل مُتقدّم قديماً أولاً
هو بعد بعد البعد لا قبله ولا بعدِه يكون

هُوْ أوّلاً هُوْ آخِراً هو ظاهراً هو باطناً
ظاهر ولكن مُحتجب بالنور ما تراه العيون

إلّا اهل سِرّه واهل معرفته يشوفونه زَكَن
والباقيين أعوام تؤمن به ولكن ينكرون

الحمد لك عالمعرفة ذي سِيت لي بين الهِيَن
مايعرفوا قدْري ولو علّمتهم مايعلمون

ياعين عين العين كم يخلق وكم صوّر عِيَن!
ياعين عين العين ياعين انكروها الجاهلون

-المقدمة قد كانت دينية ينضح منها اليقين ،فالشاعر ذو قلب استقر فيه حب الذات الإلهية بطريقة عشق، ووجد الصوفيين، حيث بدأها بالتوسل لله جل شأنه الذي بيده أمر الخلائق، يمحوه ويثبته بقوله للشيء كن فيكون، وهو من خلق سبع سماوات واستقر في أعلى السموات، ولكنه قريب من تصريف شؤون الخليقة، وحاضر بقدرته، يتصرف بالحي والجماد، وهو من نفخ الروح في الأبدان، ويعلم ماتخفيه الصدور.
إنه الله جل شأنه!، الأول والآخر، لاقبله ولا بعده، وهو الظاهر والباطن، الذي احتجب عن الخلائق ولا يراه إلا أهل التقى والعلم الذين استقر الإيمان في قلوبهم، أما من جحد وجوده وأنكر فهيهات ..هيهات أن يتجلى لهم، وهم الجاهلون المنكرون بديع خلقه وقدرته.
-البحر الشعري لهذه القصيدة هو بحر(الرَّجَز)، وهو بحر يُستخدم في الشعر الشعبي، فكل الزرامل أو الهواجل بُنيت بهذا البحر، والجديد في استخدام هذا البحر في هذه القصيدة هو أن الشاعر استخدم صيغة نادرة وهي زيادة تفعيلة رابعة في صدر البيت، وأخرى في عَجُزه، ليغدو رجز بثمان تفعيلات بدلاً من ست، وهذه الزيادة ولّدت وفرةً في موسيقى الأبيات التي تراقصت تراقصاً عجيباً ، وولد تداخل الألفاظ وتكرارها حسن توزيع موسيقي لا يخفى على السامع:
هو قبل قبل القبل مُتقدّم قديماً أولاً 
هو بعد بعد البعد لاقبله ولا بعده يكون

هو أولاً هو آخراً هو ظاهراً هو باطناً
ظاهر ولكن محتجب بالنور ماتراه العيون

-تداخلت الألفاظ وتكررت بتضادات المعنى، وتولد إزاء ذلك هذا الإيقاع الموسيقي المجلجل، وهذا التركيب له وجود في القصائد الصوفية في الشعر العربي الفصيح:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحنُ روحان حلَلنا بَدَنَا

روحهُ روحي وروحي روحهُ
إن يشأ شئتُ وإن شئتُ يشأ

2- وصف الدردواش:
----------
ها بعد هذا الحين طاب الشوق والقلب افتهن
ذي عبَّروا سَقُّوا وذي ما عبّروا شِي مجدبون

زال الألم والهَمّ وزال الضيق ذي بي والمِحن
من يوم جاني(دردواش) وامسي يخالف باللحون

وامتدّه السِّبحة أنا وياه ومَدّينا سِيَن
يبدَع ونَا جَوِّب وبتنا طول ليلتنا ذهون

سبعين حِلَّة فوقها ماشي لها عندي ثمن
من ألف جِنِّي احمر ثمنها رُخص ماهي شي زَبون

أبهج متوّج لا هَرَج ما يهرِج إلا هَرج فَن
أبلج أزج الحاجِب اعوج مثلما ذَرِّ المزون

أخضر شَميخ الجَعد بماء الورد والعطر اندَهَن
مسفوخ مثل الليل لَسوَد سافِخِة فوق المتون

وجهِه يلألأ نور مُشرِق من جبينِه والوَجَن
تِنزِل علينا رحمة الرحمن من نور العيون

لِه شَم روايحها تِخَلّي العقل يمرض واستجن
من كان مثلي يا(علي) يِجنَن معَ ذي يجنون

-أشرتُ في الحلقة السابقة إلى أن حضور (الدردواش) في القصيدة يبعث في الشاعر فرحاً وطرباً بعد هَمّ وغَم، وهذا ما صرح به الشاعر في البيت الأول من هذا المقطع الذي يدور حول هذه المرأة المسماة(الدردواش)، وظاهر هذا الاسم العجيب يوحي بأنه مذكر، لكنه وصفها أنثى بوصف تفصيلي يوحي بقدرة شاعر متمرس في توليد معاني الوصف، ولن أطيل في شرح الأبيات التي أظنها واضحة إلا من بعض الألفاظ العامية، وكذلك فاجأنا الشاعر بألفاظ وتراكيب فصيحة:
-الألفاظ والتراكيب العامية:
أنا وآته: أنا وإيّاه، سِيَن: يقصد بها أحاديث متداخلة ومتشابكة وطويلة، ولها معنى آخر هي خصلة شعر المرأة(النِّسَع)، وتسمى في اللفظ الفصيح الضفائر، وكأنه أراد أن يشبه الأحاديث التي دارت بينه وبين دردواشه بتداخلها وتشابكها بشَعَر المرأة في حال تداخله وتشابكه. مسفوخ: أي مُنسَدل فوق أكتافها.
- الألفاظ والتراكيب الفصيحة:
أبهج: مأخوذ من المسرة والبهجة، أبلج: بمعنى مضيء مشرق، يقال: أبلج الصبح أي: أشرق، وأبلج الحق: أي بان وظهر، ولكن باعتقادي ليس هذا هو المعنى الذي قصده الشاعر، فالأبلج له معنى في اللهجة: خد أبلج أي فيه بَلَجَة، والبلجة: هي انخفاظة بسيطة في الخد تأخذ شكل الدائرة الصغيرة، تضفي على الخد جمالاً أثناء الابتسامة.
-أزج الحاجب: أي دقيق الحاجب مع طول وتقوّس. 
-مثلما ذَرّ المزون: صورة بلاغية شبه فيها الشاعر الحاجب المقوس بأمزان المطر في تعرجاتها وانكساراتها، هذا إن لم يكن قد قصد معنى آخر!.
-عندما قرأت هذه الألفاظ الفصيحة تبادر إلى ذهني القصيدة الغنائية للشاعر/إبراهيم الأمير، وهي من الغناء الصنعاني:

