قراءة في السيرة الذاتية للأستاذ / الدكتور جعفر الظفاري

- خاطب أحدهم، ذات مرة، حلة من علماء اليمن قائلاً: أنتم ـ ياعلماء صنعاء ـ وضعتم أنفسكم، بالسكون فيها، في مضيعة، مشيراً بذلك إلى عزلة صنعاء عن حواضر الثقافة العربية الرئيسة، ومراكز الشهرة والذيوع فيها، ولئن قيل ذلك عن صنعاء وهي حاضرة اليمن وقلبه، أي أقرب مافيه إلى تلك الحواضر، والمراكز فكيف بعدن، وهي ثغرة القاصي الذي ظن أنه منتهى الأرض، فقيل: كلا ولكن منتهى اليمن؟!

والمعني بهذه السطور، من أبناء عدن التي ولد فيها تجسيداً لروح اليمن بجل مكوناتها الرئيسة التي صاغته من إب ظفاري، زيدي المذهب، قدم من صهبان في مرتفعات اليمن الوسطى، وأم تهامية، شافعية المذهب، قدم والدها من حيس في سهول اليمن الغربية، إلى عدن، حيث انعقدت حياتهما، وأثمرت: جعفر عبده صالح الظفاري الذي اتصل مقامه فيها طوال سني التشكل الأساس، فتدخلت فيه بكل مافي بيئتها وأحوالها ـ آوانئذٍ ـ من عوامل التأثير الثقافي في ذوي النجابة من ناشئتها، ليعتضد ـ بذلك ـ الموروث والمكتسب، في التهيئة لإعداد أحد أجل علماء اليمن المعاصرين، وأول من جسد في ثقافتها الحديثة معنى «الأكاديمية» ومبناها، نظرياً ونظراً، فيما قال، وماخط ومافعل.

رب معقب: بأن عوامل العزلة التي أشار إليها ابن هطيل ذاك منذ سبعة قرون، لم تكن قائمة في القرن المنصرم كما كانت أيامه، خصوصاً بالنسبة إلى عدن خلال العقدين الأخيرين من استعمارها، حين كانت أكثر مدائن اليمن اتصالاً بالعصر!

بيد أن ذلك الحين ـ من عمر أستاذنا المولود في 1936 ـ يندرج ضمن سني التأسيس والتشكل فقد شاءت السوانح أن يكمل سنوات دراسته الثانوية عام 1956، وأن يأتيه بعيدها نبأ ترشيحه للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت وهو يمارس مع أترابه اللعب بما هو متاح لأبناء الأسر البسيطة الحال مادياً من كادحي عدن وماكان لمثل تلك الفرصة أن تتاح لمثله لولا أن انتزعها انتزاعاً بتفوقه الفذ في تحصيله والذي رافقه طوال سنوات دراسته الجامعية في بيروت حتى ابتعاثه لنيل الماجستير في جامعة لندن، حيث أشرف عليه العلامة المستعرب سارجنت واقترح له موضوع أطروحته ثم أمر بعد الاطلاع على مقدمة الأطروحة ـ أن يرفع بحثه إلى مساق الدكتوراة التي كان ـ فيما نعلم ـ أول حائز عليها من أبناء جزيرة العرب المقيمين فيها وكان موضوع رسالته عربياً يمنياً في غاية من الأصالة واليمنية هو «الشعر الحميني» الذي دفع به على التطواف بين بعض أهم مكتبات العالم، بدءاً بالمتحف البريطاني وجامعة أكسفورد حتى جامع صنعاء الكبير وميلانو، وليدن، ملتهماً من مخطوطاتها كل ماله صلة ولو بعيدة بموضوع رسالته ولعل ذلك البحث والتطواف من أظهر الأسباب التي مكنته من تمثل روح اليمن وتاريخها وثقافتها تمثلاً يخالط منه الدم في مجاري الجسد وهو بالطبع ممسك بناصية اللغة الإنجليزية التي حبر بها تلك الرسالة التي ننتظر استكمال ترجمتها وإعدادها للنشر في كتاب، إلى جانب شمولية ثقافته العربية الإسلامية الموسوعية الضاربة في كيانه شخصيته، فالإسلام جوهر هذا الرجل، العربية كيانه الذي هو قبس من عبقريتها وأشهد أنني تعلمت كثيراً، وأتعلم دائماً من كل ملتقى به ومن كل سطر تخطه يده الكريمة الحرية بالتقبيل.

أعود إلى ذلك المعقب المفترض لأذكر أن عودة الظفاري بالدكتوراه إلى عدن كانت في 1966، أي أن مستهل عهده بالعطاء العملي كان عشية انقضاء عهد الاستعمار في مدينته ومحمياتها لكنها لم تتكامل مع محيطها الطبيعي من كل بلاده لأسباب عديدة ليس هذا مقام التطرف إليها، بل انحازت بها دوافع السياسة الضيقة شيئاً فشيئاً حتى ألقت عليها عزلة أنكى من تلك المشار إليها آنفاً في قول ابن هيطل.

