آخر تحديث :الجمعة 29 مارس 2024 - الساعة:13:52:01
الوضع القانوني للسوق العقارية في مرحلة الإنفتاح التجاري الحالية غير المسيطر عليها من السلطات المركزية والمحلية
(د. شيخ بن سالم بانافع الأموي- أستاذ مساعد كلية الحقوق جامعة عدن)

إن التخطيط الحضري السليم  للمدن تتم بموجبه عملية البناء وفق معايير تخطيطية فنية وجمالية تنظمها تشريعات تهدف إلى خلق بيئة قانونية سليمة  ترسي دعائم مستقبل الحكم الرشيد، وكذلك تسهم في عملية مكافحة الفقر والمجاعة والمرض والاحتباس الحراري من خلال خلق مستوطنات سكنية حضرية تتوفر فيها شروط ومقومات بيئة صحية وجمالية وتشريعية منظمة.

حيث وفي عالمنا اليوم فإن الحكومات عاكفة على اعداد قوانين حديثة وتعد الدراسات وتعقد الندوات والمؤتمرات وتوقع الاتفاقيات للحد من العشوائيات، ونقصد بالعشوائيات ليس في عملية العمارة والبناء فقط، بل في عدم وجود قوانين ضامنة للملكية وسلامة التخطيط والبناء والوثائق، وكذلك حول المناخ  والبيئة....لخ.

ومن أجل تحقيق ذلك اعتبرت تلك التوجهات التي يسعى العالم إلى تحقيقها بوضع برنامج تتبناه أغلب دول العالم، وفي العالم الثالث من خلال البنك الدولي وكمنظومه حزمة إجرائية مكتملة  لأجل تطبيقها في المعمورة وبناء الأرض، وتعتبر المسؤلية القانونية والدولية لكل دولة على مقدار مالديها من مساحة ومدن تقع على سطح قشرة الأرض، ومنها اليمن التي ازدادت أهمية السوق العقارية فيها  في الوقت الراهن متزامنة مع عملية الانفتاح التجاري الغير مسيطر عليه والغير مقنن من قبل السلطات المحلية والمركزية وذلك بسبب الحرب الحالية القائمة، وكذلك عدم اتباع نهج صارم لا هوادة  فيه ولا تساهل حول عملية  تطبيق القوانين.

 ولهذا فإن الكثير من المتعاملين في سوق العقار لا يخضعون انفسهم اليوم  إلى أي شروط او ضوابط تشريعية تحكم السوق العقارية في الدولة اليمنية(( الرخوة soft state  )) وخاصة في المدن الجنوبية الرئيسية والثانوية وهي، عدن ولحج وعتق والمكلا وسيئون، وكذلك في مأرب العاصمة مهد الحضارات السبئية العريقة من قبل الحكومة المركزية والسلطات المحلية على غرار ما هو  معمول به في بقية دول الإقليم والبلدان المطلة على البحر الاحمر المقابل لليمن التي تطبق وبقوة القوانين المتعلقة بالارض والتخطيط والبناء وتسجيل الملكية.
 ‏واليوم في السوق اليمنية نلاحظ تعدد نماذج وصور الاستثمار العقاري مع عدم وضوح الرؤية الفقهية والقانونية لها.
 ‏
كل هذا النموء  يتم على حساب الأراضي البيضاء المملوكة للدولة، خاصة في مناطق النمو المستقبلي أو على حساب مساحات المناطق الصناعية الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، وكذلك مساحات الأراضي  الأثرية والسياحية والساحل والبحر والجزر والصحراء والغابات والأودية والسهول والأراضي الزراعية، كما ما نشاهد اليوم من تلاشى للأراضي الزراعية خاصة في دلتا تبن، ودلتا أبين ولحج والفيوش، حيث تغيب السياسة التخطيطة للدولة وسياسة البناء والعمارة، وشلل دور المؤسسات الإدارية القانونية للأسف الشديد.

