الألعاب النارية ودوائر الأضواء الكرنفالية القزحية التي زينت سماء صنعاء مساء 25 يناير 2014، وقبلها الاستعراض الجوي للمروحيات وعمليات الإنزال المظلي إلى ميدان السبعين المصاحبة لانعقاد الجلسة الاحتفائية الاختتامية لمؤتمر الحوار الوطني؛ كانت من المشاهد غير المألوفة بالنسبة للنظارة والسامعين والمتابعين الذين لم يصدقوا ولم يكن بميسورهم التسليم والتصديق السهل بأن الذي يجري هو احتفاء فرائحي بنجاح الحوار الوطني إلا من قبيل انه احتفال يستبطن الحرب ويسبق عاصفتها.
ما حدث بحق كان انجازا يستعجل التصفيق ويستعصي على التصديق.
هو انجاز يتخطى المقاييس اليمنية، والمفارقة ان صنعاء كانت هي مسرح الانجاز وحاضنته على مدى عشرة أشهر، وذلك أمر غير مسبوق ولا معهود في تاريخ هذه العاصمة التي طالما تناهشتها وتناوشتها حراب القبائل المتقاتلة على السلطة وفتاتها.
في العموم يحسب الانجاز على علاته وخضاته ومتاعبه ومثالبه لكافة الذين غامروا وخاضوا تجربة التعليم الابتدائي في مدرسة الحوار برعاية المجتمع الدولي.
يحسب الانجاز للرئيس عبدربه منصور هادي الذي وجد نفسه في عين العاصفة وقلبها من حيث لا يشاء ولا يحتسب، ومن غير أن يقصد أو يرد أو حتى يحلم برئاسة جمهورية بلاد تردت إلى ما دون الحضيض والهباء.
عبدربه منصور هادي هو الشخص الوحيد الذي ينبغي ان لا يحسد كأي كائن محكوم بالإقامة بين فكي كارثة وفي مخنق نفق ليس بميسوره الإفلات منه إلا في مستوى الخروج الى فسحة تمكنه من أن يتشمس ليغوي كافة المحترفين والهواة والضالعين في ممارسات الاغتيال بالتباري عليه كـ"نصع" وضالة للرشق والرماية.
يخال لي أن هذا الرجل من أصحاب المصائر التراجيدية، ولست في وارد القول إنه من أصحاب البطولات الاغريقية مع انه محشور في قلب منقلب خطير وحقير ومدمر ورغم أنه ليس بالرجل الخارق أو المستحيل.
لقد غامر الرجل في تبني خيار "الاقلمة" أو الأقاليم في بلاد تستهول أكثريتها النخبوية والشعبوية التجزئة مع انها ليست موحدة، ولا تتمتع بوحدة وطنية قائمة على الشراكة والندية والمواطنة.
وغامر في تبني هكذا خيار يتحدث عنه معظم الفرقاء ويطالبون بتسويغه وتمريره وإقراره في الكواليس وعلى طاولات الحوار، وفي الظاهر، وفي الباطن يقومون بتعبئة وتحشيد وتحريك قطعانهم وأبواقهم ضده.
وفيما يقولون إن الأقاليم هي المشروع الأنسب لتوزيع السلطة والثروة فإنهم يقولون بأنها خطيرة على الوحدة المتخيلة والذهنية.
كمن يتكلم بلسانين وبالكثير من الألسن يبدو كل هؤلاء.
كل جماعة وأي جماعة هنا يتحكم بها شعور قوي بالحاجة الى الانغلاق في إقليم أو حتى كهف وتقول بما يعاكس ذلك.
في الأثناء ثمة "جماعة" محسوبة على الثقافة والمثقفين منجرفة في مهاترات الاستزلام والتخوين لبعضها ومنشغلة بالتبرير والتهويل لكل انجراف أو سلوك انتهاكي أو إجرامي ومنقسمة بين الشيخ والسيد، وبين مجانين الثورات والمستثمرين لكل ثورة ولكل حراك، وقد كان من شأن ذلك الانزلاق بالحراك الثوري –إن جاز القول- والحراك الجنوبي السلمي الى المستوى الذي صار فيه فريسة لأرباع المتعلمين والجهلة والسراق والافاكين والقتلة.
