
تطل علينا الذكرى 33 لأحداث يناير وسط جدل بين قيادات جنوبية منهم من يرى أنه من المنطقي دفنها وتناسيها فمن الغباء إعادة ذكرها وتبريرها أو التبرؤ منها وتحميلها آخرين، فيما يرى آخرون إن علينا أن نبحث عن أسبابها الحقيقية إذا ما أردنا أن نخرج من مأزق استحضار خصومات الجنوب وإسقاطها على مشاكل اليوم التي لها أسباب أخرى مختلفة. أي كان الرأي فإن أحداث يناير تبقى في ذاكرة الجنوب مشتعلة ولن يخمدها أو يطفئها سوى تقديم تحليل واقعي بأبعادها السياسية والاجتماعية وتحديد الجهة التي استفادت منها واستثمرتها ولا زالت تستثمرها إلى يومنا هذا لاستخلاص الدروس والعبر لأجيالنا القادمة.
نقطة سوداء في تاريخ الجنوب:
مذبحة يناير فكرتها مأخوذة من مذبحة القلعة أو مذبحة المماليك وهي واقعة شهيرة في التاريخ المصري دبرها القائد العثماني محمد علي باشا للتخلص من خصومه من المماليك يوم 1 مارس 1811 أي قبل ثلاثة قرون من يومنا هذا، لكن بالرغم من المساوئ التي ارتكبها المماليك، فإن وسيلة الغدر أمر تأبآه الإنسانية، ولو أن محمد علي باشا استمر في محاربتهم وجهاً لوجه وتخلص منهم في ميدان القتال لكان ذلك خيراً له ولسمعته. ظلت مذبحة القلعة نقطة سوداء لم تجد تبريراً قوياً حتى من أصدقاءه والمدافعين عنه بالرغم من الانتصارات والانجازات التي حققها محمد علي باشا. على العكس من ذلك فإن مذبحة 13 يناير لم تأت على مرتكبيها سوى اللعنة والعار بالرغم من أن خصومهم ليس بحجم عدائية محمد علي باشا للمماليك بل على العكس فقد كانوا على وشك الوفاق والتوقيع على اتفاق حيث كانت مطالبهم متواضعة وهي سحب بعض المناصب من رئيس الجمهورية الذي كان يجمع كل السلطات، أي أن الكل كان مطمئن لولا المفاجئة التي لم تكن في الحسبان. وبالرغم من أن النصر لم يحالف مرتكبيها لكن ذلك لا يشكل فرقاً فمذبحة القلعة ويناير لا زالت ذكرياتها ماثلة في التاريخ بالرغم من مرور ثلاثة قرون على تنفيذ الأولى بينما لم يمر على تنفيذ الثانية سوى ثلاثة وثلاثون عاماً. وفي كل الأحوال مثلث مذبحة يناير أيضاً بقعة سوداء في تاريخ الجنوبيين وللأسف استغلتها قوى الاحتلال في معايرة الجنوبيين واتهامهم بالنقص وعدم القدرة على حكم الجنوب ويقصدون أنه لولا الوحدة لأستمر الجنوبيين في الاقتتال فيما بينهم، وهذا الاتهام يدفعنا إلى البحث والتحليل في حيثيات المذبحة وأسبابها ومن كان يقف خلفها.
