تفاجأ الجنوبيون والأوساط الإعلامية هذا الأسبوع بحشود عسكرية قادمة من مأرب إلى أحور وشقرة لا تتناسب لا من حيث الحجم ولا من حيث العتاد مع التشكيلة المتفق عليها في اللواء الأول حرس رئاسي، وبدت وكأنها قادمة في عملية غزو جديدة لمدينة عدن التي تم تحييدها من أي صراع مسلح جديد حسب اتفاق الرياض. وقد تزامنت هذه الخطوة أيضاً مع انقلاب الإخوان في تعز باغتيال اللواء عدنان الحمادي لتسهيل تسليم مدينة تعز للقيادي الإخواني المخلافي، والذي أعلن التعبئة والنفير العام للقوات المنسحبة من الحد الجنوبي للسعودية للتوجه إلى عدن بعد إعادة تأهيلها. كما تزامنت هذه الخطوات أيضاً مع مسلسل الاغتيالات في عدن. كل ذلك في حين تتربص تركيا وإيران اللحظة المناسبة للانقضاض على الجنوب ومضيق باب المندب تحديداً. ما هي تداعيات كل هذه التحركات على الجنوب؟ وكيف أفشلها المجلس الانتقالي؟ وكيف أصبح اتفاق لرياض على المحك؟
اتفاق الرياض واضح وضوح الشمس
اتفاق الرياض كان واضحاً وضعه خبراء سياسيون واقتصاديون وعسكريون بحيث لا يقبل التأويل أو الازدواجية في المفاهيم أو التفسير لدرجة أن أي إنسان غير ملم بدهاليز السياسة لن يجد أي صعوبة في فهم أو استيعاب بنود الاتفاق والذي حدد أهدافاً واضحة وضوح الشمس، وهي:
أي فهم آخر لهذه الأهداف أو انتقائية أو مزاجية في التنفيذ إنما محاولة لانتهاك بنود الاتفاق وإفشاله والبحث عن مبررات وأعذار للالتفاف عليه وحرف بوصلته في اتجاه آخر غير أهدافه الأساسية وهذا ما يفعله الطرف المعارض للاتفاق.
الحكومة السابقة تقوم بتحريف بنود الاتفاق إرضاءً للطرف المعارض
تتكون ما يسمى بالحكومة الشرعية من طرفين، الطرف الأول هو الذي وقّع اتفاق الرياض، ولكن لا توجد لديه إمكانيات تنفيذ بنوده على الأرض، أما الطرف الثاني وهو الطرف الرافض للاتفاق ولكنه يراهن على تكييف الاتفاق وفق مزاجه وقناعاته ومفهومه الذي يمكن أن يتعارض مع جوهر الاتفاق ليسجل انتصاراً على الطرف الموقع الآخر وهو الانتقالي، وبالتالي مواصلة انتهاك بنوده وتجييره لمصلحته والعمل على إجهاضه لأنه اضطر لقبوله بعد الضغوط الإقليمية والدولية وحتى المحلية عليه.
فالمشكلة أن الجهة التي بيدها تنفيذ الاتفاق هي القوى المتنفذة في الحكومة وهي في الأصل غير مقتنعة ولها أهداف أخرى تتعارض مع أهداف الاتفاق، أما الشق الآخر من الحكومة والذي وقّع الاتفاق فهو في الأساس تابع لهذه القوى ولا يزال خاضعًا لتوجيهاته منها، ودعونا نقولها بصراحة: إنها لا تخضع لإدارة هادي ولكن من يديرها هو نائبه على محسن الأحمر، وهذا ليس جديداً، فأي جنوبي مهما كان منصبه لا يستطيع عمل أي شيء حتى ولو كان رئيس الدولة، لأن من يديرها شمالياً وتحديداً من الطائفة الزيدية، فهي تمتلك كل الموارد وكل مفاصل الدولة العميقة أيضاً، وهذا يقودنا للتطرق لتصريحات دولة رئيس الوزراء معين عبد الملك الذي دائماً ما يحرص على توجيه رسائل وإشارات واضحة لصالح هذه الطائفة ويظهر مواقف مناوئة للمجلس الانتقالي عند تناوله بالشرح والتوضيح لبنود اتفاق الرياض، لذلك لابد من الحذر من إبقاء مثل هذا الرجل في هذا المنصب والذي ينبغي أن يكون حيادياً ويتعامل مع جوهر الاتفاق.
