" قهوة المساء "
الأمناء نت / فاطمة سالم المحروقي :

كثيراً ما سمعت بفجرَ الظلام ، بقهوة الصباح ، و نور المصباح .. لكن لم يمرّ على مسامعي أبداً ( قهوة المساء ) ..
في الواقع أنا ابتكرتُها ، قهوة المساء لم تكُن عادة يفعلها أي بشري سوى اولئك المرهقون اولئك الكئيبون المزعمون على السهر ليلاً ،الملهمون بكل تفاصيل السماء ، الليل و القمر .
الخائفون من النوم كي لا تنهمل عليهم لعنة الذكريات مقابل الواقع الأليم .
خليل ، ذا التاسعة والعشرون ، طويل القامة
أسمر البشرة ، ذا شعر أسود و لحية كثيفة ، وعينان خضراوتان تماماً كالنعناع ، شاب ذكي جداً ، و مُبتكر " قهوة المساء " .
تعرفت بخليل أثناء دراستي في قسم المختبرات ، حيث كان أحد طلاب الصف .
هو لم يكن كأحد مننا بل كان غريباً نوعاً ما ، بالرغم من ملامح الغرور و الأناقة التي تبدو عليه منذ أول لقاء .
هادئ جداً و انطوائياً ، حيث كان يحضر معنا في كل يوم يستمع للمحاضرة لا يسأل كثيراً ، ويقوم بالتطبيقات التي عليه في المختبر ، و عند انتهاء الدوام يغادر سريعاً ، يكاد ألا أثر له .
يوماً بعد يوم شخصيته شدّتني للتعرف عليه أكثر بالرغم من انني في بادئ الأمر كنت اسخر منه امام صديقاتي ، لكن أصريت ان اخلق حوارات معه و إن كانت قصيرة .. 
في الأيام المقبلة وضع أستاذي تحدّي لنوع من انواع الادوية بحيث ان يعمل الطلاب في مجموعة وبالصدفة كنت و خليل في ذات المجموعة ، ف كانت تلك هي الفرصة المنتهزة ليتسنّى لي الحديث معه ، لحظتُ في كل مرة اتحدث بها معه شيء جديد في شخصيته او ربما فجوة تقودني لمتاهة اخرى مجهولة ،
تبعث بداخلي الكثير من التساؤلات المحيّرة نحوه .
لم يمر شهرين على دراستنا سوياً إلا و قد بدأ خليل بالتغيّب ، كان اول ما يشدني الى الصف عند دخولي ( طاولته و كرسيه ) .
لكن مضت ثلاثة ايام لم اراه فيها ، حاولت ان اسأل بعض الزملاء لعل احدهم قريباً منه اكثر مني .. لكن ما من جدوى لذلك .
سألت بعدها أستاذي ف أخبرني انه قدّم طلب إجازة لإسبوعين !
صُدمت حينها ، شعرت بوخزة في قلبي ، حتى جسمي بدأ يثلج برودة و يرتجف ، لم اعلم قط لِما اشعر بذلك ، بالأصح لما انا مهتمة به ، وقد كنت اناديه يوماً بغريب أطوار !
في اليوم المقبل أخذت رقمه و عنوان منزله من ملف الطلاب في المكتب ، و لما عدت لمنزلي بعثت له رسالة صوتية كان مفادها :
مرحبا خليل ! أنا ماري ، كيف حالك اممم لقد مرّ اسبوع على غيابك ، قلقت اقصد قلقنا عليك ، جميعنا .. خليل أرجو ان تردّ على رسالتي فور سماعك لها .
أغلقت بعدها هاتفي مع إني كنت سأطمئن برده عليّ ، لإنني خشيتُ لبرهة أن يخبرني بأنه سيغيب اكثر .
استمرَّ بالغياب حتى لم أحتمل اكثر من قلقي عليه ، ذهبت لمنزله ، طرقت الباب مرتين : خليل ، انا ماري هلّا فتحت ؟
ف لما فتح لي لم أصدق تلك الهيئة التي رأيته بها ، ملامحه الشاحبة ، الاحمرار في عيناه ، السواد تحت عيناه .
ارتبكت للحظة : خليل ! ما بك ! ، و رفعت يدي للحظة لأربت على كتفه ثم أنزلتها مسرعة ، ووضعتها خلف رأسي ، 
ماري : خليل هلّا تحدثنا ! 
خليل : تفضلي ماري ، قهوة ؟
ماري : في هذا الوقت ! لا لا شكراً لن استطيع النوم بعدها ، ايضاً لا تكثر من القهوة تبدو متعباً ربما تحتاج لأخذ قيلولة .
خليل ابتسم ابتسامة فاقدة للأمل ، كأنه يقول في نفسه : 
إن القهوة وحدها ملازمتني ، كيف اتخلى ؟!
بعدها سألتني ماري : لقد مر شهرين درسنا و عملنا بها معاً ، كانت امتع أوقات ، شهرين الا يكفي لتثق بي ! الا يكفي لتخبرني عما يمزقك إرباً من الداخل ! ماذا عن دراستك ستهملها ؟ لسبب مجهول ! أرجوك فِق !
خليل : ماري اولاً انا لا اعلم لِما انتِ مهتمة جداً ، ثانياً لا تقلقي من دراستي فأنا مهتم بها حتى وإن تغيّبت ف الدليل شهادتي . مرة أخرى لا داعي لتقطعي المسافات الطويلة من اجلي .
ماري : تعلم شيئاً انا أخطأت حين قلقت واتيت بنفسي لاطمئن على حالك ، انت بالفعل مريض و يجب ان تذهب لطبيب ليعالجك

