تحولت كندا خلال السنوات الأخيرة إلى بيئة طاردة للمهاجرين الجدد، الذين رحلوا إليها أملاً بالعيش في "جنة المهاجرين" كما توصف، و باتوا يغادرونها بعد سنوات قليلة من وصولهم إليها.
وكشف تقرير حكومي صدر في فبراير/ شباط 2024 الماضي بعنوان: "هجرة المهاجرين: نتائج قاعدة بيانات الهجرة الطولية"، عن ارتفاع معدلات رحيل المهاجرين عن كندا إلى دول أخرى، رغم سعيهم الشاق للوصول إليها في السابق.
واعتمد التقرير على دراسة مجموعة ضخمة من المعلومات المتعلقة بالمهاجرين الذين قدموا إلى البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي، وكانت النتيجة أن أكثر من 15% من مجموع المهاجرين بين عامي 1982 و2017 غادروا كندا، خلال السنوات الأولى من قدومهم.
وكشف تقرير آخر صادر عن "معهد المواطنة الكندي"، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، عن اتساع ظاهرة "الهجرة العكسية" لتسجل "ذروة تاريخية" بين عامي 2017 و2019؛ إذ وصلت إلى مستويات أعلى بنسبة 31% من المتوسط التاريخي.
وكانت وكالة "رويترز" للأنباء قد نشرت إحصائيات رسمية مفادها أن نحو 80 - 90 ألف مهاجر غادروا كندا بين عامي 2021 و2022، في حين غادر نحو 42 ألف شخص في النصف الأول من عام 2023.
دوافع الهجرة العكسية
ويبرر الكثير من المهاجرين الذين وصلوا إلى كندا وحصلوا على جنسيتها، وغادروها بعد سنوات قليلة، صعوبة التأقلم في مجتمع متعدد الجنسيات والثقافات دون وجود بيئة داعمة أو مساندة من المجتمع، وهي أمور غير متوفرة في كندا، وفق البعض.
ورغم الوعود والإغراءات التي يسمع عنها أو يراها الكثيرون في مكاتب استدراج الإقامة الدائمة أو الحصول على الجنسية في كندا، إلا أن من يصل إليها يصطدم بواقع قاسٍ، إذ إن أصحاب الشهادات لا يمكنهم الاستفادة بشهاداتهم وخبراتهم التي عايشوها في دول أخرى.
ووجد الكثير من الساعين إلى "الحلم الكندي" أنفسهم مضطرين إلى العودة للبلدان التي قدموا منها وكانت حياتهم فيها أفضل كثيراً مما عايشوه في كندا، كدول الخليج مثلاً، أو إلى بلدانهم الأصلية، للاندماج مجدداً في مجتمعات عايشوها بكل أريحية، واستغلوا طاقاتهم ومواهبهم وخبراتهم على أرضها.
ولعل أبرز الشخصيات العائدة من كندا الكاتبة الروائية والأكاديمية المصرية - الكندية الدكتورة مي التلمساني، التي فاجأت الجميع بمغادرة كندا والاستقرار في مصر نهائيًّا بعد نحو 30 عاماً من العيش في كندا.
ورغم أن كثيرين كانوا ينظرون إلى مي التلمساني باعتبارها أحد النماذج الناجحة في "جنة الرفاهية" كندا، إلا أن الصدمة كانت عارمة بعد إعلانها عبر "فيسبوك" عودتها إلى مصر، حيث عملت أستاذة لمادتي "السينما" و"الدراسات العربية" في أرقى الجامعات الغربية، مثل جامعتي "مونتريال"، و"أوتاوا".
طائرة في سماء تورونتو
طائرة في سماء تورونتورويترز
شهادات من "الجنة الزائفة"
وتزخر صفحات وحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي بالعديد من القصص والحكايات التي يرويها أصحابها الذين غادروا كندا، يكشفون خلالها عن الواقع المرير الذي عايشوه هناك قبل اضطرارهم إلى الرحيل للبدء من جديد في مكان آخر.
وتقدم صفحات مثل "العائدون من كندا إلى مصر" وغيرها خلاصة تجارب عائلات وأفراد عاشوا في كندا لفترة من الزمن، إذ يجيبون على أسئلة الراغبين في الذهاب إلى كندا، ويوضحون الصورة للجميع مقابل الإغراءات والوعود الخادعة.
وشرح كثيرون منهم، وليس جميعهم من العرب بل من جنسيات أخرى أيضاً، الواقع الفعلي لحياة المهاجرين في مدن كندية مثل تورونتو وفانكوفر، مؤكدين أن الفرق شاسع بين ما تروجه وكالات الهجرة والحياة القاسية التي يعيشها المهاجرون.
ورأى أصحاب الخبرات في الهجرة إلى كندا أن ارتفاع تكلفة المعيشة والسكن، ولا سيما بعد جائحة "كورونا" كانت سببًا في جعل البلاد بيئة طاردة للمهاجرين الذين فعلوا المستحيل للوصول إلى أراضيها، قبل اصطدامهم بالواقع المفجع هناك.
وقال الكاتب والمحلل التونسي هشام الحاجي، إن "هذه الظاهرة لها ما يبررها، من حيث الكلفة النفسية الباهظة لهذا النوع من الهجرة نحو كندا تحديداً، وهي بلاد غربية يصعب الاندماج مع بيئتها ومناخها؛ ما يخلّف لدى المهاجرين العرب صدمات تلقي بظلالها لاحقَا على قراراتهم ومساراتهم المهنية".