 إلا أن هذا المجال من الإستثمار يقام على عنصر المغامرة ونسبة الرسك (( risk ))  فيه كبيرة لعدة أسباب أهمها:
 1_ عدم وجود وثائق تثبت الملكية الهادئة السليمة أي أن هذه الأعمال الاستثمارية العقارية التجارية تقام على مستندات هشة وعلى عنصر المغامرة والاستقواء، وخطورتها هذه لم تثن ولم تحد من جشع المتاجرين بالأراضي والعقارات مع زيادة حاجة الناس للسكن، فقد أصبحت العقارات هي أحدى طرق الاستثمار الناجحة من وجهة نظر الممتهنين لهذه التجارة والتي تحقق ربح مجزي سريع، بل وتعتبر من الأعمال التجارية وأكثرها انتشارا نظرًا لما يمثله العقار من أهمية في حياة المجتمع، وهو من الناحية النظرية الاقتصادية والقانونية تعتبره العلوم المجال الاستثماري الأكثر أمنًا، لكن في بلادنا هو عمل اكثر "أمنًا" عند بعض التجار وخاصة من لديهم أطقم عسكرية تحميهم او قبائل قوية تهيمن على الأرض، وكذلك التخطيط بل وتصدر تراخيص البناء وتحل محل الدولة وتقوم بدورها.  
2_ أغلب المشاريع تتم بموجب مخططات يعملها مهندسين حديثي التخرج لا تتوفر في هذه السكتشات أي شروط فنية وبيئية وقانونية، ولم تعدها وتعمدها وتصادق عليها سلطات التخطيط في الهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط العمراني بحكم أنها الجهاز الإداري للدولة الوحيد المناط به موضوع الارض والتخطيط الحضري في اليمن.
3_ غياب رؤية الحكومات المتعابقة في برامجها التي تقدمها لنيل الثقة من خلال هيئة الاستثمار ووزارة الصناعة ووزارة الزراعة وهيئة الآثار والسياحة والثقافة والمساحة الجيولوجية والغرفة التجارية وكليات الهندسة في عدن والمكلا وكليات الحقوق في عدن والمكلا، وعدم تبنيها مؤتمرات وندوات هندسية وبيئية وقانونية توعوية ولا تسأل حتى لتقدم رؤيا للمستقبل كلًا في مجال اختصاصه، حتى تبلورها الحكومة في خططها الخمسية وفي البرنامج الاستثماري للدولة مثلا لكل خمس سنوات في مجال الأرض والمدن والتخطيط والبناء والسوق العقارية.
4_ اغلب المستثمرين ينحصر دورهم في بيع القطع ذات الكثافة البنائية والسكانية وترك البنية التحتية تتحملها المجالس المحلية من موارد مال الشعب المحلي.
كما أن مناخ الحرب وهجرة ماتبقى من الدولة  وغیاب أجهزة الدولة التطوعية الرقابية والتنفيذية جعل السوق العقارية تشهد طفرة لرأس مال قابلها طفرة اقتصادية وسكانية لبعض الرموز التي سدت فراغ الدولة.

وكما أن الحركة السكانية والنزوح والهجرة الداخلية وعودة الآلاف من الأسر اليمنية من المهجر نتيجة فرض رسوم المقابل المالي على المرافقين لهم، لعبت دورا رئيسيا في رفع زيادة الطلب، ما استلزم بناء عدد كبير من العقارات على غفلة من الدولة ومن الزمن خارج المستر بلان والمخطط العام لهذه المدن التي اعدت الى عام 2025م من قبل شركة هارلو البريطانية عام 2005م بتمويل من البنك الدولي، بل أن ما يجري اليوم قد تعدتها في التوسع  إلى ما كان متوقع عام2050م باعتقادي. 

وايضًا لم يرافق ذلك التوسع وتعدد المخططات ونشوء الاحياء السكنية الجديدة في تلك المدن أي توسع في البنية التقنية التحتية  مثل الكهرباء والمياة والصرف الصحي ومرافق الترفيه والتعليم والصحة والادارة والبلدية والنظافة والشرطة والأمن وكل الاجهزة، وما يتطلب ذلك من خدمات باستثناء القلة من المستثمرين بغض النظر من وجود كثير من الملاحظات على انشطتهم إلا أنهم قد تكفلوا بالبنية التقنية التحتية على نفقتهم، وهم لا يتجاوزوا الأربعة في عدن.

وننوه هنا إلى أن أغلب من عملوا مخططات قد خططوا في مكاتب خاصة لاتتعدى صفين متقابلين من الكتل الخرسانية التي تمثل كثافة بنائية لا يسمح بها أي تشريع في أي دولة، إلا أن من يعتقدون  أنها مخططات عمرانية يتم إصدارها بشكل يومي بمكاتب خاصة فهي أعمال مخالفة لقواعد وأحكام قانون التخطيط الحضري، رقم 20 لعام 1995م، ولائحته التنفيذية رقم 170 لعام 1997م وقانون البناء رقم 19 لعام 2002م ولائحتة التنفيذية رقم351 لعام 2008م، ولن نتطرق إلى موضوع الملكية هنا لأننا سنسهب في الحديث حوله.

كما أن كل هذه الأعمال العقارية تتم بدون أي رقابة وبدون أي ضوابط قانونية، ولم يتم من خلالها دراسة تقسيمات الأرض التي حددها المخطط الهيكلي والعام لتلك المدن، وكذلك موضوع الاحياء النموذجية، أي الأراضي والعقارات ذات الملكيات المشتركة لأكثر من مالك في عقار واحد.