الطرف الممثل للشرعية لا يقبل بالانتقالي شريكاً في تنفيذ الاتفاق
جوهر المشكلة أن الطرف المتمثل في الشرعية لم يتقبل بالمجلس الانتقالي والذي يفترض الجلوس معه للتنسيق في كيفية مواجهة الحوثي والتحضير العسكري للمواجهة الكبرى. ولكنه للأسف الشديد هو لا يريد الاعتراف به كشريك بل لا يزال يتعامل معه كعدو، وهذه أهم إشكالية في تنفيذ الاتفاق. إن اتفاق الرياض هو في الأساس جاء ليجد حلاً للتوتر الذي حدث بين الانتقالي والشرعية في عدن ونزع فتيل المواجهة بينهما في المستقبل، ولكن للأسف فإن الطرف المعرقل يريد استعادة الأمور إلى سابق عهدها فما لم يستطع تحقيقها بالحرب يريد تحقيقها بالسلم، ولكن كل هذا مجرد أضغاث أحلام ومراهقة سياسية بل غباء وعبث سياسي ويدعو إلى الشفقة.
الشيطان يعشعش في رؤوسهم والطرف المهزوم يصر على الانتقام
من يراجع تصريحات الميسري والجبواني يجد أن الطرف المعارض لا يزال متمسكاً بنفس هذه العقلية ومصراً على الانتقام ولم يتغير في تفكيره شيئاً بعد الاتفاق، وهذا يدل على أن هناك قصوراً وعجزاً في استيعاب بنود الاتفاق، ولن يجد المتابع أدنى صعوبة في معرفة أن الشيطان يكمن في رؤوسهم المعفنة وليس في التفاصيل، كما يحاول البعض تبرير سلوكهم، وهذا يؤكد أن هولاء غير مقتنعين أساساً بالاتفاق فلا زالوا يحملون أفكارًا سلبية ويعشعش في رؤوسهم روح الانتقام، فهي لا تتمتع بفكر استراتيجي يستوعب ضرورات المرحلة وظروف الحرب والتي تقتضي تأجيل أي صراعات محلية والتركيز على محاربة الحوثي، ولكنها للأسف ما هي إلا أدوات يعبث بها مشغلوها من مأرب. هذا ما لاحظناه في الحشود العسكرية التي اتجهت من مأرب إلى شقرة وأحور، حيث تم تغيير تركيبة اللواء الأول حراسة رئاسية وأضيف إلى قوامه عناصر من التنظيمات الإرهابية والإخوان المسلمين العقائدية وزودته بأسلحة نوعية تفوق ما كانت عليه قبل انقلابهم الفاشل في 15 أغسطس 2019م، وهذا يكشف نواياها في تكرار ما حدث في عدن، وهذا يعني أنها تتحرك بمعزل عن ضوابط اتفاق الرياض الذي حدد فقط لواء الحماية الرئاسية بالحجم الطبيعي الذي يسمح بحراسة الرئيس، والذي هو في الأساس سيكون في حماية القوات السعودية، والتي هي أحرص على حياته منهم، كما أن القوات الجنوبية لن تمانع بالقيام بهذا الدور خصوصاً أن الحشد الذي جاء إلى أحور أضيفت له عناصر من التنظيمات الإرهابية والإخوانية، وهذا فيه خطورة على حياة الرئيس، وهذا يكشف مخططهم ونواياهم بغزو عدن، وهو ما جعل البعض يشبه هذا الحشد بحصان طروادة. لذلك كان لزاماً على الانتقالي الفحص والتدقيق لأي قوى تدخل عدن يمكنها أن تخل بتوازن القوى بين الطرفين.
