أوجدت مآسي الحرب الدائرة في غزّة ولبنان سببا إضافيا لإطلاق المزيد من حملات التبرّع في العاصمة اليمنية صنعاء وباقي مناطق سيطرة الحوثيين الذين حوّلوا على مدى السنوات الأخيرة تلك الحملات إلى ظاهرة متواترة وأخرجوها عن سياقها الخيري التطوّعي إلى سياق قسري غير معلن حتى أصبحت سببا إضافيا لإرهاق جيوب سكان تلك المناطق المتعبة أصلا، ووسيلة لإثراء مسؤوليهم، ولتمويل مجهودهم الحربي.
وأعلنت جماعة الحوثي عن إطلاق حملة تبرعات تحت عنوان إغاثة النازحين جرّاء الحرب الإسرائيلية في لبنان. وتقرّر ذلك خلال اجتماع عُقد في صنعاء من قِبل ما يعرف بـ”اللجنة العليا لنصرة الأقصى” التابعة للجماعة.
وقالت وكالة الأنباء سبأ في نسختها الحوثية إنّ اللجنة أقرت إطلاق الحملة “لإسناد النازحين من أبناء الشعب اللبناني الشقيق جراء العدوان” ابتداء من الخميس وحتى يوم الجمعة تحت عنوان “ويؤثرون على أنفسهم”.
وأضافت أنّ اللجنة “أهابت بأبناء الشعب اليمني المشاركة في التبرع كل بحسب استطاعته لإخوانهم النازحين في لبنان والذين اضطرّهم استمرار العدوان الإسرائيلي إلى مغادرة بيوتهم ومناطقهم في الجنوب اللبناني”.
ولا يحتاج جمع التبرعات في مناطق الحوثي إلى مثل تلك المناشدات حيث تذكر مصادر متعدّدة من صنعاء والمدن الخاضعة لسيطرة الجماعة أنّ التبرّع قسري ويتمّ باستخدام مجموعة كبيرة من وسائل الضغط والترهيب وصولا إلى التهديد بالسلاح.
وتستهدف الحملات رجل الشارع العادي من خلال مفاجأة المارّة ورواد دور العبادة وسائر الأماكن العمومية من قبل أشخاص يقفون إلى جانب لافتات أو يبرزون بطاقات في أعناقهم وعلى صدورهم مكتوبا عليها سبب التبرّع المطلوب والجهة المتبرَّع لها ويطالبون الناس بدفع ما بمستطاعهم بلهجة صارمة لا تخلو من تهديد مبطّن.
لكن الحملات الكبيرة تستهدف غالبا أصحاب الأموال والمشاريع والتجار الذين غالبا ما تتحوّل فرق جمع التبرعات المسلّحة إلى محلاتهم ومقرات عملهم حيث يخضعون لعمليات ابتزاز صريحة عبر تهديدهم بتعطيل أعمالهم والتضييق على أنشطهم تحت عناوين من قبيل التهرب الضريبي وغيرها.
كما تستهدف الحملات أيضا الموظفين الحكوميين من مختلف القطاعات من صحة وتعليم وغيرهما، حيث يُعتبر أصحاب المرتّبات المنتظمة الشريحة الأسهل في الابتزاز بسبب خوفهم من التعرّض إلى الفصل من الوظيفة أو النُقل العقابية أو الاقتطاع المباشر من الراتب.
وجعلت تلك الأساليب في جمع التبرعات من عملية التبرّع وسيلة للعديد من أصحاب الأموال والأعمال وحتى السكان العاديين لإظهار الولاء لجماعة الحوثي أو في أقل تقدير التعبير عن عدم معارضتها والتمرّد على تعاليمها وأوامرها حفاظا على سلامتهم وسلامة عوائلهم، وحماية لأموالهم.
وأثنت لجنة الحوثيين في اجتماعها على “التفاعل الكبير لأبناء الشعب اليمني في حملة التبرعات السابقة التي خصصت لأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المحاصر”، معتبرة “التبرع للمظلومين والنازحين الفلسطينيين واللبنانيين واجبا دينيا وأخلاقيا وإنسانيا”.