الطموحات الاستعمارية لاحتلال الجنوب:
كان من ضمن الاعتراضات على الوحدة هو كيف يمكن التوحد مع نظام طائفي رجعي يمزج بين القبلية والكهنوتية الدينية يحكم بالقمع والدكتاتورية والعنصرية، هذا النظام تم تأسيسه على أكتاف الطائفة السنية وتحديداً الشوافع، فكلنا يعلم أنه عقب هزيمة الدولة العثمانية وخروجهم من اليمن بعد الحرب العالمية الأولى 1914، تسلم الحكم في الشمال الإمام يحيى بن حميد الدين ولتثبيت حكمه أول حاجة عملها هو الزحف صوب اليمن الأسفل (إب – تعز – الحديدة) وشن حروباً ضد سكانها واكتسح مدنها، وبالرغم من أن مشايخ وأعيان هذه المناطق اعلنت الولاء والطاعة للإمام منذ الوهلة الأولى لتأسيس المملكة المتوكلية إلا أن الهدف كان إذلالها وإخضاعها تحت نفوذهم. وحدث الشيء ذاته بعد الثورة وتحديداً بعد اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي تمثل بالاحتلال الثاني وعودة الملكية ولكن بلباس جمهوري وكانت نتيجة ذلك الهيمنة الاقتصادية على الثروات والموارد الزراعية والحيوانية والاستيلاء على الأراضي وكل مفاصل الدولة وتحول اليمن الأسفل إلى عبيد في خدمة الطائفة الزيدية. وقد كان هولاء يتطلعون للسيطرة على الجنوب العربي إذ أنهم يعتبروننا فرعاً من أملاكهم لابد من استرداده والاستحواذ على ما يزخر به من ثروات. ولظروف موضوعية وذاتية ناتج عن الاحتلال البريطاني لم يتمكنوا من التقدم نحو الجنوب العربي لكنه ظل هاجساً ومطمعاُ لهم إلى أن جاءتهم الفرصة بتنفيذ أول مخطط استعماري لهم بأحداث 13 يناير وما تلاها.
ارتباط نظام صنعاء بمؤامرة 13 يناير:
تضمن تصريح محمد علي أحمد الأخير اعترافا واضحاً غير قابل للتأويل في أن عفاش كان على صلة بأحداث يناير حينما قال لعفاش: "من المستحيل أن نغادر ونحن الذين حققنا الوحدة ودفعنا الدم في سبيلها 13 ألف شهيد في 13 يناير 1986، لقد ضحينا بأفضل الرجال من اجلها، وتريدنا اليوم أنت والبيض أن نخرج من اليمن، ويضيف نحن الذين دفعنا الثمن نخرج مطرودين من الوطن، فهذا هو المستحيل بعينه ولن نخرج من صنعاء إلا أشلاء ولن نخرج كما تريدون". طبعاً هذه اللهجة كانت مصحوبة بالحرقة والندم لأنهم كانوا يتوقعون مصيراً أفضل من هكذا بكثير ولكن عفاش لم يكن يعبأ بكل ذلك فقد استخدمهم وأخذ الذي يريده، ولن توقفه عن مشاريعه مثل هذه البكائيات. بعد أحداث يناير وجدت قوى الاحتلال أن الفرصة سانحة لضم الجنوب تحت شعار الوحدة التي نتج عنها صراعات داخلية، بالإضافة إلى انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي التي كانت تساند نظام عدن، واستغلت أحداث يناير في سعيها الدائم لبث الكراهية ونشر الضغينة وإشعال نار الفتنة بين أطياف المجتمع الجنوبي لإضعافه أكثر وأكثر تمهيداً للانقضاض عليه وافتراسه. وواضح إن عفاش بعد الوحدة استطاع أن يوهم فريق الزمرة أن الطغمة لا زالت في عدائها لهم ومستمرة في اقصائهم، وقد وعدهم وهذا كان حديثاً مسرباً لعفاش إنه قال: هؤلاء أي الطغمة لن يأخذوا مني أكثر من ستة أشهر أي أنه لم يكن جاداً في الوحدة بل كان منتقماً ومتشفياً من النظام الجنوبي والذي كان قد قضى نحبه وأنهكت قواه المؤامرات الداخلية والخارجية، فأول شيء باشره بعد الوحدة هو سلسلة الاغتيالات لكوادر الجنوب وهم من تبقوا من احداث يناير، أما الإجراء الثاني الذي أتخذه عفاش فهو نقل جزء فاعل من الجيش إلى المحافظات الشمالية وانهياره ثم جاءت الضربة القاضية وهي غزوة 1994م الذي كان مخططاً لها من قبل، وقد ساعده في ذلك الزمرة الذين أصبحوا طوع أمره بعد أن أدخل في عقولهم روح الانتقام وما كان يسمى بالخيانة للجنوب تخيل لهم إنها حرب من أجل الوحدة.
