آخر تحديث :الخميس 25 ابريل 2024 - الساعة:01:32:00
قراءة في ديوان "مُنَمْنَمات حضرموت" للشاعر جنيد الجنيد
("الأمناء" كتب/ أمين الميسري:)

لا يختلف اثنان على أن الشاعر جنيد محمد الجنيد يمثّل حالةً شعريةً استثنائيةً كبيرة بين مجايليه. فهو الشاعر- بين جيله- الّذي قدّم نموذجاً التزامياً للقصيدة الحديثة - في عدن - بكل معنى الالتزام. وهو الشاعر الّذي يحمل نَفسَاً طويلا، وبُعداً عميقاً، كما نرى في قصيدته الطّويلة (تأوّهات للأمير السبئي) التي أصدرها في كتاب خاص، وهي مرثاة قيلت في المناضل الكبير عمر الجاوي.
إن الشاعر جنيد – كما يحلو لمؤرّخي الأدب تسميته - من شعراء السبعينيات؛ لكن في الحقيقة - كما أزعم – أنّه شاعر ستيني، أي أنه يكتب بنفس قصيدة الستينيات، أقصد القصيدة التي كان لها بريقها ووهجها ومنهجيتها الالتزامية، من لغة وصور ومعجم وتفعيلات مضبوطة، أي دون كسر عروضي، وغموض جميل، وانسيابية وعفوية.. إلخ.
أمّا إذا قلّنا أنّه شاعر من جيل السبعينيات، فقد تجاوز هذا الجيل، وكان شاعرها الأوحد دون منازع، كما أنّ له حضوراً كبيراً على مستوى الوطن العربي.
ولد الشاعر في مدينة تريم، حضرموت سنة1955م، وهو عضو اتحاد الأدباء والكتّاب العرب، وعضو اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا، ورئيس اتحاد وكتّاب الجنوب، وشارك في مؤتمرات وندوات ومهرجانات شعرية عربية وعالميّة.
ترجم شعره إلى عدّة لغات منها: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والايطالية، والأسبانية، والروسية، والبلغارية، والتركيّة.
محاضر بقسم الرياضيات كلية التربية/عدن، جامعة عدن، ودكتوراه في التربية: مناهج وطرائق تدريس الرياضيات – جامعة صوفيا – بلغاريا-1991م.
صدر للشاعر الأعمال التالية: إكليل لامرأة قتبانية، دار الهمداني، عدن1984م، وأعراس الجذور 2000م، وحوارية طائر الرماد 2003م، وتأوّهات للأمير السبئي، إصدار جامعة عدن2003م، ومنمنمات حضرموت 2013م، ودمّون تبكي امرأ القيس (معد للطبع)، وحفيد الرعاة القدامى (معد للطبع). (راجع النبذة على غلاف الديوان). ويضم ديوان (منمنمات حضرموت) تسع عشرة قصيدة، وزّعها الشاعر بعناية فائقة، كأنّها عقد فريد من اللؤلؤ والمرجان. هذا التوزيع مقصود عند الشاعر له أبعاده الدلالية، فهو يشكّل دلالة زمانية وحضارية. فالشاعر قسّم الديوان إلى أربعة أقسام: كل قسم يحتوي على عنوان رئيسي يضم مجموعة من القصائد على النحو التالي:
-    القسم الأول جاء تحت عنوان (وَشْم المدن) ويضم القصائد التالية: المكلا /سيئون / الشِّحر / شبام/ دُوعَن /عِيْنَات.
-    القسم الثاني جاء تحت عنوان (عبق المهد) ويضم القصائد التالية: ابتهالات المنازل الأولى/ نخلة الروح/ مهد البهاء/ المحضار.. مئذنة الأبد/ ياورد.
-    القسم الثالث جاء تحت عنوان (على الحصون أقتفي طللاً) ويضم القصائد التالية: الغُوَيْزي/ الرناد / ترصيع على رايتين/ همزة قَنَا.
-    القسم الرابع جاء تحت عنوان (تجلّيات حضرميّة) ويضم القصائد التالية: حضرموت/ مدونات الحضرمي في هجرته شرقاَ/ القنيص/ توقيع حضرمي.
يفتتح الشاعر ديوانه بقصيدة المكلاّ، المكلا عند الشاعر مدينته، عشقه الأبدي والأزلي. فهو يرسم مشاهد سينمائية بارعة، وصوراً متحركةً متعدّدة اللقطات والأبعاد.
•    المشهد الأول: صور وصفية لمدينة المكلا، جماليتها وسحرها الخلاّب. فالشاعر يتساءل: من أين الدخول إليها؟
للمكلاّ حديثٌ مليءٌ بإغرائها
والهوى باسطٌ لي جناحيه
من أين أدخل؟
من جهة البحر..
حيثُ سفائنُ عشقي ترسو
على مرفأ السحر..
يبهرني زهرُها اللؤلؤيُّ
الذي يتقطّر من واجهات البيوت..
أدرّبُ نفسي كطيرٍ..
أمرّ على الشرفاتِ..
وألقي السلامَ..
وأنقشُ حلميَ فوق الستائرِ عشقاً
أبلّلُ قلبي..
بما سكبتْه الجميلةُ في المزهرية عند الصّباحَ
وألتفُّ بين شعاع العيون
الّتي وشْوشتْني بشيء
•    في المشهد الثاني: لقطة توضيحيّة مقرّبة، يؤكّد فيها الشاعر خصوصية ومكانة هذه المدينة، لا يمرّ بها غير مَنْ عشقها ومَنْ أحبها. الشاعر هنا يتنفّس بطيب عطرها، وورودها:
للمكلا دروبٌ خصوصيةٌ
لا يمر بها غير عشاقها
وأنا في زقاق الهوى سائرٌ
أتنفّسُ بالطيب من كل فاتنةٍ
وردةٌ رشقتني بها..
أدخلتني إلى غزل الخور..
قلبي على الجسر..
يسألُ.. كيف تقيسُ المياهُ حداثتها
بالمعاني الرقيقة في الشكل..
كيف نُطبّعُ أحلامنا البشرية..
من قبلةٍ هيّأتنا مواعيد..
في غزل الخور
قلبي على الجسر
علّق قنديله
ليضيء الكلام الذي يتحلّقُ حولي
وأقتبسُ الكلمات التي تتوهّج من شاعرٍ..
كي أقدّمها للنساء اللواتي
نقشنَ على الماء حنّاءهُن
وسرن مع الماء زغردةً
من تهيئ وثبتها الآن؟