وكانت صنعاء ومناطق الحوثيين قد شهدت منذ بداية الحرب التي اندلعت بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 سلسلة من حملات جمع التبرع حملت عناوين مختلفة انطلق أكبرها بعد تلك الأحداث بأقل من أسبوعين وجاء تحت ذريعة دعم حركة حماس ومساعدتها على الصمود في وجه إسرائيل.
واستخدم الحوثيون في تلك الحملة سندات قاموا بتوزيعها على التجار وأصحاب الأعمال باسم مكتب حركة حماس في صنعاء ولم يتمكّن أحد من التأكد من صحتها بفعل صمت المكتب عن تبني العملية أو التبرؤ منها.
لكن جماعة الحوثي لم تكن لتحتاج إلى اندلاع الحرب لاستخدام العنوان الفلسيطني لجمع التبرّعات إذ إن ذلك تحوّل منذ سيطرة الجماعة على صنعاء ومناطق شاسعة من اليمن إلى ممارسة شائعة ومتواترة.
وقام الحوثيون قبل أكثر من ثلاث سنوات بتدشين حملة تبرعات حملت عنواني “القدس أقرب” و”أموالنا تحمي القدس”، ودارت تحت الإشراف المباشر لعضو المجلس السياسي الأعلى للحوثيين محمد علي الحوثي. وباستثناء حماية المقدّسات الإسلامية ومساعدة “المحتاجين والمظلومين” من فلسطينيين ولبنانيين، يجد الحوثيون ذرائع أخرى لتحويل عمليات جمع التبرعات إلى ممارسة شبه يومية في مناطق سيطرتهم.
وتتراوح تلك الذرائع بين دعم مقاتليهم في الجبهات ومساعدة عوائلهم وخصوصا عندما يقضي عائلها أو أحد أفرادها في الحرب، ومساعدة بعض المصابين بأمراض خطرة ومستعصية على العلاج، وصولا إلى ذريعة بدت الأغرب بين مثيلاتها وتمثّلت في “الحملة الوطنية لدعم البنك المركزي”، وهو عنوان لحملة تبرّع سبق للجماعة أن نظمتها بالفعل في صنعاء والمحافظات واقترحت على المتبرعين التخلّي عن استهلاك نبتة القات شبه المخدّرة طيلة أسبوع واحد وتحويل المبلغ الذي كان سيخصص لشرائها إلى دعم البنك إثراء لرصيده وحماية له من الإفلاس.
ويبقى المطعن الأكبر على عمليات جمع التبرعات من قبل الحوثيين غياب أي آليات ضامنة لجمعها بطرق قانونية بعيدا عن عامل الإكراه بالضغط والترهيب، ولحصر وتحديد ما يتّأتى منها بشكل دقيق وشفاف، وبيان الوجهة الأخيرة للمبالغ التي تجمع وهي مبالغ كبيرة تشكّل ثروات حقيقية.
وتتحدّث مصادر يمنية متعدّدة عن عمليات نهب واسعة النطاق لأموال التبرعات من قبل المسؤولين الحوثيين من مختلف المراتب والدرجات، وقد سبق لوسائل إعلام تابعة لهم أن كشفت جوانب من السرقات وذلك في إطار تصفية حسابات بين مسؤولين متنافسين على النهب ولجؤوا إلى الإعلام لفضح بعضهم بعضا.
ونشرت صحيفة المسيرة الحوثية في وقت سابق خبرا عن محاكمة متهمين بسرقة القسم الأكبر من أموال حملة لجمع التبرعات تم إطلاقها عبر إحدى الإذاعات التابعة للجماعة تحت عنوان “حي على خير اليمن”. وقالت الصحيفة آنذاك إن المتهمين قاموا بتحويل تسعين في المئة من المبلغ الذي تم جمعه إلى حسابات شخصية واستثمارات عقارية خارج البلاد.