آخر تحديث :الاربعاء 24 ابريل 2024 - الساعة:09:55:44
في ذكرى استشهادك سأكتب أنك كنت مناضلا بمايكفي ياابا جساس
(الأمناء نت /ناجي محمود العيفري )

كثيرون هم الشهداء الذين يجب أن نتوقف عند ذكراهم ولنخبر الأجيال القادمين إلى الحياة أنهم رووا الأرض بدمائهم الزكية التي سفكت بأيادي المستبدين والمحتلين، كي يكبر ذلكم الطفل ويقول لن أغفر ولن أهادن ، فتاريخ الشهداء جاهز ومعروف مسبقا كخاتمتهم. ونهايتهم الطاهرة تغفر لهم كل شيء ، فوحده تاريخ الشهداء قابل للكتابة ،وما تلاه من تاريخ آخر سيصادره الأحياء ولقد صادروا كثيرا من الحقائق ونسبوا لأنفسهم بطولات لم تكن لهم أبدا، ونحن في صمت خائفين من صكوك إعلاميي الصرفة الذين انتهزوا الفرصة بعد ان كانوا في الجبهة المضادة طيلة كل سنوات الثورة ، إلى درجة  أن الكتابة باتت جريمة وإن كانت حقيقة، فلم تعد لنا أي حرية في الكتابة إلا عن الشهداء. 

اليوم ذكرني مارك في صفحة الفيس بك ذكرى استشهاد القائد الأغر ابا جساس  سيف مهدي سعيد  وماكنت لأتذكر لولاه ، فشكراً مارك، لانك ذكرتني ..فلقد كان ابا جساس رجلا فوق العادة، وقائدا عسكريا فوق العادة، واستثنائيا في حياته وموته، ومازلنا نتذكر كم كان رجلا شهما وكريما يؤثر الآخرين عن نفسه.

قبل المعركة الآخيرة في الضالع كنت أنظر له كشخص مبدأي وكريم وشجاع  لا تمل الحديث معه فحسب، لربما أختفت شخصيته العظيمة عند حضور القائد المرجعي شقيقة الأكبر الذي رسم للثورة اتجاهين عسكري وسلمي وداوم عليها في ساحة الميدان سنين وصار من رموز الوطن  ، ولكن عندما تم اسقاط لواء عبود في تلك العملية الفدائية بسواعد رجال المقاومة الجنوبية في حرب 2015،أقتحم المقاومون المعسكر بطريقة ليست عسكرية منظمة، فالبعض ذهبوا  إلى مستودعات الأسلحة وآخرون أحدثوا فوضى، وبعض الملتحين صرحوا ورفعوا شعارات لا تمت للقضية الجنوبية بصلة ،بصورة عفوية ولربما نشوة الإنتصار لم تجعلهم يدركون شيئا، فإذا بسيف مهدي يتحدث إلى المقاومين- رأيته كانه المسيح في قومه -مصرحاً للإعلام المتاح" أن ذلكم النصر هو تتويج لنضالات طويلة خاضها الشعب من أجل استعادة الدولة الجنوبية"، وهنا أدركت عظمة الرجل وانه ليس بالعادي ، فالرجال الحقيقيون هم من لا تتغلب عليهم العاطفة في أوقات النشوة.

لم يكن سيف من المناضلين الذين ركبوا الموجة الآخيرة،ليضمنوا مستقبلهم ، مناضلي وابطال الحرب الآخيرة، ولم يكن من شهداء المصادفة الذين فاجئهم الموت في قصف عشوائي بينما هم في ملاجئ الحرب، أو في رصاصة خاطفة،بل كان ثائرا منذ بداية تكوين الثورة،ولقد استشهد في ناصية المعركةوهو يقود الجيش باتجاه الشمال عابرا خط الساحل على رأس أول كتيبة تخترق الحدود نحو الشمال ، لقد استشهد واقفا مقبلا غير مدبر بكل شموخ وشجاعة واستبسال، استشهد ولا يملك شيء سوى بندقيته ..لا شيء في جيبه سوى أوراق فارغة فيها بعض أرقام رفاقه   ،دفع نفسه رخيصة في سبيل الإنعتاق والتحرر من براثن الكارثة.

