ما تعانيه سوريا اليوم هو امتداد لما عانته بالأمس القريب في لبنان وبعد فشل أمريكا في إلصاق تهمة ارتكاب مسلسل الاغتيالات الذي ذهب ضحيته الشهيد رفيق الحريري وجملة من خيرة القيادات اللبنانية وبعد أن تورطت المحكمة الدولية في مسرحة هذا المسلسل وفشلها في إرسائه على نهر بردا.،
بدا ان الولايات المتحدة قررت اليوم محاربة المسلمين ببعضهم لتصفية حساباتها مع النظام الإيراني في اجترار لسابقة وقوف العرب مع الحلفاء ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ولعله من أجل ذلك تدفقت الأموال بغزارة لتوظف الطائفية والمذهبية كمقدمات ومقبلات لهذه الحرب وفُتحت تبعاً لذلك العديد من القنوات الفضائية والمواقع الالكترونية واستنفرت الكثير من وسائل الإعلام طاقاتها وتجردت جملة من الأقلام لإذكاء جذوة الطائفية لتصبح الطائفية أشبه بمنتج رُوجَ له ليغزو أسواقنا ولتصبح منابرنا المروج الأساسي للطائفية حتى إن حجم الإنفاق على كل ذلك تجاوز معدلات ما كان ينفقه طرفا الحرب الباردة ، وذهبت بعض النخب السياسية إلى لبس نظاراتها السنية الشيعية لتنظر بها إلى كل ما هو حولها للحكم عليه بالسنية أو الشيعية هذه النظارات جعلت أبصار هذه النخب يفوق بصر زرقاء اليمامة لينظرون حتى ما هو غير موجود ويحددون ما لم يمكن تحديده .
كل ذلك منعهم من أن يرون العدو الحقيقي الذي يحتل أولى قبلتيهم ويستهدف كل ما هو جميل ليعيث فساداً في أراضيهم ليتركها خراباً كما حصل في أفغانستان والعراق وليبيا والصومال وغيرها مما هو مرشح لهذه القائمة ولتتركك الولايات المتحدة هذه البلدان فريسة للإرهاب يرتع فيها كما شأءت.
لعله لا يختلف اثنان على إن صراعنا مع العدو الصهيوني وحلفائه بما صنعوه في العراق وأفغانستان والصومال وما صنعه الناتو كان أكثر فتكاً وضراوة وحقداً مما عاناه أجدادنا من التتار ولذلك فانه يحق للرئيس الأمريكي (باراك أوباما) أن يتفاخر بأنه لم يسبقه أي رئيس أمريكي في خدمة إسرائيل تحقيقاً لدولتها التوراتية التي تسعى لفرشها من النيل إلى الفرات .لا شك بأن أوباما يقصد بأن في جملة خدماته هذه دعمه السخي في إشعال الفتنة في سوريا هذا البلد الذي أبا إلا أن يكون القلعة الصامدة التي أخذت على عاتقها أمر مجابهة النظام الصهيوني في فلسطين وبقية الأراضي العربية المحتلة في حين اعتبر البعضُ بأن ذلك الجهاد فرض كفاية.
من خلال ما أوردته من مقارنة بسيطة بين ما قام به التتار وما تقوم به اليوم أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهم من دمار في منطقتنا أظن القارئ لا يحتاج إلى الإطناب في ذلك لبعد المقارنة بين الأمرين الأمرَّين .