نهج الإقصاء ولعبة عفاش الشيطانية:
تتحجج زمرة يناير دائماً بأن طرف الطغمة يمارس عليها نهج الاقصاء لتبرير ارتماءها لأحضان عفاش ولكن وقائع التاريخ كانت عكس ذلك تماما فقد تمت الموافقة على عودة كثير من الذين نزحوا إلى الشمال مع ترتيب أوضاعهم في نفس المواقع القيادية التي كانوا فيها قبل أحداث يناير، لكن عندما شعر عفاش بهذه التفاهمات لعب لعبته الشيطانية بتصوير الأمر للزمرة بانه غير مرغوب بهم في صنعاء حسب طلب الطغمة، أي أن عفاش لم يكن في مصلحته أي تقارب بين الأخوة الأعداء وأراد أن يستمر الفراق والقطيعة بينهم حتى يتحكم بهم ويستثمرهم في مصلحته. ومع ذلك بعد الوحدة عادت كل القيادات إلى مناصبها القيادية (مكتب سياسي ولجنة مركزية) وهم بالعشرات، غير أن البعض عاد إلى حزب المؤتمر الشعبي العام ومنهم محمد علي أحمد وهذا يشير إلى تقاربهم القوي مع عفاش وقبولهم الحكم الدكتاتوري الذي ينتهجه عفاش. أي باختصار لم يكن هناك إي إقصاء بل على العكس فإن الحزب فتح ذراعه واستوعب كل الراغبين في العودة دون شروط. لكن المؤسف في الأمر أن الرئيس علي ناصر أخذ اطروحات عفاش محمل الجد والثقة والصدق ولم يتفحصها وهو المعروف بذكائه السياسي وأصبح بعدها يترأس أكبر مؤسسة دراسات وبحوث سياسية مما يتطلب الامر منه الطرح الموضوعي والتحليل العلمي لأحداث يناير أكثر من الاستمرار في طرح موقف سياسي وتبرير أعمى لأفعال تحتاج إلى تمحيص وتدقيق وعدم الانجرار إلى مكائد وفتن عفاش المعروف عنه بالرقص فوق رؤوس الثعابين.
من له مصلحة في التأسيس لدورات قتال بين الجنوبيين:
أجمل ما قرأت في تشخيص وتحليل لأحداث يناير كان من قائد القوات البحرية الجنوبية أحمد عبد الله الحسني والذي يرى إن الخطر يكمن في انكشاف الجنوبيين أمام الأجنبي والتأسيس لدورات قتال وحروب داخل الجنوب يمكن للأجنبي توظيفها لتنفيذ مخططاته التي لا يعلمها من يتخذه حليفاً للجنوبيين، ويضيف أن الأجنبي أسس لألحاق الهزيمة بالجنوب في حروب 1986، 1994 و2015 وحتى اليوم لا يزال هناك من لم يفطن ويستوعب ذلك الخطر حتى اليوم، ويقول أيضاً الأمر المحزن إن ما قرأته هنا لقيادات جنوبية فاعلة ومجربة تساهم في التسطيح والتضليل وتنساق في كتابات تكرس لخدمة الأجنبي ولا تنتبه إلى الخطر الحقيقي مبتعدة عن الوقوف أمام جوهر ومضمون نهج عدواني اتبعه أعداء الجنوب في مراحل سابقة وحتى اليوم كانت ولا زالت سبباً في ما حل ببلادنا وشعبنا من كوارث ومآسي. وقد لاحظنا في تصريحه أن كلمة الأجنبي تكررت أكثر من ثلاث مرات وهو وإن لم يقلها صراحة فقد كان يقصد نظام صنعاء الذي استثمرها في الشقاق بين الأخوة الأعداء لما فيه مصلحة الطائفة الزيدية وهي المستفيدة من كل المخططات والمؤامرات التي تعرض لها الجنوبيين من الاستقلال الناجز في ثلاثين نوفمبر. والواقع إن توصيف الزمرة والطغمة فهي ليست من صنيعة الجنوبيين ولكنها من صنيعة اللوبي الشمالي الذي كان يعمل على تقسيم الجنوبيين منذ الاستقلال فقد قسمونا إلى يمين انتهازي (قحطان وجماعته) ويسار انتهازي (سالمين وجماعته) والزمرة (علي ناصر وجماعته) والطغمة (البيض وجماعته) وواضح إن الهدف كان شق الصف الجنوبي وزرع الفتنة والقطيعة والاقتتال فيما بين الجنوبيين لتسهيل انقيادهم وهذا ما فعلوه واستحكموا فيه، وما كانت الوحدة إلاَّ شعاراً براقاً لتنفيذ احتلالهم الطائفي.