وأوضح الحاجي، في حديث لـ "إرم نيوز"، أن "مثل هذه الصدمات تصيب عادة الفئات الأعلى درجة فكرية وأكاديمية، وأصحاب الوظائف التي تكون عوائدها المالية عالية، ويكون صيتها الاجتماعي مرموقًا، إضافة إلى طول مدة إقامتها في دول المهجر".
من جهته، قال الدكتور خالد شيات أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الأول في المغرب، إن "مجموعة التجارب التي حدثت في كندا وكانت فاشلة ترجع إلى عدم الانسجام على المستوى الاجتماعي بالنسبة لأفراد الجالية العربية عمومًا، إلى جانب عامل المناخ المتميز بالبرودة الشديدة".
وأضاف، في حديثه لـ "إرم نيوز"، أنه "على المستوى الثقافي أو الحضاري فهناك عدم توافق على مستوى المكونات الثقافية والحضارية، إذ إن الحريات الفردية لا تتناسب مع طبيعة الثقافة العربية الإسلامية وحتى الثقافات الأخرى المحافظة التي لا ترى وجودها في كندا مناسبًا من الناحية الثقافية".
الحياة ليست وردية في كندا
الحياة ليست وردية في كنداغيتي
صعوبات معيشية
وذكرت شريحة واسعة من المهاجرين الجدد إلى كندا أن التضخم الذي شهد تصاعدًا كبيرًا حتى بلغ معدله السنوي 5.7% في فبراير/شباط 2022، وهو الأعلى منذ أغسطس/آب 2009، كان سببًا رئيسًا في جعل كندا بيئة طاردة للواصلين الجدد.
وكشف موقع "أورينتالز" للعقارات وشركة "أوربانايشن" للأبحاث عن بيانات في أغسطس/آب 2023، مفادها أن معدل الإيجار الشهري المطلوب في الشهر السابق بلغ 2078 دولارًا، أي أعلى بنحو 9% من الإيجار في الشهر نفسه من عام 2022.
وواجه مهاجرون إلى كندا صعوبات جمة خلال فترتهم الأولى، مثل غياب البنية التحتية المخصصة لهم مثل مؤسسات تعليم اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها، وهو ما انعكس على قدرتهم للدخول في سوق العمل، وفقاً لإفادة الكثيرين.
وقال حسين خضر، نائب رئيس "الأمانة العامة للهجرة والاندماج" في "الحزب الاشتراكي" الحاكم في ألمانيا، إن "كندا كانت من أهم الدول الجاذبة للمهاجرين على مر عشرات السنين، لكن الأوضاع تغيرت وذلك لأسباب كثيرة".
وأوضح، في حديث لـ "إرم نيوز"، أن من أهم تلك الأسباب "مشكلة السكن، حيث لا توجد مساكن أو شقق تكفي السكان الأصليين علاوة على المهاجرين الجدد، حيث يدفع الزائر الجديد للبلاد جزءاً كبيراً من دخله كإيجار للسكن، ومصاريف جانبية للتدفئة والطاقة".
وأوضح أن "الاندماج في سوق العمل من المشاكل الحاضرة بقوة أيضاً، حيث لم تعد كندا كالسابق من حيث سهولة الحصول على عمل، وصعوبة معادلة الشهادات بما يتوافق مع سوق العمل الكندي، إلى جانب مشكلة اللغة، والثقافة الخاصة بكندا تجعل من الصعب على المهاجرين الجدد الانسجام مع تلك الثقافة".
"بوابة عبور" لا أكثر
وتؤكد الصحفية المتخصصة بملفات الهجرة والنزاعات الدولية، سمر رضوان، أن كندا أصبحت في الوقت الحالي بالنسبة للمهاجرين، عبارة "بوابة عبور" لا أكثر ولا أقل، حيث أصبح الهدف للمهاجرين إلى كندا، الحصول على الجنسية ومن ثم الانتقال إلى دولة أخرى تحقق أحلامهم التي لم يجدونها هناك.
وتشير "رضوان" في تصريحات لـ"إرم"، إلى أن الذهاب إلى كندا لم يعد بالأمر المغري للمهاجرين الذين يطمحون في حياة أفضل، حيث من الناحية الاقتصادية، لم تعد كندا الدولة الاقتصادية الكبرى التي يشاع عنها التميز بدخل مادي أفضل للفرد أو للمهاجر لاسيما في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى وجود أسباب اقتصادية عامة تعاني منها الحكومة الكندية في ملف الغاز والطاقة لأسباب سياسية دولية، أثرت على سوق العمل وملف التشغيل والاستثمار بشكل عام.
وتطرقت "رضوان" إلى أن من أسباب تراجع الكثيرين عن طموح الهجرة إلى كندا، ما وراء تقسيم المهاجرين درجات من الأولى إلى الثالثة حيث يتم إرسال الدرجات المتدنية التي يتم تصنيفها من دوائر الهجرة هناك كالقادمين من دول الشرق الأوسط وآسيا، للعيش في المناطق والمقاطعات الأشد برودة التي لم يعتاد عليها هؤلاء في بلادهم العيش فيها كخيار أساسي، فضلا عن ضعف عمل استجابة الطوارئ للحكومة الكندية في التعامل مع الحرائق في الفترة الأخيرة، وهي الاستجابة التي كانت دون المستوى، وعرضت حياة الكثيرين في المناطق البعيدة إلى الخطر.
كندا الهجرة إنفوغرافيك