وعلى الواقع فإن التخطيط الحضري يعرف في أغلب قوانين العالم بأنه ذلك العمل الذي يجسد تمثيل هندسي على الورق ويعكس صورة الأرض وشكلها عند البناء، وتبيان للناس او للمشتريين المسائل الفنية والقانونية والاقتصادية والفقهية، للوضع القانوني للأراضي وللعقارات موضوع الاستهداف في هذه المدن.

ويرى بعض فقهاء القانون أن التخطيط الحضري هو استيفاء احتياجات المجتمع في "مكانٍ ما وزمن ما"، أي أنه المفهوم الأشمل لتنسيق المدينة من النواحي الوظيفية والبصرية والاقتصادية والاجتماعية والتخطيطية، في اطار خطة زمنية معينة مع مراعاة الامكانيات والمحددات الموجودة في المجتمع.

لكن في واقع مجتمعنا فإن فئة المضاربين يعتبروا هذا النوع من التجارة هي من المسائل أو من المستجدات التي طرأت على حياة المجتمع شأنها شأن تجارة العملة في تلك المدن المذكورة التي  توسع فيها نشاط الأعمال العقارية والتي بإمكاننا القول أنها شبيهة بالسباق السريع على الاستحواذ على أراضي الدولة تحت ادعاء الملكية المشاعية للقبيلة، التي هي في الحقيقة لاتتعدى حقوق الرعي والاحتططاب والحمى للقبيلة، وهذا كله وبكل تأكيد سيولد الكثير من التعقيدات في المعاملات العقارية في المستقبل، خاصة اذا ما قامت الدولة بأجهزة رقابية وقضائية قوية، وفي الوقت الراهن نرى أن تقوم الدولة بإعادة بناء السجل العقاري وبناء الى جانبة جهاز السجل المساحي ((Cadastre)) وتعديل قانون التوثيق الحالي والسجل العقاري واصدار قانون خاص بالسجل المساحي والخارطة المساحية لأن هذه الأمور القانونية أصبحت ضرورة ملحة لضمان حقوق الكل في المستقبل.

والمثل الحي قائم  اليوم وخاصة في المنطقة الحرة التي صارت مدينة تقام داخل مدينة عدن وكأنها الفاتيكان يحكمها مجموعة من الاقوياء والمتنفذين  رسميا- وقبليا، وتركت قيادة المنطقة الحرة دون حماية أمنية لموظفيها واراضيها التي خرجت عن سيطرة الحكومة والسلطات المحلية والمنطقة الحرة وهذه من المؤشرات الخطيرة التي تنذر بوقوع كثير من الكوارث على المدى القريب والبعيد، بما في ذلك جوانب الحيازة والملكية الهادئة وذلك لعدم توفر أبسط شروط وضوابط واحكام قانون الملكية والتخطيط الحضري وغياب ونسيان قانون البناء وقانون حماية البيئة والمساحات الخضراء، وعدم العمل بذلك على ضوء المخططات الهيكلية العامة للمدن التي تسبق المخططات التفصيلية ((وحدات الجوار)).

إن ما يتم اليوم من أعمال عقارية هي أعمال في أغلبها غير قانوني ولا تتوفر فيها أبسط مقومات شبكات الربط العنكبوتي للطرق وفقا للمستر بلان والمخطط العام والهيكلي لكل مدينة، وهذا ما سيترتب عليه مستقبلا؛ كارثة تخطيطية وجرائم معمارية وذلك من خلال مضاعفة نسبة البناء الأسمنتي والحجري على حساب الفراغات والمتنفسات والشوارع والمواقف وحركة المرور التي نراها اليوم  تخنق شوارع، وكذلك تلاشي مواقع المصالح الخدمية العامة وعدم قيام هولاء المستثمرين بأخذ موافقة السلطات المختصة في التخطيط العمراني على المخططات الحضرية ((وحدات الجوار))((Block)) والمصادقة عليها وتعميدها من قبل اللجنة الفنية العليا للتخطيط الحضري وهذه عشوائية خطيرة لم تشهد لها اليمن ولا أي دولة مثيل، حتى الصومال تلك الدولة الجارة التي دخلت مرحلة الحرب المنسية شأنها شأن اليمن، إلا أن مؤسساتها القائمة المترهلة لم تسمح بهكذا مضاربة عقارية تلحق ضرر بالأجيال القادمة ومناطق أراضي توسع النمو المستقبلي.

 

 

د. شيخ بن سالم بانافع الأموي- أستاذ مساعد كلية الحقوق جامعة عدن.



التعليقات معطلة على هذا الخبر