منذ الشهر الثاني للحرب على غزة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 بدأت جماعة الحوثيين المدعومة من إيران في اليمن استهداف السفن والناقلات في البحر الأحمر وبحر العرب، فيما وصفته بأنه "دعم للفلسطينيين".
في البداية ترددت شركات النقل البحري في تفادي الممر الملاحي المهم بين الشرق والغرب عبر مضيق باب المندب – البحر الأحمر – قناة السويس، لكن مع تكرار التهديدات والهجمات الحوثية بدأت كبرى الشركات في تحويل مسار سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح عبر الطرف الجنوبي لقارة أفريقيا.
أدى ذلك إلى صدمات اقتصادية لبعض القطاعات الصناعية في أوروبا التي تعتمد على سلاسل توريد آسيوية بخاصة من الصين مثل صناعة السيارات في ألمانيا وغيرها، ولم تكن سلاسل التوريد العالمية استعادت بعد عافيتها إثر الاضطراب الشديد والتعطيل نتيجة إغلاقات الاقتصاد حول العالم في فترة أزمة وباء كورونا، حتى جاءت الهجمات الحوثية، التي أعلن في البداية أنها تستهدف السفن الإسرائيلية أو تلك التي وجهتها موانئ إسرائيلية ثم توسعت لتشمل سفن الدول الداعمة لإسرائيل، لتزيد من تعقيد مشكلات سلاسل الإمداد العالمية.
ومنذ نهاية العام الماضي، ونتيجة زيادة الهجمات والتهديدات الحوثية وبدء ظهور الآثار السلبية على التجارة العالمية، شكلت الولايات المتحدة وبريطانيا حلفاً عسكرياً بحرياً لحماية الملاحة في البحر الأحمر، واستهداف القدرات العسكرية للحوثيين في اليمن، إلا أن ذلك لم يردع التهديدات الحوثية التي تواصلت حتى الآن.
أهمية ممر البحر الأحمر
يعد مضيق باب المندب، البالغ عرضه أكثر من 30 كيلومتراً من الممرات الملاحية المهمة للتجارة بين الشرق والغرب، إذ تمر منه نسبة 10 في المئة من التجارة العالمية سنوياً بواسطة نحو 17 ألف سفينة شحن وناقلة.
ويمر عبر المضيق ما يصل إلى نسبة 10 في المئة من النفط المشحون بحراً بالناقلات في العالم، ويمثل الممر الملاحي أهمية للتجارة بين آسيا وأوروبا عبر قناة السويس، كما أنه بالغ الأهمية لتجارة الدول المطلة على البحر الأحمر وغالب الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط من شمال أفريقيا وجنوب أوروبا.
بحسب أرقام وبيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية بلغ حجم النفط الذي يمر من مضيق باب المندب إلى البحر الأحمر وقناة السويس قبل بدء الهجمات الحوثية العام الماضي معدل 8.8 مليون برميل يومياً، وبلغ حجم الغاز الطبيعي المسال الذي يمر بهذا الخط الملاحي في ذلك الوقت 4.1 مليار قدم مكعبة يومياً، ومع ذلك فإن أهمية ممر البحر الأحمر الملاحي بين آسيا وأوروبا أكبر بالنسبة إلى سفن الحاويات الكبيرة التي تنقل السلع والبضائع ومكونات الإنتاج.
وعلى رغم أن أكثر من ثلث التجارة البحرية لإسرائيل يمر عبر البحر الأحمر، فإن تضرر اقتصادها وتجارتها من تعطيل الملاحة بسبب هجمات الحوثيين يعد أقل من تضرر بعض الدول الآسيوية والأوروبية، فضلاً عن دول المنطقة التي تعتمد على هذا الريان الملاحي، مثل مصر التي تضررت بشدة مع الانخفاض الهائل في عائدات قناة السويس نتيجة تعطل الملاحة عبر باب المندب.
غالباً ما يكرر الحوثيون أنهم لن يوقفوا استهداف السفن في المنطقة إلا إذا توقفت الحرب على غزة، لكن الغارات الأميركية والبريطانية المكثفة على مواقع الحوثيين في اليمن أضافت سبباً جديداً لتصعيدهم الهجمات على السفن والناقلات، وكان أخطرها استهداف ناقلة نفط وحدوث تسرب يهدد المجال البيئي لجنوب البحر الأحمر كله.
أضرار وكلفة إضافية
مع بداية الهجمات الحوثية علقت كبرى شركات النقل والشحن البحري العالمية مرور سفنها عبر باب المندب إلى البحر الأحمر حتى انخفض معدل الملاحة التجارية عبر الممر المائي الاستراتيجي في بعض الأوقات بنسبة 80 في المئة تقريباً، ومع تحول كثير من السفن والناقلات إلى طريق رأس الرجاء الصالح زادت الكلفة بصورة كبيرة، التي ينتهي الأمر بتحميلها على المستهلك النهائي في صورة زيادة أسعار السلع والخدمات.