محاولات استنساخ أحداث يناير واستغلالها لمصلحة قوى الاحتلال:
أبقى عفاش على بعض رموز الزمرة من الذي انخرطوا للتبعية معه ليكونوا تحت الطلب لاستكمال مشروعه التآمري وإخضاعه كما فعل مع اليمن الأسفل. وجاءت ساعة الصفر في غزوة 1994 كما يسمونها واستخدمهم عفاش لتسديد طعنات الغدر والخيانة للجنوبيين تحت وهم الانتقام ليناير مع أنهم مرتكبيها وقدموا له الجنوب على طبق من ذهب وكان المقابل كما في كل مرة بعض الامتيازات والمناصب والوظائف الحكومية الشكلية لأنهم كانوا مجرد كمبارس أي مسئولين مع وقف التنفيذ ومنهم الرئيس هادي الذي عين نائباً لعفاش مكافأة لدوره في غزوة 1994 ولكن في حقيقة الأمر لم يكن سوى رهينة وكان عملياً تحت الإقامة الجبرية يتم تحريكه مع جماعة الزمرة عند الطلب. واليوم نشاهدهم يقومون ويكررون نفس الدور ولم يستفيدوا من الدرس، فالمشكلة ليست في رفض الآخر والنضال لشطبه من الخارطة السياسية، ولا هو نزوات الاستحواذ والهيمنة وفق لون جغرافي واحد أكثر منه سياسة، ولا هو إقصاء للآخر كما يتوهم البعض الذين وقعوا في فخ ودوامة عفاش الشيطانية والتي جعلتهم مشلولي الإرادة غير قادرين على التفكير السوي والمنطقي. فالمشهد الذي يتكرر اليوم مع الميسري والجبواني ليس هو نفس المشهد القديم لإن اسقاط أحداث يناير على ما يجري اليوم من مواجهات بين قوات الانتقالي و(الميسري والجبواني) ما هو إلا محاولة استنساخ لتكرار مشهد المواجهة وتصويرها بانها جنوبية جنوبية وهي من صنيعة قوى الاحتلال الشمالي بامتياز وهي التي تقف خلف هذه العملية في انتظار أن يقدما لهم رأس الجنوب وفي الأخير ستكون مكافأتهم بالكثير 30 ألف أو ربما 100 ألف دولار واختيار أي دولة للعيش فيها فأمثال هولاء لا مكان لهم، فشعار الوحدة الذي يقاتلون تحت رايته ما هو إلا وهم ولم يعد مقبولاً إلاَّ للأغبياء وأنصاف المثقفين أمثالهم. جميل أن يختم بعض القيادات الحديث عن التصالح والتسامح بين الجنوبيين ولكن لن يكون ذلك مثمراً ما لم تعود هذه الزمرة إلى حضن الجنوب وتقف بحزم أمام أي محاولة لإعادة احتلاله.