وفي قصيدة (سيئون) منمنمة أخرى من منمنمات حضرموت، درّة فريدة لمدينة عريقة موغلة في التاريخ:
على رجع طيف
وقفتُ
وصاح بي القلبُ:
هذي منازل أهل الهوى
ومقام الصبابة والوجد..
هذي سفوح التي في مدارجها
تنبتُ الأغنيات بما يملأ الوتر المترنّم
فوق مدارات فاتنة الروح..
سيئون.. سيئون
هل أحدٌ قبل سمّى النساء بسيئون؟
هل أحدٌ قبل أعطى لها لقباً عالياً؟
ترتديه، يليق بها
ونقول لها:
أنتِ سلطانةٌ لجميع النساء.
وفي قصيدة (شبام) يقف التاريخ شامخاً لأقدم ناطحات سحاب في العالم:
في مدائن دنيا العجائب..
تعلنُ:
إن المدائن منذ القديم شبام
وتدخل في ملكوت التراث
وتشتمّ في عبق الطين
إيوان صورتها
هنا الطين يستنطق الطين
من عبروا قبلُ
من يعبرون هنا بعدُ
إن السماء يشكلها الحضرميّ
سماءٌ جديدة.

وفي قصيدة (ابتهالات المنازل الأولى) معلّقة عصماء تتوسط عقد المنمنمات، وهي قصيدة عمودية على بحر البسيط. القصيدة تذكّرنا بمجد الشعر العربي الغابر. عدد أبياتها أربع وثمانون بيتاً، قالها الشاعر في مدينة تريم التاريخية، وهي مسقط رأس الشاعر:
غنّاءُ جئتك محمولا على زمنٍ
ولوعة الوجد والأشواق تُضنينا
يشدني العمر.. هذا العشق خارطتي
حملته حُلُماً يشدو أغانينا
القيتُ نفسي حنيناً في عواطفها
من أين أعبر كي أُلقي مراسينا
في البال أشرعةٌ مدّتْ تذكّرها
وأبحرتُ في اتجاهٍ ظل يغرينا
وجّهتُ وجهي سلاماً(حُوطتنا)
هنا الخشوع تحيّات المحبينا
هنا منازلُ أجدادي الألى سكنوا
بهم تباهت على الدنيا مغانينا.
القصيدة تحفة الشاعر جنيد محمد الجنيد، وهي بحاجة إلى دراسة مستقلة، أرجو أن تتاح لي فرصة لدراستها مستقبلاً، وقصيدة (حضرموت) تبلغ قمّة الذروة عند الشاعر جنيد محمد الجنيد، فإذا كانت قصيدة (ابتهالات المنازل الأولى) جوهرة العقد في المنمنمات؛ فإنّ قصيدة (حضرموت) قلبها النابض، وهي بحاجة- أيضاً- إلى دراسة مستقلة.
قصيدة (حضرموت) هي التاريخ، والحضارة، والجغرافية، والمعالم الأثرية، الفنون، والجذور، والأخلاق. إنها منمنمة لتاريخها الذي لا ينضب أبدا. القصيدة جاءت على تفعيلة الكامل (متفاعلن):
أمشي على الدرج المرصع باللغات
وما تقول مشاغل الفصحى
أقصّ تحيّتي
لمنمنمات القلب
والمعنى المخبّأ في ندى الصلصال
والجبال المزخرف بالصدى
أمشي فتنفتحُ الحقول على رعاةٍ
سوّروا أجسادهم بالوشم
وارتسموا على طلل العصور
عادٌ هنا عبرت
فقف كي نطرق الزمن الذي
بُنيت على أبعاده ذات العماد،
أبراجها نضبت من التصفيق،
غطّى الريحُ أيقوناتها، ظلّت تفتّشُ
في ثقوب رمالها
عن جنةٍ طمست على مفتاحها
هل بئر برهوت العتيقة
تستدلّ على انبثاق السرّ
في من جاب في صحرائها
هل هندستها النار وامتزجت
بقاياهم على كبريتها
عادٌ هنا عبرت
وهودٌ قبره العملاق
ترجم ما مضى
مرّ السديم على خطى أطرافه
وحكى عن الأحقاف
والصفة القديمة والرياح
وشارة العرب الأوائل
والجهات البائدة..
كم صيغة عبرت هنا
لنطل من أفقٍ ويفهمنا الكلام الأوّلي
كم صيغة عبرت
ترتّب طيفنا المسكوب بين سلالم
الماضي وحاضرنا البعيد
كم صخرة فاض الحنين بجوفها
فتفجّرت فينا
نرتّلُ ماءها
