انتابني قهر شديد، وأنا أرى الليل يتسلل من بين أصابع النهار، والضوء يتلاشى بسرعة، ليدلهمّ ذلك الليل الحالك، مع تقدم خطوات العدو الحوثي العفاشي في أرض الجنوب .
كنت أنظر السماء فلا أرى غير الظلام، وإلى الأرض فلا أرى إلا الجحيم، وإلى اليمين فلا أشاهد غير القهر، وإلى اليسار فلا أشعر إلا بالمهانة.
خرجت إلى الشارع، في قلب ردفان الثورة بمدينة " الحبيلين "، فرأيت وجوه الناس مشدوهة مما يجري، قرأت في أعينهم مستقبلاً مظلماً، إن لم يكن تحت حكم المليشيات العدوانية الإجرامية، فمستقبل القتال والدم الجاري في الشوارع أنهاراً وشلالات.
لا أدري كيف أصف ما كان يجري، وما يقوله الناس، وما يختلج في أذهانهم؟!.. لكن الشيء الوحيد الذي كنت أدركه، أن عقلي لم يستوعب، كيف ستكون حياتنا وأيامنا القادمة في الجنوب، في ظل حكم مليشيات قادمة من أدغال الكهوف ومنابع أفكار ضرب الأجساد والنواح في الشوارع ندماً على قتل الحسين بن علي؟!.
يومان - " 25 و26 مارس من العام 2015 " - كانا يمران علينا كما لو أننا نعيش لحظات في جهنم ، وخاصة عندما اجتازت المليشيات العدوانية الحوثية كرش لتصل إلى معسكر العند بسهولة، وتتقدم صوب العاصمة عدن.
لحظات قاهرة وصعبة، لا أعتقد أن هناك أكثر منها شدةً وقهراً وألماً، حيث الأحداث تتسارع، وتجعل من الجنوب فريسة سهلة لمليشيات قادمة من أقصى شمال اليمن وكهوفه البدائية، لتسيطر على الجنوب المروي بدماء طالما دفعها شعب الجنوب ثمناً للحرية.
شخصياً، في حياتي لم أعش ولم أشهد أقسى يومين وأصعب لحظات وأكثرها ألماً، مثل تلك اليومين، التي لولا الله أولاً ثم "عاصفة الحزم" لكان "قهر الرجال" عنواناً لحياتنا القادمة المؤلمة، في وقت كنا ننتظر فيه أن نعيش الحرية التي نناضل من أجلها ضمن شعب الجنوب سنوات ونقدم التضحيات في سبيلها.
لقد حكيت كثيراً في العامين الماضيين، عن لحظاتي القاسية التي عشتها آنذاك، تلك اللحظات القهرية التي عرفت فيها حقيقة ماذا يعني الوصف القائل " قهر الرجال"، ولا أعتقد أن هناك كلمات وألم يمكن أن أعبر من خلاله عن حالتي تلك، والتي قد تكون مطابقة لحالات غالبية الجنوبيين.
تغيراً مدهشاً ومفاجأة تاريخية، تلك التي أحدثتها "عاصفة الحزم" في نفوسنا، بعد يومين فظيعين ومؤلمين وحزينين، مع تقدم جحافل العدو الباغي ومليشياته، واجتيازهم الحدود الجنوبية ويسقِطون مناطق الجنوب واحدة تلو أخرى.
تفاصيل تغير ألمي إلى أمل..
جاءت عاصفة الحزم، وأنا في غرفتي كالميت الحي، جثة لا حراك بها، إلا عينين تقلب أنظارها بين التلفاز وجدران وسقف الغرفة.
لحظات كنت فيها، مبعثر الأفكار، مشتت الذهن، مقهور الحالة، مبهور العينين، مكسور الخاطر، وجاءت (عاصفة الحزم) كأنها ملاكاً أرسله الله لي ولكل جنوبي، ليعيد لنا الأمل والحياة.
كان التلفاز أمامي، ولأني لا أريد أن أسمع شيئاً، فقد أخفضت صوته للنهاية، رأيت مربعاً أحمراً أسفل شاشة التلفزيون " قناة العربية "، حاولت أن أقرأه، لم أستطع أن أقراً غير "قصف جوي". أعدت القراءة مرة أخرى للخبر العاجل، ولكني لم أفهم محتواه نتيجة المفاجأة وعدم استيعابي فهم شيء غير القهر الذي يسكنني منذ يومين.
مرة ثالثة ورابعة، قرأت العاجل على الشاشة، بدأت أفهم ما فيه، يقول أنه "قصف جوي يستهدف مواقع ومعسكرات المليشيات الحوثية، والقصف هذا من الطيران السعودي" .. ماذا؟!! ..