يعني دوران تلك السفن والناقلات حول أفريقيا جنوباً ثم الإبحار في المحيط الأطلسي شمالاً كلفة إضافية مضاعفة تقريباً على النقل والشحن البحري، إذ تزيد تلك المسافة عن المرور من باب المندب وقناة السويس بنحو 40 في المئة، مما يعني طول المدة وزيادة الكلفة بنحو النصف أو أكثر، وذلك فضلاً عن تعطل التجارة بصورة عامة، بخاصة بين دول آسيا وأوروبا، وتأخر التسليم في وقت ما زالت التجارة العالمية تحاول فيه التعافي من اختناقات أزمة وباء كورونا.
وبنهاية العام الماضي، وبحسب أرقام وبيانات مركز النقل البحري العالمي لدى "غلوبال كوموديتي إنسايتس" فإنه على سبيل المثال تبلغ المسافة بين ميناء سنغافورة في آسيا وميناء روتردام في هولندا عبر مضيق باب المندب وقناة السويس 8.4 ألف ميل بحري، بينما المسافة بين الميناءين الآسيوي والأوروبي عبر رأس الرجاء الصالح تصل إلى 11.7 ألف ميل بحري، إضافة إلى أن تغيير مسار النقل البحري بتلك الطريقة يعني زيادة ما بين 10 و15 يوماً في الرحلة البحرية، ومن ثم تأخير مواعيد التوصيل.
كانت النتيجة توقف بعض مصانع السيارات في ألمانيا وغيرها، وعانى كثير من التجار في أوروبا وبريطانيا الذين يعتمدون على الاستيراد من الصين ودول آسيا خسائر هائلة نتيجة تأخر البضائع وارتفاع كلفة الشحن والتأمين على النقل البحري، فنتيجة ذلك التحول في مسار الشحن البحري بسبب الهجمات الحوثية رفعت الشركات أسعار الشحن البحري على سفن شحن الحاويات الجافة والمبردة بصورة عامة وناقلات الصهاريج. وبحسب "غلوبال كوموديتي إنسايتس" فإن هناك زيادة في كلفة حاوية وجهتها إلى الشرق الأوسط بمقدار 100 دولار إضافية كأخطار حرب على الشحن الجاف والشحن المبرد لكل حاوية 20 قدماً، بنهاية العام الماضي.
في ذلك الوقت، بدأت بعض شركات النقل البحري فرض رسوم أخطار الحرب تلك على الشحنات التي تمر بالبحر الأحمر، وعلى سبيل المثال، بدأت شركة "زيم إنتغريتد شيبينغ سرفيس الإسرائيلية" في حيفا زيادة أسعار الشحن على خدماتها ما بين آسيا والبحر المتوسط لتغطية كلفة تأمين السفن المارة قرب اليمن.
وإجمالاً، وصلت أسعار الشحن البحري من شمال آسيا إلى بريطانيا حالياً إلى أعلى معدل لها هذا العام، وفي بعض الأحيان تضاعفت علاوة الأخطار تلك بنحو 250 في المئة.
استمرار الخسائر
وعلى رغم قرار شركات النقل والشحن البحري الكبرى تعديل مسار سفنها بعيداً من باب المندب فإن الأخطار لم تنته، ووسع الحوثيون نطاق هجماتهم وتهديداتهم للتجارة البحرية ليشمل بحر العرب والمحيط الهندي، وتزامن ذلك في الآونة الأخيرة مع عودة عمليات القرصنة من سواحل الصومال وغيرها، مما زاد من خطر التهديد لمسار رأس الرجاء الصالح أيضاً.
ومع استمرار الحرب على غزة لنحو عام الآن، لا تبدو هناك نهاية في الأفق لاستمرار الخسائر نتيجة تضرر الملاحة التجارية عبر البحر الأحمر. صحيح أن وجود قطع حربية من أساطيل الدول المشاركة في الحلف العسكري الدولي لحماية الملاحة التجارية في المنطقة يرافق بعض السفن والناقلات موفراً لها بعض الأمان، إلا أن ذلك لا يمنع الخطر تماماً، حتى الغارات المكثفة المتكررة على قدرات الحوثيين العسكرية لم تردع خطرهم بعد.
تبقى الخشية الآن من احتمال توسع الحرب وامتداد الصراع إلى جبهة إسرائيل الشمالية مع لبنان، ومع أن ذلك قد لا يكون له تأثير مباشر في أزمة البحر الأحمر، إلا أن خطر هذا التوسع على التجارة البحرية عبر المنطقة كلها كبير جداً، ففضلاً عن تأثر الملاحة في شرق المتوسط إذا اندلعت حرب واسعة، هناك احتمال التصعيد من جانب كل الجماعات الموالية لإيران من اليمن إلى العراق، ولا يمكن تقدير مدى الخسائر والأضرار على التجارة العالمية نتيجة ذلك التصعيد إذا حدث.