اسماً تألق في النبوءة:
حضرموت.
في القصيدة أربع حركات، أو مقطوعات، في كل مقطوعة تأتي لازمة حضرموت.
أما عن البنية العروضية في الديوان، فالحقيقة أن د. الشاعر جنيد محمد الجنيد من أبرز شعراء الالتزام- كما قلت سابقاً- والمجدّدين في البنية العروضية. فعلى سبيل المثال استخدام الشاعر لتفعيلتين في البحر الواحد، خاصة عندما تصاب التفعيلة الأولى بالخزم، وهو عند العروضيين (زيادة حرف في أول الجزء أو حرفين أو حروف من حروف المعاني).
ففي قصيدة (المكلاّ) الشاعر بناها عروضياً على تفعيلة المتدارك (فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن) خمس تفعيلات في السطر الأول:
للمكلا حديثٌ مليءٌ بإغرائها
السطر الثاني مدوّر على أربع تفعيلات
والهوى باسطٌ لي جناحيه..
فاعلن فاعلن فاعلن فاع
الحقيقة أن القصيدة كلها على بحر المتدارك. لكن إذا أردناها على بحر المتقارب (فعولن) ستكون القصيدة على النحو التالي؛ أي من بداية السطر الأوّل حتى نهاية القصيدة:
للمكلا حديثٌ مليءٌ بإغرائها
_/ ب--/ب--/ب--/ب--/ب-
فع/ فعولن/فعولن فعولن فعولن/فعو
التفعيلة الأولى (فع) مصابة بعلة الخزم، وهو زيادة حرف كما قلتُ سابقاً. فالقصيدة كلها تعطينا تفعيلة المتقارب، ولا ننسى أنها مدوّرها. هذه النوعية استخدمها الشاعر الجنيد في قصائد أخرى كنتُ قد قرأتها من قبل.
لقد جاءت قصائد الديوان على البحور التالية:
المكلا= المتدارك والمتقارب
سيئون= المتقارب
الشحر= الكامل
شبام= المتقارب
دوعن= المتقارب
عينات= المتقارب
ابتهالات المنازل الأولى = البسيط
نخلة الروح= المتقارب
مهد البهاء=الكامل
المحضار مئذنة الأبد = المتقارب
يا ورد = المتقارب
الغويزي = المتقارب
الرناد = الرمل
ترصيع على رايتين = المتدارك
همزة قنا = المتدارك
حضرموت = الكامل
مدونات الحضرمي في هجرته شرقا = الكامل
 القنيص = المتقارب
توقيع حضرمي= المتقارب.
واضح جداً أن الشاعر استخدم خمسة بحور من بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي:
استخدم المتقارب 10مرات
استخدم الكامل 4 مرات
استخدم المتدارك 3 مرات
استخدم البسيط مرة واحدة
استخدم الرمل مرة واحدة.
القصيدة الشعرية عند الشاعر جنيد الجنيد-كما اسلفت- قصيدة الالتزام، والنموذج الشعري، هو بمنزلة رؤيا الشاعر.. الشاعر الذي يجسّد رؤىً متعددة، فالشاعر المبدع هو الذي يخرج لآلئ متنوعة من أعماق أعماق الوجدان، فالشعر الذي يهزّ المشاعر، ويطرب الوجدان، ويحلّق في فضاء عال، هو أنموذج القصيدة الحالمة التي تعتز وتعتدّ في نفسها.
إذن الجنيد حالة شعرية جنوبية لا تتكرر، يهندس الشعر وفق مفهوم ميتافيزيقي. إنه يفتح لغة جديدة، ولكنّها ترتكز على إرث وجذر يسكناه منذ أن وطئت قدماه أرض الشعر.. القصيدة عنده جمالية لها أبعاد سياسية ووطنية، ورثائية. الهم الأكبر عند الشاعر الجنيد هم الوطن، وهي القصيدة الأولى في أكثر أعماله الشعرية، أما عن اللغة، فإنها هي الأخرى لغة منتقاة من تفاصيل الحياة اليومية، ولكنّها لغة راقية هي الأخرى، تقدّم نموذجاً التزامياً، بعيداً عن الحوشي، والتّقعر.

 







شارك برأيك