أتذكر بأني ابتسمت، لكنها بسمة ليست كأي بسمة، بل بسمة غرابة واندهاش، ولسان حالي يقول: ما الذي يجري؟ ربما أخطأت القراءة وقرأت عبارة أخرى ففهمتها بما تريد نفسي أن يكون!.
أمسكت ريموت الرسيفر ببطء ، أقلب قناة تلو أخرى، وأقرأ نفس العاجل ونفس الحدث، هرعت نحو النافذة لأرى ما يجري، لم أشاهد إلا الليل مدلهم الظلام والصمت يخيم على الشارع العام بردفان، كما لو أنني في مقبرة!.
ماذا أقول؟ وكيف أعبر عن فرحتي؟، اقتحمت غرفة أولادي، وأيقظتهم من النوم، وكانت الدموع تنهمر من عيوني، تقول لي " أم محمد" : " مالك أديب؟! .. تعوذ من الشيطان! ".
لم أستطع أن أرد عليها، ألصقت وجهي بالدولاب العريض في الغرفة، والدموع غزيرة، وآهات الراحة التي لم أشعر أنني قط قد شعرت بها، تشق أضلاعي لتخرج مني، كأنها حمماً بركانية كانت جاثمة على صدري.
تواصل "أم محمد" تلاوة التعويذة، وهي تقول : " أيش في؟! مالك أديب من مات؟!.. أيش حصل؟!" .. وبدأت عبرتها تخنقها، والدموع تزغلل في عينيها، خوفاً من أن يكون شيئا ما قد حدث..
فجأة نظرت إليها، وأنا أبتسم والدموع في عيني، لا أدري ما الذي اعتقدته حينها، ربما تظن أنني " جننت " أو أصبت بـ"مسّ" من الجن.
قلت لها: " يا الله .. يا الله.. الله أكبر" .. قلتها وأنا أمسح جبهتي وعينيَ بيدي.. مواصلا القول: " الحمد لله رب العالمين، لقد تدخل طيران السعودية ودول الخليج ومصر، لضرب الحوثيين، وهو الآن يقصفهم في كل مكان، لقد نجونا من الظلام والقهر والعبث الذي سيجلبه لنا الحوثيون في الجنوب".
قالت لي: "كيف يعني؟!" .. جثمت على ركبتي، أقبل ولدي محمد الذي كان شاخصاً ببصره نحوي، كما لو أنه يتساءل : ماذا يقول والدي.. ولماذا يبكي مثل الأطفال؟! ..
قلت لها: " يعني سننتصر.. سينتصر الجنوب أخيراً، بفضل الله ثم بفضل الطيران، والجنوبيون لن يتخاذلوا أو يصيبهم اليأس بعد الآن.. سننتصر.. سننتصر.." ، خرجت من الغرفة عائداً لغرفة المجلس التي كنت أقعد فيها وأنا أردد " سننتصر..".
أخذت تلفوني، وبدأت بالاتصالات المتتالية، والدي أولهم، أيقظته من النوم، وكذلك خالي الشيخ عبدالرحمن أبو أنس، الذي أطلق تنهيدة من صدره شعرت كما لو أن جبل أُحُد كان جاثماً على صدره، ومن ثم الزميل ياسر اليافعي، الذي لم أخبره ما حدث وإنما طلبت منه فتح " قناة العربية "، فشعرت كما لو أنه يقول في نفسه : دعني وشأني الآن ، لا تزيدني قهراً .. فقلت له : "الطيران يقصف الحوثيين يا ياسر، تغير المشهد وسننتصر بإذن الله" ..، ومن ثم العم سعيد ثابت اليافعي، وهكذا لم يتوقف تلفوني حتى السابعة صباحاً، كما أعدت فتح الإنترنت لأحتفل بهذا الحدث على الفيس بوك وأتابع نشر الأخبار بموقع " يافع نيوز".
لقد غمرتني سعادة، كما لو أنني ولدت من جديد، وأنا أشاهد الليل الذي كان يتسلل إلى حياتي، يتلاشى حتى لو كان بطيئاً، لكنه حتماً كان سيرحل سيرحل.
صحيح، فقدنا أحباء وأقارب، وأصدقاء، وناشطين وقيادات، وكان الألم فضيعاً لفراقهم، لكن دماءهم لم تذهب هدراً، فقد كانت ثمناً لحرية أمة، وكرامة شعب، وتحرير وطن.
فرحم الله شهداءنا الأبطال، كلٌ باسمه، وتحياتنا لكل جريح بطل ومقاوم صامد في كل شبر من أرض الجنوب.
ولا أنسى الشكر الجزيل بعد الله تعالى لـ" عاصفة الحزم " وقائد عاصفة الحزم " خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز" وكل قيادات دول التحالف العربي قيادات وحكومات وشعوباً.