لعل المدة منذ بداية العام 1984- 2014م كافية لطرق موضوع مازالت تداعياته قائمة حتى اليوم ، رغم مرور 30 عاما على وقوعها، كعادة الشباب حين يقبلون على الحياة ، أخذت وثائقي في مطلع ذلك العام وذهبت إلى مكتب الخدمة المدنية في الشيخ عثمان لغرض الحصول على بطاقة ترشيح للعمل بعد أن أنهيت الخدمة العسكرية ، كنت حينها أثق بمعنى الحق والنظام والحرية ، كنت من الذين قرأوا ثورة عبدالناصر وكانت تلك التجربة الأولى لي للتعامل مع الحياة العامة ، دخلت المكتب وجدته عبارة عن موقع انتظار للمدير المدعو (م.غ) رحمة الله عليه ، وعدد من الشباب ذكورا وإناثا صامتون في مقاعد هي عبارة عن ألواح طويلة جعل من الجدار متكأ لها، كان للمروحة المتدلية في سقف الغرفة صوت يسمع ، وكان ملل الانتظار هو سيد الموقف ، مددت ملفي إلى رجل طويل مازالت ملامحه مرتسمة في ذاكرتي ، سحنته تميل إلى السمرة ، أنفه قصير وحاد ، محلوق اللحية والشارب ، عيناه ضيقتان ، يعلو رأسه بضع شعيرات بيضاء ، وجهه النحيف جعله أقرب الشبه إلى مومياء فرعونية ، وضع الرجل ملفي تحت آخر ملف على الطاولة ، لم أرغب في البحث عن مكان للجلوس كنت متحفزا جدا عجولا جدا كعادة الشباب ، مرت الدقائق كأنها ساعات، توجهت بسؤال إلى الرجل المومياء بالرغم من أني لم أستطع تمييز وظيفته في المكتب أهو الفراش أو (الباطوالة) كما كان يحلو للبعض في عدن أن يطلقها على الفراش في المكتب ، أم سكرتير المدير (م.غ), المهم موظف يعمل في المكتب ، سألته متى سيأتي المدير ؟ قال لي: يأتي عندما يأتي؟ أوشك الدوام أن ينقضي واشتد وهج الظهيرة ، وقرر البعض من الشباب مغادرة المكتب ، اتضح لي فيما بعد أنهم أكثر دراية مني بنظام الانتظار في مكتب الخدمة في الشيخ عثمان ، وأنهم يدركون أكثر مني عقوبة من يخرج عن هذا النظام ، قبل أن أقرر الخروج من المكتب كررت السؤال للرجل المومياء متى سيأتي المدير ؟ وأتبعته بسؤال آخر (إذا لم يأت فليقل لك بالهاتف أنه لن يأتي لنغادر ، رجاء اتصل به إلى الخدمة المدنية ؟)
لقد تجاوزت بالسؤال المزدوج حدود القانون المعمول به ، ولم أكن أتوقع أنني أستحق العقاب ! فقال لي الرجل المومياء : (انتظر مثل غيرك أو انصرف أنت الآن تبحث عن عمل كن مؤدب) استغربت أسلوب الرجل الذي لا أعرف طبيعة عمله أهو فراش المكتب أم السكرتير حتى هذه اللحظة ، غادرت المكتب وعدت في اليوم التالي متأخرا بعض الوقت تقريبا في العاشرة صباحا، وجدت المدير حاضرا وبين يديه ملف أحدهم يقوم بالتوقيع عليه ويناوله الرجل المومياء وبدوره يناوله الشاب المنتظر ، عندما رآني أبلغ المدير قائلا : (هذا هو الذي قلت لك عليه) نظر إلى المدير وهو رجل بنظارة طبية سميكة وبيده منشفة صغيرة للعرق ويبدو من ملامحه الصرامة والثقة بالنفس ، ثم قال لي : (أين ملفك؟) أشرت إليه بملفي الذي اقترب دوره ، أخده بعصبية مكبوتة بعض الشيء ووضعه في مؤخرة الملفات ، واستمر دون اكتراث لرد فعلي في النظر إلى الملفات الأخرى ، شعرت أني أمام مشكلة خاصة عندما أردف الرجل المومياء قائلا للمدير : (إذا لم تصدقني اسأل الشباب كلهم شهدوا ضده) ، كيف تحولت إلى جانٍ في لحظة بل مثبت علي بالشهود ونفذت العقوبة ضدي بتجاهل ملفي وتأخيري إلى نهاية المتابعين ، كيف حدث لي ذلك وأنا ما كنت أريد غير الإلمام بالوقت ومعرفة كما يقول أهل عدن (معرفة رأسي من رجولي) ، كظمت غيظي على أمل الانتهاء من هذا الموقف السخيف في نهاية المطاف ، إلا أن إصرار المدير على ترك ملفي كان إصرارا استراتيجيا ليس مؤقتا بل قرار نهائي إذ لم يكلف نفسه النظر إلي أو التحدث معي بل نهض من على كرسيه بعد أن خلا المكتب من المراجعين ورحل من مكتبه والرجل المومياء مزهوا بالنصر الذي أحرزه ضدي . قدمت شكواي إلى وزارة الخدمة المدنية ووجدت أنني أشتكي بشخصية تحظى بتقدير كوادر الخدمة المدنية وقالوا لي نصيحة أن تعتذر للرجل ! كيف لي أن أعتذر وأنا الذي أستحق أن يُعتذر- بضم الياء- له ، ولأني كنت على وشك تغيير موقع سكني آثرت أن أتجه إلى المديرية المنتقل إليها لأخذ بطاقة الترشح للعمل ولم أعد إلى مكتب المومياء والمدير الظالم .
إن الواقعة أعلاه دائما ما أتذكرها وأنا أتعامل مع الشباب اليوم ولشد ما يحزنني أن أرى ذلك الانكسار في عيونهم جراء حالات كثيرة من القمع تمارس ضدهم إلى حد أنني قلت لبعضهم لماذا لا تضرب بقبضة يدك منضدة مكتبي وأنت تطالب بوظيفة مستحقة لك ، لماذا تتحدث إلي منكسرا وأنت صاحب حق؟
ما أردت قوله من خلال ما حدث لي قبل 30 عاما، أننا كمجتمع نمارس القمع على أولادنا الشباب ، حتى لا تعلو أصواتهم ليواجهونا بأخطائنا ، إننا نكتمهم بحجة احترام الأكبر مكانة ، ونطالبهم في الوقت نفسه أن يكونوا أحرارا قادرين على قول الحق وخلق مجتمع حر . ولنا في مجتمعات الغرب مثلا يحتدى به فقد انطلقوا عندما تركوا للشباب آفاقا رحبة للتعبير والجهر بما يعتقدون أنه صحيح . إن وضع الشباب اليوم أنكى وأمر يتسولون كل شيء بعد أن أفقدناهم كل شيء ، تجد ملفاتهم مرمية في أقبية مظلمة وقد هرمت وجوههم , ترى أي مجتمع ننتظر وحال الشباب في ضنك وقهر و(ثورة ) تحصد أرواحهم وتنكل بهم باسم (الثورة) لتبدو المعادلة اليوم أشد وضوحا (شباب مقموع = ثورة مقموعة ).
مقالات أخرى