لقد كان ابا جساس من طينة حمراء شجاعة لا يخشَ الموت - حسب توصيف جدي،فهم من يذهبون الى الموت  ولا ينتظرون حتى يأتيهم،  من أسرة تحملت وجع أمة مذ بداية الثورة، فالذي لا يعرفهم يظن ان الثورة هي من أجل أعادة حكم سُلب منهم وأنهم سبب الخطيئة السياسية التي انتهت بهزيمة الجنوب ، فلقد عملوا بكل روح نضالية من إيواء الثوار وإطعامهم، لقد كانت النساء تطبخ الطعام الذي كان من قوت أطفالهم وكأن الأمر واجباً مقدسا إيمانا بالثورة التي لن أغالي إن قلت نواتها تلكم القرية  ، مع علمنا ان براثن  الكارثة هي نتاج لإدارة قيادة سياسية  فاشلة دخلت الوحدة ثم انسحبت وخططت لمعركة وهربت نحو الخارج بما تبقى من أموال الشعب،ومازالت انانيتهم طاغية إلى اليوم وهم  ينفثون سمومهم من على الشاشات العربية والمواقع الصحفية لتعزيز الانقسام الجنوبي  وهدم التصالح والتسامح محاولين بكل ما أوتوا من قوة ثنينا من تحقيق هدفنا المتمثل باستعادة ماسلب منهم ،لانهم يدركوا جيدا أن دورهم انتهى ولا يكون لهم أي قيمة في المستقبل الآت .

عندما ذهبت إلى تلكم القرية وقتئذ كنت في التاسعة من عمري، ورأيت هناك الكثير من المناضلين والهاربين الذين صدرت بهم أحكام من قبل سلطات الإحتلال ، فقلت في نفسي لماذا كل هؤلاء هنا؟ ،،وشعرت بشيء من الإحراج لان والدي كان أحد المطلوبين وهو يقيم هناك فهل يشكلون عبئا على الأهالي كون أمكانياتهم ضعيفة ؟،، حاولت أن أقنع نفسي وقلت لعل والدي يشرب من بئر أمه هناك لأخفف عن نفسي  قليلا من الحرج، ولكن عاد إلى خلدي استفهام آخر، هل كل أولئك المناضلون الذين يقيمون في بني سعيد جميعهم لديهم أخوال في تلك القرية وعلى رأسهم قائد الحركة المسلحة  الذي كان ليلتئذ هناك عندما حللتُ على القرية،  ولقد كنت طفلا فضوليا فهمست بأذن جدي وقلت : لماذا كل هؤلاء المسلحين هنا ،ألا يشكلون عبئا كبيرا على هذه القرية الصغيرة ؟ .. رد عليَّ جدي بفخر:  "بني سعيد ملاذ الثوار وعرين الأسود".

بالعودة إلى سيرة القائد ابا جساس، فانا أعرفه عن قرب فهو شخص شهم، وفذ،وقائدا عسكريا لا يشق له غبار، رجل يقدم لغيره كل مايملك ولا يخشَ ان يكون ذلك  من قوت أطفاله ،كل همه كيف يفرج كربة أحد ما ، فلم أجد بحياتي من هو أكرم منه، فكل تلك الصفات لا يتصف بها إلا القادة الشجعان، الذين يضحون بحياتهم في نهاية المطاف من أجل يعيش الناس بكرامة.

اتذكر في الحرب الآخيرة التي كانت فيها المشاركة كبيرة في الدفاع عن مدينة الضالع، وعندما كانت المعركة على أشدها كنت أخشى أن نفقد الكثير من الشهداء لان الشباب متحمسون جدا وكأنهم يذهبون إلى الموت لعدم خبرتهم العسكرية بالحرب، ولكن  عندما علمنا أن ابا جساس والشجاع وعدد من القادة العسكريين في المعركة على رأس مجموعات فأطمئن الجميع. 

بعد أن وضعت الحرب أوزارها في المناطق المحررة، تلقى الشهيد دعوة من وزير الدفاع الجنوبي السابق القائد هيثم قاسم فخفق وحن قلبه للماضي الجميل وبشجون ولوعة لبى النداء متذكرا سنوات مجد وعز عندما كان في المؤسسة العسكرية التي كان على رأسها القائد هيثم ،  وكُلف قائدا للكتيبة الأولى ليتوجه إلى الساحل الغربي لمطاردة القوات الحوفاشية السلالية من أجل قطع يدها وللأبد، ولم يدرِ أنه ذاهب للموت، انطلق ممتشقاً سلاحة كالأسد متخطياً دفاعات العدو إلى أن أستشهد، لقد استشهد كغيرة من الشهداء الأبطال الذين اعطوا الجنوب كل شيء دون أن يحصلوا على شيء.
مات سيف ولا شيء على أكتافة سوى شرف الشهادة ورتبته العسكرية  التي كان ليس لها أي قيمة في زمن الإستبداد، ولم ينتظر ليرى كيف تمنح اليوم الرتب والقرارات على نحو هبات لأقارب المسؤولون الكبار باسلوب القبيلة والعشيرة، ولم ينتظر ايضا ليرى كيف ملأوا جيوبهم على عجل وصارت لهم حسابات بنكية ويعيشون في فنادق الرياض على حساب تلكم الدماء الزكية.
رحمة ربي على شهدائنا جميعا وأسكنهم فسيح جنانه.







شارك برأيك