تمهيد:
قال الأولون إن ملكا طلب من أحد الفلاسفة أن يضع جميع مبادئ الحكمة في كتاب واحد. وشرع الفيلسوف في تنفيذ الأمر، وبعد سنة أحضر كتابا ضخما يقع في نحو ٥٠٠ صفحة، ونظر الملك للكتاب واستصعب قراءته وطلب من الفيلسوف أن يلخص له محتوى الكتاب في عشر صفحات فقط. ونفذ الفيلسوف الأمر وأحضر الملخص. ونظر الملك في الصفحة الأولى ثم قال للفيلسوف: لا خذ هذا وأحضر لي ملخصا في صفحة واحدة، وأخذ الفيلسوف الصفحات وبعد شهر عاد للملك بالصفحة. وألقى الملك عليها نظرة سريعة وطرحها جانبا وقال للفيلسوف: لم تعد القراءة تعجبني. لخص لي محتوى الصفحة في جملة واحدة. ونفذ الفيلسوف ما طلبه الملك.
كان ذلك في زمن كانت القراءة فيه هي الوسيلة الوحيدة لنقل المعارف والمعلومات للآخرين، واليوم أصبح في وسعنا أن نطلع على المعارف بواسطة المسموع في الإذاعات والمسجلات و(الإم بي ثري) و(الأيبود) وغيرها من الوسائط. ويمكننا أن نطلع عليها بواسطة المرئي والمسموع. وهناك من يردد أننا بتنا نعيش في عصر هيمنة الصورة.
ومع ذلك، لا تزال المطابع تسحب يوميا مئات الألوف من الصفحات المكتوبة في شكل كتب ومجلات وصحف. وهناك ملايين المنشورات التي تعرض للقراءة يوميا في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. والسؤال: ألم يصاب كثير منا بالداء الذي أصيب به الملك القديم؟ هل لا يزال معظمنا يقرأ فعلا؟ ألم نعد نكتفي بإلقاء نظرة سريعة على ما يعرض علينا من نصوص مكتوبة او نهملها كليا؟ ألم نصبح نفضل سماع الإذاعات والمواد المسجلة؟ ألم نعد نفضل تلقي معلوماتنا بشكل سريع ومركز من المصادر المسموعة المرئية التي أصبحت منتشرة بشكل واسع في الدول المتقدمة؟
ما هو البودكاست؟
قبل مطلع القرن الحادي والعشرين لم يكن البودكاست معروفا. ومع ذلك فهو يعد اليوم وسيلة فعالة للنشر والتواصل والترويج والإعلام، وأصبح يشكل جزءًا مهما من الحياة اليومية لكثير من الناس في الدول الغربية، فوفقًا لبحث أجرته شركة Edison، يستمع ثلث الأمريكيين الذين تبلغ أعمارهم 12 عامًا أو أكثر (نحو 100 مليون شخص) إلى ثلاثة بودكاستات شهريًا. ومنذ سنة ٢٠١٢ تأسست العديد من منصات البودكاست العربية.
ونحاول في السطور الآتية الإجابة بإيجاز على هذين السؤالين: ما هو البودكاست؟ ولماذا ينجذب إليه الناس اليوم؟
في الأساس، البودكاست منتج أو تدوين صوتي يتم إعداده مثلما يتم إعداد البرامج الإذاعية، يستمع إليه المتلقي بواسطة أجهزة الكمبيوتر أو الأجهزة اللوحية أو الإنترنت، حيث يتم توزيع ملفات البودكاست عبر الإنترنت. وفي عام ٢٠٠١ تم تصنيع جهاز ايبود iPod لتنزيل تلك الملفات السمعية من الانترنت، التي كانت في كثير من الأحيان بصيغة الام بي ثري mp3، إلى أي جهاز يشغل هذا النوع من الملفات،
وكلمة بودكاست (podcast) مكونة من اسم جهاز iPod وكلمة cast التي تعني يدون ويلقي ويبث وينشر. ويرى البعض أن أصل كلمة "بودكاست"، قد جاء جزئيًا من مقال نشره بن هامرسلي - صحفي في الجارديان-عام 2004 بعنوان (ثورة مسموعة). وإذا كان المقال لا يستخدم مصطلح "البودكاست"، فهو يقترح ثلاثة مصطلحات مشابهة، منها: التدوين الصوتي، والبث الصوتي. وفي وقت لاحق، تغيرت هذه المصطلحات إلى "مدونة صوتية" و"بودكاست"، وتم في نهاية المطاف تبني مصطلح "بودكاست".