غير إنني أورد هنا رأي شيخ الإسلام أبن تيمية في الثورة ضد المماليك وسلطانهم على مصر والشام خلال المدة التي عاصرها فابن تيمية عالم مجاهد ثار على المماليك ورغم ذلك عندما كن المماليك في حربهم مع التتار حمل ابن تيمية سلاحه واستنفر كل إمكانياته ليوظفها في الحرب ضد التتار رغم ان المماليك هم أول من عسكر الدولة في بلاد الإسلام وهم أول من صادر الحياة الفكرية والثقافية بعد ان كان قبل ذلك للعلماء والفقهاء وأهل الفكر أراء ليس بالضرورة أن تكون موافقة للدولة وسلطاتها . ولعل العلاقة بين الإمام مالك والإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وبين الدولة العباسية مثَّل هذه السمة المستقلة التي تميزت بها مواقف أهل العلم والفكر والتي كانت بعيدة عن التبعية للولاة والخلفاء وقد مشى على ذلك النهج الحسن البصري وابن عطاء وعمر بن عبيد وجعفر الصادق وزيد بن علي وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
لو تأملنا مواقف ذلك المجاهد ابن تيمية ببصيرته السياسية والثورية وعبقريته الحضارية وتجرده عن هوى النفس وعدم الفجور في العداوة لوجدناه يقف بكل ثقله مع الدولة المملوكية ليناصرها ويحشد لها العدة والعتاد بل ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ليقول بأن دولة المماليك هي الفئة المنصورة التي تنبأ بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة) وقد دأب الكثيرُ من العلماء والفقهاء دأب ابن تيمية في ذلك حين كانت المخاطر الأجنبية تهددهم مما جعلهم يغضون الطرف عن تجاوزات الدولة وانحراف سلاطينها وولاتها واعتبروا أن مجاهدة هذه الدولة لن يفيد في تلك المرحلة وقد أجاز علماء السنة والجماعة بإمامة المفضول دينياً إذا كان أفضل سياسياً واقتفى ابن تيمية شيخه أحمد ابن حنبل الداعي إلى طاعة الدولة والبيعة لمن غلب وكان بذلك ينهى عن الخروج على الحاكم وتجريد السيف ضده وإن جار أو ظلم وإن قُتل الرجال وسُبيت الذرية.
لقد أيقن ابن تيمية بأن مجاهدة الدولة في هذه الظروف لن تفيد إلا العدو الخارجي الأكثر خطراً على شعوب المنطقة وعقيدتها.
لقد انتهج ابن تيمية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مستواها الأدنى ؛ أي الإنكار باللسان ثم انتقد حكم المماليك وانعكاساته السلبية على الحالة الفكرية والاجتماعية ووضع المقارنات بين بذخ سلاطينهم وبين الجوع والجهل والمرض الذي كان متفشيا في الأمة ولكنه رغم كل ذلك لم يحرض ولم يرفع من مستوى أسلوب النهي عن المنكر عن لونه الأصفر فضلا عن أنه لم يدع إلى الثورة ضدهم ولم يسلك ذلك النهج رغبة في عطايا المماليك ولا رهبة من بطشهم فقد كان عالماً عاملاً حمل السلاح ليس ضد المماليك بل ضد أعدائهم من التتار رغم انه قد مات رحمه الله في سجن المماليك . وقد ردَ رحمه الله على أحد المتخاذل عن الجهاد عند ما قال:
يا خائفين من التتر *** لوذوا بقبر أبي عمر
وقال ابن تيمية وهو في المعركة: والله لو رأيتموني في ذلك الجانب من المعركة وعلى رأسي مصحف فاقتلوني فارتاح الجند لهذا الكلام وقويت به نفوسهم وتحقق النصر
وقال في كتابه نهج السنة ان المشهور من مذهب أهل السنة والجماعة انهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظالم لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة فيدفع أعظم المفسدتين بالتزام الأدنى .
ولعلنا نقول في هذه العجالة : ما أشبه الليلة بالبارحة ، فبالقراءة المتأنية للراهن السياسي - بعد ظهور الثروات المعدنية وبعد ازدهار التجارة العالمية وبروز الحاجة إلى السيطرة على منافذ الملاحة الدولية - نجد أنفسنا كعرب وكمسلمين أكثر استهدافا من ذي قبل خاصاً وان الأساطيل الحربية التي تجوب مياهنا الإقليمية تتأهب للانقضاض علينا كما تتأهب الأكلة على قصعتها ، لذلك فإن الهجمة التي نعيشها اليوم أكثر استحكاماً وخطراً وفتكاً من هجمات التتار والصليبيين التي عاصرها سماحة شيخ الإسلام ابن تيمية.
مقالات أخرى