آخر تحديث :الجمعة 29 مارس 2024 - الساعة:05:51:21
في رثاء العميد احمد محمود القيسي
(الامناءنت/بقلم/الدکتور/ماجدعواس)


تأخرت في رثاءك، كنت أرقب صدى موتك أيّها الشيخ الجليل، كنت متوقعًا أنه سيكون موتًا حافلًا بالمعنى، 
كثيرون يرحلون عنّا كل يوم؛ لكن موتك له شكل مختلف يا أبا عمار ، هذا موت أكبر من الحياة، موت صاخب بالمجد، رحيل كاشف لحضورك؛ بأكثر مما هو مغيِّب لجسدك، اختفت صورتك من أمامنا وانبعث مآثرك في أرواحنا، غادر الجسد وتمددت الروح أكثر لتصنع خلودك الأبدي في قلوب الناس.

العميد احمد محمود القيسي : أحد اعمدة  الازارق ، الذين غادروا حياتنا قبل ايام وما تزال عزاءات رحيله تتردد كل لحظة..يتناقل الناس صنائعه في ما بينهم ويوثقون تأريخه في قلوبهم كل يوم. لقد كان رحيلك باعثًا لليتم لدى الناس، خسارة فادحة بمعيار اللحظة؛ لكنه بمعيار التأريخ، كان موتًا مغلفًا بالمكسب والحصاد؛ موتا باعثا للقيمة، قيمتك الخالدة. كان حدثا شبيها بلحظة الميلاد. لكأنك تولد الآن ثانية وأنت في قبرك، هذا رحيل له سلطان لا يحدوه الزمان ولا المكان، يشبه أولئك الذين تختفي أجسادهم وتتناسل أرواحهم كلّ لحظة. 

ليس بيني وبينك علاقة وطيده يا أبتي ؛ لكني أحفظك جيدا، وأفهم ماذا يعني هذا الحزن الواسع في وجوه الناس بعدك، لكأنك كنت غطاء يؤمن حياتهم، ملاذ يخفف وحشتهم، ويطمأنهم أن الحياة ما تزال ممكنة ولم تخلوا بعد من الطيبة والشهامة وروح التضامن الأصيل مع المتعبين..رحلت فشعر الناس كما لو أن حياتهم صارت مكشوفة بعدك. 

أتساءل أحيانا: ماذا يريد الإنسان بعد مماته أكثر من أن يصبح خالدا في أذهان الناس، بعد مماته وأثناء حياته. كان يمكن لهذا الشيخ النبيل، أن يحيا لنفسه فقط، حياة الملوك الكبار، فهو ذو جاه ومنصب ومكانه واسع الحيلة غزير العلاقات ، نسبيا؛ لكنه فضل نوع أخر من الحياة.
كان يدرك جيدا أن الحياة المحصورة بالذات، حياة فقيرة للمعنى، ومهما كنت مرتاحا في معيشتك، ستظل حياتك مفصلة على مقاسك، محدودة في إطار نفسك وعائلتك، غناء في المادة وفقر في النفس، ثراء مؤقت، وفناء مؤكد فيما بعد. كان يدرك ذلك ويدرك ألا شيء يمنحك امتدادا في الحياة ويضاعف من سعادتك سوى حضورك في حياة الأخرين.. هكذا يضاعف العظماء من مجدهم، ويرتفع إحساسهم بالحياة، حين يستثمرون ما يملكون في حياة الناس، وهذا سر ما فعله الرجل الحكيم احمد العربي .
يقولون أن الإنسان يتحرك في الحياة مدفوعا بغريزتين، وكل فعل يقوم به في كامل عمره، تكون الغاية النهائية لهذا الفعل هو تحقيق هاتين الغريزتين: غريزة البقاء، وغريزة الخلود، هما غريزتان متقاربتان وحين يصير بقاءه الشخصي مستحيلا وفقا لناموس الكون، يغدو خلوده بعد الممات عزاء له من وحشة الاندثار والاختفاء الأبدي، هكذا أدرك الرجل سر الحياة وتصرف بذكاء النفوس المتجاوزة لما وراء هذا العالم المحدود
العميد احمد محمود القيسي : الجنرال القادم من قلب الثورة , وبلاد الثوار وقلعة النضال , ازارق الصمود والفداء ,  رجل شامخ الرأس، بلحية كثيبة، وذو شارب كث وساعد عنيد، تأملوا ملامحة جيدا، بسيط وصلب، يشبه اكتوبر كثيراً، وينتمي إليها، يتحرك في الظل منذ  سنوات وينحت فجر وطننا  الجديد، وها هو أخيراً يرحل عنا دون وداع .
القيسي  : بطلا كبير كان يهتف معنا في ساحات الوطن  تجول في ميادين الحرية طويلاً، تحدث مع شبابها وتبادلوا الأحلام ونام مثلنا في الخيمة وفي الهضبة و السهل والجبل ,  وحين رأى بلده يتهاوى في قبضة العصابات، عاد إلى قريته وحمل بندقيته على الكتف ثم حشد حوله الرجال وذهب يذرع كل جبهات الضالع  دفاعاً عن قيم ومبادئ  البلد ..! 
احمد محمود : لا ينتمي إلى حاشد ولا بكيل تلك قبائل أضحت كالهشيم وذرتها الرياح في الصحراء، هو شيخ وعسكري من قبيلة القيسي في الازارق ، وهذه الأخيرة أقل حضورا في موائد الغنيمة؛ لكنها أكثر عنفوانا وشهامة في مائدة الدفاع عن الجنوب ،
مثل هؤلاء القادة يشكلون أخر رتبة شرف في معسكر الخيانة الذي أسلم أمره للعصابات، هؤلاء ولا أحد غيرهم، يستحقون أن تمجدهم الشعوب وتنصب لهم التماثيل، لا لشخوصهم إنما للقيم التي حملوها على أكتافهم وذادوا عليها بشرفهم العسكري، حين نرى أمثال الجنرال القيسي في قلب المعركة نطمئن على مستقبل النضال والحلم الذي ضحى من أجله الشعب طويلاً، لن تنحرف معركة يحمل رأيتها جنرالات الحرية، سننام مبتسمين ونستأمنهم على حلمنا ولن ننسى أن نحملهم على رؤوسنا في ضحى النصر الكبير..
طيب الله ثراك أيها الأب الكبير، يا صديق المساكين، جئت للحياة بروح مثابرة وصنعت مجدك من العدم، أنجزت مهمتك بعزيمة الرجال العظماء، وغادرت مطمئنا وقلبك راضيا عما صنعت، وما هذا الحزن الكبير بعدك سوى شهادة توثق هويتك في ذاكرة الناس، وتنحتك في قلوبهم كواحد من ذوي السير العابرة للزمن، الأرواح التي لا تموت والقلوب العصية على النسيان.
عزائي لأسرته فردا فردا ولكل محبيه، لم يكتف بتأسيس حياة جيدة في حضوره بل صنع أسرة تحمل صفاته، وتشتغل بصمت مثله، وربما ما يميزه أن الكثير ممن لم يحتكوا به، لم يكونوا يعلمون شئيا عن صنائعه، مرة أخرى لا أعرف الفقيد كثيرا؛ لكني أعرف أولاده جيدا، ولا بد أن صورتهم البهية وحضورهم الإنساني النبيل يعكس شخصية أبيهم وصلاحه الكبير.



شارك برأيك