والفرق الأساسي بين مدونات البودكاست والبرامج الإذاعية هو أن هذه الأخيرة تخضع لتوقيت زمني محدد تبث فيه، بعكس ملفات البودكاست التي تظل تحت يدي المتلقي الذي يستطيع الاستماع لها متى شاء.
واليوم يعد البودكاست وسيلة تعتمدها المدونات الصوتية لبث برامج إعلامية وترويجية وترفيهية متنوعة جدا. ويمكن أن يتكون الملف أو البرنامج من حلقة واحدة أو من سلسلة تحتوي على عدد كبير من الحلقات. وتختلف مدة ملفات البودكاست من دقيقة واحدة إلى ساعات لكل حلقة (متوسط المدة هو 41 دقيقة و31 ثانية).
تطور البودكاسات:
البودكاست، كما ذكرنا، كان في الأساس منتجا صوتيا سمعيا، لكنه اليوم تطور، وأصبحت نسبة كبيرة منه تعتمد الصوت والصورة. واليوم يطلق بعض الإعلاميين على البودكاست المرئي: فيدكاست أو تسجيلات فيديو تُظهر في الغالب ضيوفا وهم يتحدثون، وربما شرائح تحتوي على صور ورسوم بيانية مختلفة لتوضيح النقاط الرئيسة في حديثهم. وكما تطورت ملفات الام بي ثري الصوتية إلى إم بي فور مرئية، تطور البودكاست الصوتي إلى بودكاست يعتمد الصوت والصورة. وقد اكتسح هذا النوع من البودكاست وسائل الإعلام والترويج والترفيه العالمية بشكل واسع، لاسيما أنه لم يتردد في توظيف منصة اليوتيوب للبث والانتشار. ومنذ سنة ٢٠١٧ شهدت بعض الأقطار العربية ظهور عدد كبير من منصات البودكاست المرئي، وبشكل رئيس في المملكة العربية السعودية ومصر. وفي بلادنا بادر الإعلامي علي بن عامر إلى توظيف البودكاست المرئي لتوسيع نشاط مؤسسته الترويجية الناجحة: (دكان علي). وشرع أحمد مسعود في إعداد بعض حلقات بودكاست إعلامية وثقافية وتجارية.
أنواع البودكاست:
يمكننا اليوم العثور على العديد من أنواع البودكاست؛ فهناك ملفات بودكاست للمحادثة، وفيها يقدم المضيفون المحتوى بأسلوب البرامج الحوارية، ويتاح خلالها لشخص ما لتقديم نفسه أو خدمة تهمه، وهناك بودكاستات تصور قصصًا خيالية أو تسرد أحداثًا تاريخية، ومنها ملفات بودكاست تتضمن محاضرات تعليمية تم انتشارها كثيرا في فترة كورونا.
باختصار استطاع منتجو البودكاست من الجمع بين مزايا الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني وإمكانات وسائل التواصل الاجتماعي، وتويتر (X) وتيليجرام وقنوات اليوتيوب التي يستطيع المتلقي الوصول إليها وقتما شاء. لهذا فهي في رأينا ستغدو، قريبا وسيلة النشر والترويج الأكثر فعالية في هذا الزمن الذي بدأ المنتجات المكتوبة والمقروءة تشهد شيئا من الانحسار بعد أن أصبح داء الملك القديم متفشيا بيننا.