- غادَرَت مسرعه و كانت في أوجّ غضبها و خبطت الباب بشدة حتى اخترقت الرياح قطع ملابسي . 
لم اكن اعلم ما ينبغي عليّ بالفعل ان اخبرها ، كنتُ قليل الحيلة ، كنت أخشى ان تلحظ مرضي ، لقد كنتُ اعاني من مرض نفسي و خلال تغيبي من الكلية كنت احضر جلسات مع الطبيب ، أأمل ان اتعافى قريباً .
بعد عدة سنوات تخرجنا من الكلية و نِلت بفضل الله درجة عالية ، ماري ايضاً .
لكن ماري لم تعد تحادثني ابداً و تفضّل ان تتحاشاني ما ان تراني ، كما انني علمت ب آخر فترة أن الكلل والمرض كان يكسوها ، والسبب كان حتماً أنا . انا لم استطع ان ارى ماري بحياتي سوى صديقة لكن قلقها و اهتمامها كانا يشعرانني كأنني قطعة من روحها .

بعد شهر تماماً من يوم تخرّجي قررت العودة الى موطني " سوريا "    لم اقابل ماري . فقط بعثت لها رسالة ورقية كان مفادها :
عندما كنتُ في السابعة بدأت الحرب تشتعل اكثر في سوريا ، كل يوم كنت ارى امامي اطفال بعمري يُقتلون ، وكبار في السن يتعذبون ، و شباب يستشهدون . الموت كان أمامي دائماً بل كان خليلي ، كنت انتظره صباحاً و مساءً ، اتذكر جيداً معاناة اهلي وخوفهم عليّ و على إخوتي ، و لما استطعنا الهروب و اللجوء الى بلدة العراق توفى امام عيناي والداي و إخوتي الصغار ، شاهدت كيف يلفظون انفاسهم الأخيرة ، شاهدت الموت يسرقهم مني ! كنتُ الناجي الوحيد من بينهم ! في الواقع أُصبت بحالة نفسية شديدة لم أعاني من الفقد في حياتي كلها كما أعاني الآن ، حاولت ان اتعالج اكثر من مرة و حضرت جلسات مع طبيبي النفسي ، لكن فقدي لأهلي إنتزع روحي ، ما من دواء يشفي سُقمي . كل انسان مننا  يعاني من حالة نفسية وأدناها تلك الحالة المسماه ب الفوبياء .
ماري ، كنتِ دائماً تهتمين كان حبك لي يسبق كلامك ، كان حبك لي يتدفق من عيناكِ كالماء العذب ، لم يكن قلبك الا ملكي ، و لم يكن قلبي الا سراب ! كان قلقك عليّ يذكرني كثيراً ب أمي  ، كان توبيخك لي يذكرني ب أبي .
أتذكر تماما توبيخك لي المستمر بشأن القهوة ، الا تعلمين انها رفيقتي ، ه‍روبي من مشاكل الحياة كان الى قهوتي ، حيثُ كنت ارتشفها صباحاً و مساءً لكنني كنت افضلها اكثر في المساء وهذا هو السبب لعلامات الأرق والسواد تحت عيناي .
ماري انا لم استطع ان افعل من أجلك شيئاً ، لإنني بالفعل جبان و أعترف بذلك ، لكن الشيء الوحيد الذي استطيع ان افعله هو ان اجعلك تعشقي القهوة .
القهوة تتطلب منك اهتماماً بالغاً عند تحضيرها و الا لن تستمتعي بجمالها و مذاقها ، احذري النار العاليه فهي سبب لثيران القهوة واشتعال الغضب فيها ، عليكِ بالنار الهادئة ، و عند إضافة حبات القهوة اغلقي عيناك واستنشقي كل حبة ، اغمريها بحبك ، لا تضيفي السكر ف حلاوة القهوة بنقاوتها ، كأنها تخبرنا ان نكون متفرّدين بأنفسنا ألا ندخل حبات السكر فينا ، أن نكون سادة بمعنى الكلمة . القهوة هي القوة ، هي الرفيق الوحيد لكِ ، هي السبب في تعديل مزاجكِ . بالرغم من ذلك هناك عيب واحد فقط بشأنها ، تُطِل الذاكرة ، كل الأحداث واللحضات التي لطالما أردنا نسيانها ، كان لمكوثها سبب هو القهوة .
مع خالص ودّي " خليل " 
لمّا إستلمت المكتوب و قرأته حرف حرف و كلمة كلمة كانت الدموع تنهمر مني كالسيل حتى اصبحت الرسالة ب أكملها معبأة بالدموع .
لم يلبث اسبوع الا وسمعت بنشرة الراديو صباحاً ب إستشهاد خليل في الجبهة المحاربة بسوريا .
لا اتذكر شيئاً سوى ذلك السواد الذي ملئ عيناي ب لحظتها ، و ذلك الدوار الشديد الذي من بعده فقدت توازني .
حتى أصبحت في تلك العناية المركزة بل غرفة الكابوس المظلم ، لا أعلم ما إن كنت في حقيقة أم سراب !

متعلقات
قصة قصيرة.. الأب المكافح والابن الشقي
قصة قصيرة..غزلان وغدر الزمان
قصة قصيرة .. الأميرة الضائعة وبائعة الصوف
الروائي اليمني "حبيب سروري" يفوز بجائزة "كتارا" للرواية العربية في دورتها الخامسة
صدور العدد الأول من صحيفة عدسة ردفان