وماكان لرجل تلك صفاته أن يضيق حتى تسعه جماعة محددة أو حزب بعينه، فهو بذاته: وطن ولم يكن المقدم من اهتمامه سوى أن يسخر كل إمكاناته لخدمة هذا البلد الذي نشأه وتلك المدينة التي كانت «أول أرض مس جلده ترابها» وبدهي أن تكون التربية والتعليم همه وشاغله النبيل الذي ارتضى المجاهدة في سبيل القيام بما يمكنه من دور فيه وذلك عند بدء التوسع في نشر التعليم، موطناً نفسه على احتمال ما قد يكره.

وكان ثمة كوى تستثنى في جدار ذلك الزمن أتاحت له المضي في غايته، إلى جانب خصائص ذاتية جداً أظهرها: إخلاص لرسالة وتفان في أدائها، لاتستشف السياسة القائمة منه ضراً، بل نفعاً، وإن لم تكن مقصودة به واعتداد بالنفس وصلابة يمتاز بها

العالم الأصيل الذي «يدري ويدري أنه يدري»؛ مما يفرض احترامه حتى على المستريب أو الشاني. فضلاً عن زهد نادر وسلامة من الآفات، ومن أي ميل لرياح السياسة،مع ميل كلي للبلاد وأهلها الذين لأجلهم تحمل الجوهري والثقيل من أعباء التربية والتعليم من محو الأمية والتعليم الأساس والثانوي حتى إسهامه الحيوي الجليل أول كلية جامعية في البلاد هي كلية التربية العليا التي وضع لوائحها وتولى كثيراً من المهام فيها، إدارة وتدرساً؛ إذ أسندت ـ إليه ـ بالإنابة ـ مهام عمادتها؛فافتتحها بكلمة جديرة بالعودة إليها دائماً للتأمل والاستهداء؛ثم إسهامه الأبرز عند إنشاء جامعة عدن التي قبل النيابة الأكاديمية فيها استجابة للحاجة الملحة إليه في تأسيسها؛ثم تولى ـ فيما بعد ـ مهام رئاستها،تكليفاً أيضاً متحملاً أهم أعباء ذلك التأسيس، ومنصرفاً كعادته عن قشور المناصب التي ارتضى دائماً أن يكون له منها النصب دون اللقب، فنبل الغاية لديه يهون مما في الوسيلة من مكابدة؛ كما إن الإحساس بالرضى الناشئ عن أداء الرسالة ليس يدانيه عنده شيء.

بيد أن ذلك الدور الرسالة الذي اضطلع هذا العالم الجليل بأدائه، فأسدي به أنصع الأيادي على أجيالنا، قد استنفذ من وقته وجهده ماحد من إسهام فكري لانظير له، يدل على ذلك مانجده منشوراً ـ في إعداد من مجلة «الثقافة الجديدة» صادرة في السبعينيات ـ من دراسات في تاريخ اليمن والمجتمع اليمني تروع القارئ بفرادتها إحاطة، ودقة، وعمقاً وجرأة في البسط والتحليل، وجدة في الاستنباط، فضلاً عن أسلوب ظفاري محض كما يدل عليه ذلك بحثه الأخير في «هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة» المقدم ـ منذ أيام ـ في ندوة مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن، الذي يديره الدكتور ويرأس تحرير مجلته منذ إصدار أول أعدادها «عام 1988م» وسماها: مجلة «اليمن»، وفي هذا السياق أتمنى لو يتمكن الأستاذ من إنجاز بعض مما قدجمع مادته من دراسات تنتظر ان يستكملها وأهمها دراسة عن «الشخصية اليمنية» وبعد:

ألست محقاً في قولي عنه أن اليمن يخالطه، حتى لايجد سوى الشعور بأنه ـ بسكونه فيه ـ قد أقام نفسه في مقامها وليس في مضيعة، وإن لم ينل ماهو حقيق به مما لايستهويه أصلاً؟

ألست محقاً إذا جدنى أقول فيه عفو الخاطر، ذات عارض ما:

أبا دارين: لاسحت سحابُ

                    على شانيك،أو كف العتابُ

فمثلك تشمخ الأقوام،إما

                      بدا فيها، ويستعلي التراب

عرفتك ـ مذ عرفتك ـ دون مثل

                     تقربك المغامر والخصاب

كأنك، في سعار الجدب، غيث

                    أو انك إن ألم الخطب، نابُ

فقدرك فوق قدر القوم، راقٍ

                     وفضلك لايساميه شهابُ

أصبت من المحامد، كل فد

                      وحزت الصدر، فيما عنه خابوا

فإن عابوا شمائلك الدراري

                      فما عاب الحيا، إلاّ سرابُ

أرى التاريخ والآداب شخصاً

                     متى ما افتر عن سيماك بابُ

أرى وجه المروءة حين يصفو

                     ويبسم، لايكدره ارتيابُ

أرى مالايراه سوى عليم

                     بمن فتقت به الأرض اليبابُ

أرى «يمناً» تجسد، فهو يمشي

                   على قدمين، يشمله إهابُ

صحيفة "الامناء"

متعلقات
قصة قصيرة.. الأب المكافح والابن الشقي
قصة قصيرة..غزلان وغدر الزمان
قصة قصيرة .. الأميرة الضائعة وبائعة الصوف
الروائي اليمني "حبيب سروري" يفوز بجائزة "كتارا" للرواية العربية في دورتها الخامسة
صدور العدد الأول من صحيفة عدسة ردفان