وكان من شأن ذلك –أيضا- التعويل على الشارع ببعده الشعبوي المليشاوي وجرف الشارع نحو فخ السلاح والاستعانة بالغيب وقنوات التحريض الطائفي، المذهبي، الجهوي، والتقلب بين أحضان النخب المتصارعة على السلطة ببيانات فيسبوكية وعنتريات "الاستبرتيز السياسي" والاستثمار في شقاء جمهور بائس وغائب عن الوعي تحت نير التجويع والإفقار و"حفلات قطع الرؤوس"، جمهور مصفد بالقيود والتقاليد والمفاهيم السابقة لوجود الدولة.
الواضح أن مشروع الدولة في هذه البلاد وفي هذه اليمن الكثيرة والمتذرة في الشمال والجنوب لم ينجز قط وتلك هي بلية البلايا، ولذلك فإن الحديث عن الانتقال إلى مدار الدولة الاتحادية والى الأقاليم يغدو ضربا من دعوة الذهاب إلى المجهول بالنسبة لمن يتوهمون انهم يقيمون في المعلوم والمعقول، ولكافة أولئك الذين لا يتحسسون ما يهتز تحتهم وما يدور حولهم في منطقة صارت فيها الدعوة إلى الأقاليم جزءا من المشهد الإقليمي ومن الراجح أن ترتسم ملامحها تبعا لهكذا دعوة في ضوء متغيرات المشهد العراقي ومرئيات الحالة الليبية وتداعيات السودان واعتمالات الأوضاع السورية وجنيف 2 التي تستدعي إلى الذهن اتفاقية سايكس بيكو التي ارتسمت بموجبها حدود الدول القطرية السابقة، وتكاد جنيف2 أن تكون سايكس بيكو2.
في العموم انزرعت بذرة الأقاليم في الوعي السياسي والاجتماعي العربي الراهن، وصارت مدار حديث كل يوم وكل ساعة في منطقة تشهد حالة قطع ووصل للمناطق والحدود والكيانات علاوة على أنها حافلة بالحروب الراهنة ومنفتحة على حروب مستقبلية وانفجارات غير متوقعة وغير محسوبة.
وقبل أن نختم تجدر الإشارة إلى أن الاحتفاء بانجاز استحقاق الحوار في 25 يناير 2014 والانتقال إلى المحطات التالية يستدعي الالتفات الجاد والمسؤول فثمة مشهد جديد يرتسم تحت ظلال ورعاية المجتمع الدولي وعلى خلفية هشاشة ورثاثة النخب والفاعلين المحليين رغم كل الداهية التي ينطوي عليها أمر الانتقال من اللادولة إلى الدولة الاتحادية والأقاليم.
يحدث هذا الذي يحدث لأن القوى صاحبة المصلحة في بناء الدولة المدنية، دولة القانون والمواطنة لم تنجز اقتراحاتها ولم تطرح بدائلها الواضحة، باستثناء الحزب الاشتراكي، ولأن هذه القوى لم تتبلور كتعبير سياسي، فكري فاعل ومنتج ومقاوم للهباء والتعثر.
إن اليمن ليست مفارقة للكون ولا لكوكب الأرض، وليست مقطوعة الصلة عن الإرث التاريخي الضاغط، بما في ذلك إرث الانقسام الطويل ومعه موروث المفاوضات والمساومات التاريخية التي كان آخرها ذلك التفاوض الذي أثمر وثيقة العهد والاتفاق في عام 1993 وكانت تضمنت الإقرار بصيغة الأقاليم تحت مسمى "المخاليف" غير أن مراكز القوى والحرب في صنعاء سارعت إلى تفجيرها ونسفها في حرب صيف 1994 وليس من المستبعد أن تقوم تلك القوى ومشتقاتها المتشظية والمتطايرة في الأرجاء بنفس المهمة الكابوسية التي نهضت بها في عام 1994 وينهار المعبد، هذه المرة، على الجميع وبالدرجة الأولى على تلك القوى التي تتوهم إمكانية استعادة حقائق التاريخ والجغرافيا فوتوغرافيا، وكما كانت عليه في الأمس.
مقالات أخرى