وآحالية وآعذبة المُقبّل
وآشادية بالمنطق الربابي
رقّي لحالي يامليحة الدلّ
يازينة التطريز بالخضابِ

-وصولاً إلى :

مسكين لافك الهوى ولاعقَل
جاهل خطاه أكثر من الصوابِ
أغنج أزج أبلج مُدعّج اكحل
دُرّي الثنايا خمري الرضابِ

-إذن هذا المقطع كان وصفاً لهذه المرأة التي تأتي الشاعر من عالم الجآن على حد وصفه، وقد أضفى عليها هالةً من الجمال الأخّاذ، وصورها لنا في أبهى صورة.

3- وصايا وحِكَم:
--------

خَلّ المُغطّى يا(عليّ) محجوب من قبل الحزَن
قد قال ربي اعملوا ما شئتم انّا عالمون

قد قال ربي اعملوا هذي ليالي عشرةً
قد نصَّها بالفجر للقراء لا هُم عارفون

وكلّها بالآدمي باللمس وابواب البَدَن
ظاهر ولكن يا (علي) ما تعرفوهُ غافلون

وبعد أنا بوصي وصايا تسمعوها في زَكَن
ها وَنت تسمعها بقلبك والجوارح والأذون

الأوَّلَة شِلّ الوفا لاخُّوك لا انتِه مؤتمن
حتى ولا هوْ يشتُمَك ولَّا وُفِي ولّا يخون

واترك كلامِه واتركه إن قا تعايَف وِن حَسَن
ولا تكن للخائنين اخصام والمتخاصمون

والثاني الدِّين الحنيف احفظ فروضه والسّنن
تحشَر معَ اهل الدين ذي هم للفرايض حافظون

واحذر حديث الكذب لَنّ الكذب ماشي له ثمن
من سار بالكذب اتَّهم وصار من ذي يكذبون

كن عالِماً أو مستمع للعلم أو متعلماً
ولا تكون الرابعة تهلك مع ذي يهلكون

إبليس والنّسوان واهل القسقسة واهل الحجن
شور الردى مِنهم وعند التالية مايحنبون

والسادس الدَّين احذره لا تقربه طول الزمن
الدَّين هوْ داء القلوب ياويل ويل اهل الديون

وعادِه الدَّين العجي هو قطرة الدم والفتن
فتنة بني العم يا أخي داء الجسد داء البدون

العيب ماشي عيب يامن بيع ولّا من رَهَن
قد وَصّي الرحمن في محكم كتابه بالرهون

ما عيب إلا من رَئِي بخُّوه حنبة واندحن
واقفي وهوْ محنوب ياعيب اللحايا والدقون

واذكر نبي مبعوث من قِبلِي تهامة واليمن
صلّوا معي يامن حضر ولّا سِمِع لا تكسلون

- القصيدة طويلة وقد تجاوزت الثلاثين بيتاً، لذا طال بنا الحديث لكثرة الأبيات، وهذا هو المقطع الأخير منها، خصصه الشاعر لمجموعة من الوصايا تعبر عن حكمته التي صقلتها الحياة والدين، ولا أظن المعاني تخفى عليكم فهي واضحة، وقد ورد في البيت الأول ذكر شخص يسمى (علي)، لا نعلم من هو؟ وظاهر الأمر أنه مخاطَب قصده الشاعر بالخطاب، وما يقال في هذه الوصايا التي ارتدت ثوب الحكمة أنها ذات طابع ديني بامتياز، والمعاني القرآنية قد رافقتنا منذ مقدمة القصيدة، وهي توحي أن الشاعر قد كان مُشَبّع بالثقافة الدينية:

قد قال ربي اعملوا هذي ليالي عشرةً
قد نَصَّها بالفجر للقرّاء لاهم عارفون

-هذا المعنى يشير إلى قوله تعالى:(والفجر. وليالٍ عَشر...)

-وكذلك وردت ألفاظ عامية لم أصل إلى معناها نحو:
(أهل القسقسة واهل الحجن) 
هذه الألفاظ ربما تكون متداولة في محيط الشاعر، وأظنهم يتداولونها ويعرفون معانيها!

-قصيدة تعد رائعة من روائع الشعر الشعبي في ردفان، قالها شاعرٌ كبير حِيكت حوله الحكايات بأسطوريتها، وبلغت شهرته الآفاق، فتداول شعرَهُ من يعرفه، ومن لا يعرفه، إنه الشاعر الأسطورة/محسن علي القطيبي، رحمه الله، وأسكنه الجنة.




شارك برأيك