انقلاب تعز وإعلان التعبئة العامة ضد الجنوب والتربص التركي
الحقيقة أن هذه التحركات والحشود إلى عدن تتزامن مع انقلاب الإخوان في تعز، والذي بدأ باغتيال العميد عدنان الحمادي قائد معسكر 35، والذي كان معارضاً قوياً لسياسة الإخوان وعائقاً أمام مشروعهم في عرقلة تحرير تعز، إضافة إلى إعلان التعبئة العامة من تعز بانسحاب قوات المخلافي من الحد الجنوبي والقدوم إلى تعز لتجهيزها وتحشيدها صوب عدن لاجتياحها وتهيئة الظروف لتركيا وإيران التي تتربص وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على الجنوب ومضيق باب المندب تحديداً. كل ذلك أيضاً يتزامن مع مسلسل الاغتيالات التي تتم في عدن لتفجير الوضع من الداخل ونشر الفوضى الأمنية فيها وتسهيل دخول الحشود العسكرية إليها والمتربصة على أبوابها القادمة من مأرب ويتم تجهيزها في تعز. إنها مؤامرة متكاملة الأبعاد ولكن الانتقالي أجهض معظم خيوطها، فعدن محمية وهي خط أحمر لكل من يحاول غزوها وإزعاج سكينتها.
الكرة في ملعب مملكة الحزم.. فهل تحزم الأمر؟
يفترض بعد هذا كله أن يتم الإسراع في تشكيل الحكومة وهي المخولة بالتنسيق مع الانتقالي، أما الحكومة الحالية فهي حكومة تسيير أعمال ولا شأن لها باتفاق الرياض، فهي للأسف تصدر نفسها على أساس أنها المعنية في تنفيذ الاتفاق، ولكن نواياها هو الانتقام وقلب الطاولة على الجميع وبالتالي إجهاض الاتفاق. لذلك فإن أي تصريح لهذه الحكومة غير مرغوب فيه ولا ينبغي أخذه موقف الجد بل ليس من حقها الادعاء بأحقيتها بتنفيذ اتفاقية الرياض.
كل هذا يقودنا إلى توجيه النداء لمملكة الحزم بأن تتصرف بحزم تجاه كل من يحاول انتهاك اتفاق الرياض ومحاولة إفشاله وقد رأت ذلك جلياً من خلال التحركات الأخيرة الإرهابية والإخوان في لباس اللواء الأول للحرس الرئاسي وما يمثله من مخاطر على مؤسسة الرئاسة وعلى تقويض أمن عدن واستقرارها وسكينتها ولن يساعد على استقرار عمل الحكومة في عدن، وهي أيضاً لا تحرص بل حتى لا تفكر في التحضير للمعركة مع الحوثي، وهذا من شأنه أن يقوض الأمن القومي العربي، لذلك ينبغي عدم السكوت على تحركات الإخوان وعليها رفع الغطاء عن جماعة الإخوان التي بدأت تتحالف مع الحوثيين علناً وتسلم اليمن للمعسكر الإيراني – التركي – القطري وهذا يستدعي الحسم والصرامة في التعامل مع الجماعة.
عدم تنفيذ اتفاق الرياض يعني الإسراع في مفاوضات الحل النهائي
إن الانتقالي إلى يومنا هذا يتمتع بضبط النفس ولا يزال حريصاً وملتزماً على تنفذ اتفاق الرياض ولكن صبره لن يدوم طويلاً فقد ينفد صبره إذا ما استمر الطرف الآخر في انتهاك بنود الاتفاق خصوصاً في مسألة الحشد لاحتلال عدن وهي خط أحمر، فهو لن يبقى مكتوف اليدين، فالمجلس لن يتخلى عن الدفاع عن أرض الجنوب وشعبه فلديه أدوات ردع تمكنه من التصدي لأي هجوم أو إعادة انتشار في الجنوب. لكن على الطرف الآخر أن يكون أكثر صراحة ووضوحاً، فإن لم تكن لديه النية في مواجهة الحوثي، فعليه أن يعلنها صراحة؛ لأن كما يبدو أن أساس الاعتراض على الاتفاق هو عدم القبول بمبدأ المواجهة مع الحوثي، وقد أخفت هذه النوايا خمس سنوات عانى منها الشعب الشمالي والجنوبي من ويلات الحرب، فلا داعي الاستمرار في الكذب والخداع. وعليه لعل من المفيد البدء بمفاوضات بين الطرف الشمالي والمتمثل بالحوثيين والإخوان وبقايا صالح من جهة والطرف الجنوبي ممثلاً بالمجلس الانتقالي والمكونات الجنوبية الأخرى للبحث في حل الدولتين وفك الارتباط بين الشطرين إلى حدود 22 مايو 1990م.